واشنطن ليست قدرنا


نُجمع نحن أهل الكويت على أن لأمننا وبقاء كيان بلدنا أولوية مطلقة، ولا يختلف اثنان على أن الأزمة البشعة التي مررنا بها مطلع هذا العقد صقلت أفكارنا وشذبت توجهاتنا وجعلت من العقلانية نبراساً لنا مثلما كانت الفطرة والحكمة هدياً للأوائل منا. لقد علمتنا تجربتنا الأليمة المعمدة بالدم ومرارة التشريد والأسر أن نعرف حجمنا ونقدر أنفسنا حق قدرها، لا نستهين بها ولا تأخذنا العنجهية، فنحن بلد غني بثرواته صغير بحجمه الجغرافي والسكاني مقارنة مع جيرانه، كنا كذلك وسنبقى غير أن هذا الواقع لم يمنعنا من بناء دولة وتجربة ومن الذود عن حياضنا على مدى تاريخ الغزوات التي استهدفتنا منذ بداية القرن وأبشعها غزو جار السوء الذي لم يتمكن من محو كياننا. ولم يكن ليتيسر ذلك لنا لولا إرادة الله عز وجل ووقفة الشعب متراصاً وراء قيادته الشرعية التي تعاملت مع الكارثة بحنكة وخبرة أدت في النهاية إلى أكبر حشد دولي استطاع إنقاذ الوطن من براثن الغزو.
تظهر تطورات الأوضاع بلا شك أن هواجسنا في محلها وتقديرنا لأطماع جار الشمال ليس مبالغاً فيه، وتتبدى أكثر فأكثر حاجتنا إلى ما قمنا به من اتفاقات أمنية تكفل حماية بلدنا في الحاضر والمستقبل القريب، لكن السؤال: ماذا عن المستقبل؟ ومن هذا السؤال تتفرع أسئلة، بعضها قد لا يُرضي البعض، لكنها تطرح إشكالية أساسية عن الترابط بين المصالح والأخلاق السياسية وإمكان استمراره والظروف التي تحيط به.
ولنكن واضحين، عقدنا اتفاقات وأهمها مع الولايات المتحدة التي سلمناها معظم أوراقنا، لكن لو فكرنا في المسألة بعيداً عن العواطف والشعور بالعرفان لوجدنا أن واشنطن لم ترسل قواتها لحماية شارع فهد السالم ومجمعات السالمية أو النافورة الراقصة أو حتى خوفاً على التجربة الديموقراطية الوحيدة في المنطقة، لقد أرسل الأميركيون قواتهم لتحررينا وحمايتنا لأن مصالحهم الاقتصادية والاستراتيجية حتَّمت عليهم ذلك، ولأن النفط لايزال عصب الحياة، ولنا من أمثلة تخلي الأميركيين عن المبادئ لأجل المصالح نماذج لا تنتهي، تبدأ من أميركا الجنوبية وتصل إلى الشرق الأوسط طبعاً وأفريقيا وعلى امتداد كل القارات، فكيف نأمن والحال كذلك أن نستفيق يوماً فلا نجد أثراً لهم لأنهم وجدوا بدائل عن آبار نفطنا أو لأن استراتيجيتهم تبدلت بتبدل الظروف والسياسات؟ وليس ما نقوله وهماً ولا من نسج الخيال، فدروس التاريخ القريب والبعيد هي المقياس والدليل.
نحن الدول الصغرى قدرنا أن نقلق على مستقبلنا وأن نهجس بالتوازن ونتنبه لغدر الزمان، لذا وجب علينا مراقبة تشكل القوى في العالم والمصالح التي تبتغيها هذه القوى، وأقربها حدثاً استحداث «اليورو» وما يشكله من تطور عالمي استثنائي ليس على صعيد الاقتصاد بل على صعيد السياسة والتكتلات الدولية، وهو ما يجب أن يأخذنا إلى ضرورة توزيع مصالحنا أو بالأحرى خلق مصالح اقتصادية مشتركة طويلة الأمد مع قوى عظمى مختلفة أولها أوروبا، وخلق اهتمام أوروبي بهذه المصالح بطريقة تجعل من الكويت حاجة اقتصادية وليس مجرد شريك أو سائل حماية. وأول الطريق إلى هذا الهدف أن ننوع هذه المصالح فلا تبقى مقتصرة على الاستثمارات النفطية، وهناك أفكار كثيرة يفترض أن تناقش مثل تحويل الكويت إلى مركز مالي دولي على غرار سويسرا، وإنشاء مناطق حرة على مستوى عالمي وتشجيع الشركات العالمية الكبرى على إقامة مشاريع صناعية عالية التقنية لإنتاج سلع مطلوبة في القرن المقبل وذلك عبر إعطاء التسهيلات القانونية والضريبية والاستثمارية لهذه الشركات المتنوعة الجنسية.
ان حيوية الكويت وتطورها وانجازاتها ارتبطت دائماً بقدرة شعبها على توليد الأفكار من النقاشات الحرة والمسؤولة، والآن ونحن على أبواب القرن الحادي والعشرين يجب أن نتأمل في ماضينا ونفكر في مستقبلنا فلا نترك مصيرنا لعاديات الزمان ولا نسمح للاعب واحد أن يحدد اللاعبين وأصول اللعبة والرابح فيها أيضاً.
وعلى قدرتنا على التفكير ووضع أفكارنا موضع التنفيذ يتوقف مصير أجيالنا القادمة ومصير وطننا الذي نريده جميعاً حراً ومستقلاً رغم صغر حجمه وقلة عدد سكانه.
رئيس التحرير