حقائق... وأكاذيب


أن يناقش مجلس الأمة تقرير لجنة تقصي الحقائق أمر بدهي، وأكثر من صحي في بلد نستطيع أن نقول ان الديموقراطية باتت من تقاليده، ومن ثوابت استمراره، فلا التقرير أنجز كي يدخل الأدراج التي يعلوها الغبار، ولا الحكومة متهربة من المحاسبة وراغبة في التستر على ما حصل والانعتاق من المسؤولية، وهي كبيرة.
ماذا إذن؟ ولماذا الجدل حول عرض التقرير وحضور الحكومة ورأسها؟ بكل بساطة، لأن الخوف قائم من نقاش لا يأتي على المستوى المطلوب، أو من جدل يُغيّب الهدف الحقيقي من التقرير، في حين ان المطلوب نقاش هادئ وبناء لتحقيق ثلاثة أهداف:
1 ـ تحديد المسؤوليات بدقة.
2 ـ تحمل المسؤوليات بجرأة وموضوعية.
3 ـ استخلاص العبر من أجل المستقبل.
ولا يمكن الوصول الى أي هدف من الأهداف المذكورة، اذا لم تكن قاعدة النقاش الأساسية منطلقة من مصلحة البلاد العليا ومصلحة مستقبل أجيالها، وهي ليست تعابير رنانة يتلطى وراءها الغوغائيون الوقحون أو الخائفون الجبناء، بل قناعة داخلية عند النواب وعند رئيس الحكومة وأعضائها وجوهرها ان لا شيء فوق مصلحة الكويت، أي مصلحة تعزيز استقلالها وحرمة كيانها ووحدتها الوطنية وشرعيتها الدستورية وديموقراطيتها التي لا حياد عنها.
لا يعني الحفاظ على المصلحة العليا أن تطمس الحقائق وتغفل المسؤوليات ويصار الى تغطية التقصير، بل ان الحفاظ على هذه المصلحة يجب أن يكون دافعاً نحو الدقة في تحديد المسؤولية وجلاء أسباب التقصير، ووضعه في اطاره الزمني وفي الظروف الموضوعية التي أدت اليه، وفي هذا السياق يتوجب اخراج التقرير ومناقشاته من اطار المبالغات وروح التشفي وأجواء الانتخابات والرغبة في كسب الشارع والأصوات، فالقضية أكبر من رغبة بعض المزايدين في تحقيق ربح انتخابي أو في ضمان مقعد في مجلس الأمة المقبل، والقضية أبعد من كراهية متأصلة لدى البعض تدفعه الى القاء الكلام على عواهنه غير آبه بالنتائج. واذا كان لا بد من وضع المسؤوليات ضمن ظروفها الموضوعية أي وقت الغزو العراقي الغاشم، فان المناقشات يجب أن توضع أيضاً في إطارها الموضوعي، وتأخذ في الاعتبار ان الكويت لا تحتمل اليوم أي طلاق بين المجلس والحكومة، وأي شرخ في وحدتها الوطنية، وأي نقاش حاد غير موضوعي يضعف الجبهة الداخلية. ولا داعي للتذكير ان صدام لا يزال في السلطة ولو من غير مخالب وأن الإرهاب يضرب تارة في البحرين وطوراً في المملكة العربية السعودية على رغم انه معزول، وان عملية السلام في الشرق الأوسط مريضة بوصول أرعن مثل بنيامين نتنياهو الى السلطة في إسرائيل، وأن لدى بعض العرب نزعات صدّامية دفينة تظهر حيناً وتخبو أحياناً لكنها لا تغيب، وان تحصين صورة الدولة والكيان والوحدة الداخلية من هذه المخاطر جميعها أولوية فوق أي اعتبار، ومسؤولية يتشارك فيها مجلس الأمة مع الحكومة بغض النظر عن الخلافات في وجهات النظر وبغض النظر عن تقرير لجنة تقصي الحقائق.
انطلاقاً من النقاش الهادئ البعيد عن الغوغائية والأهداف الانتخابية القصيرة المدى تستطيع الحكومة ان تناقش بقلب مفتوح، وبذهن حاضر ما جاء في التقرير، وتستطيع بالتالي تحمل المسؤوليات وشرح أسباب التقصير أو أسباب العجز عن مواجهة الغزو والكارثة التي حلت بالبلاد. ومثلما لا يجوز للحكومة ان تتنصل من المسؤولية ـ وهي لا تقوم بذلك ـ لا يجوز لها أن تعلن تحملها المسؤولية كلها عن الغزو ونتائجه، وكأنها بذلك تغلق باب النقاش، وتسدل الستار على كل ما حصل مستغلة رغبة البرلمان في توخي المصلحة الوطنية العليا وعدم التعرض لثوابت الشرعية الدستورية والسياسية في البلاد. فحق الديموقراطية وحق المواطنين ان يتم النقاش، وأن يكون علنياً، وأن تحدد المسؤوليات، وأن يتم تحمل المسؤوليات بجرأة ولكن بموضوعية، وألا يأخذ رئيس الحكومة بصدره كل التبعات حماية للآخرين حتى ولو انطلق من شجاعة استثنائية، ومن قدرة كبيرة على تحمل المسؤولية الوطنية أثبتها خلال الغزو وبعده.
صحيح ان النقاش في مجلس الأمة مهم، لكن استخلاص العبر من التقرير ومن محنة الغزو بات بعد ست سنوات أهم بكثير. وإذا كان الحوار الهادئ مطلوباً، فلأن من الضروري أن يفضي الى نتائج وخلاصات وربما قرارات يتعاون المجلس والحكومة على صوغها بعيداً عن التشنجات لضمان عدم تكرار المأساة. ومن المهم أن تنتهي قضية تقصي الحقائق مع انتهاء ولاية المجلس الحالي، ليبدأ المجلس الجديد المقبل مرحلة جديدة، ولتبدأ الحياة السياسية معه متحررة من عوارض الغزو ونتائجه ومسؤولياته. ليس بضرب صفح على فترة سوداء من تاريخ الكويت، بل بالخلاص من عقدتها والتطلع الى المستقبل. لكن بالتأكيد مع إبقائها حية دائماً في الذاكرة، لئلا ننسى فنمر بتجارب أقسى ونضطر ساعتئذ للتقصي عن حقائق جديدة... فلا نجد غير الأكاذيب.