ابتـــزاز وتشــويـــق


قد لا نستطيع استشفاف فكرة جديدة من كلام المسؤول العسكري الأميركي المؤكّد أن صدام قادر على اجتياح الكويت مرة أخرى. والأكيد أن المسؤول نفسه لم يكتشف شيئاً ولم تسجل باسمه براءة اختراع حين قال ان الزعيم العراقي «غير عقلاني». فكلنا نعرف انه لا يغيب عن ذهن صدام هاجس الغزو مجدداً واستعادة «المحافظة التاسعة عشرة» لتحقيق حلم العروبيين في الوحدة وتدمير الكيانات التي يتهمون الاستعمار بصنعها. ولا يغيب عنا ان صدام لن ينسى طالما هو حي أمرين: اولهما طرده من الكويت بمهانة وإذلال في العام 1991. وثانيهما ترسيم الحدود من قبل الأمم المتحدة، وهو ورقة ضغط استعملها صدام مثلما استعملها أسلافه في العراق وتم سحبها من التداول في شكل نهائي.وبالطبع لا يشكك احد في ثقة المسؤول الاميركي بقدرة القوات الاميركية على دحر الغزاة وردهم على اعقابهم.
ومثلما ان كلام المسؤول الذي اكده البنتاغون يجب الا يدعونا الى الجزع والرعب، فإن هذا الكلام يفترض ألاّ يؤخذ بخفة ولا باستهتار، فالكويت تعلم انها دولة صغيرة في حاجة الى حماية بالقدر نفسه الذي تدرك فيه انها دولة قادرة على ترتيب الحماية. من هنا واجب التفريق بين بشائر الخطر لو كان هناك خطر، وبين محاولة الابتزاز لو ثبت ان هناك تلويحاً به، ومن هنا واجب التنبه الى كل الاحتمالات.
لا شيء مدهشاً في الكلام الاميركي المسؤول الا نقص المسؤولية في اطلاقه كونه يقع على الارجح خارج التوقيت الملائم ولا يستند الى تحليل دقيق للمعلومات، وكأنه يشبه تصريحات المعارضة العراقية التي تتوقع كل يوم بعد يوم انقلابا داخلياً او غزواً خارجياً او تصديراً للأزمة العراقية الداخلية، وهي بالطبع آمال ملونة بالأحلام، بل هي غالباً أحلام ممزوجة بالأوهام. لكن السؤال يبقى: لماذا هذا الكلام الآن؟
في الواقع، لسنا في حاجة الى تخويف لنا يمارسه المسؤول الاميركي، بل المصدر العليم، الرافض كشف اسمه إمعاناً في الدقة والالتباس في آن واحد. ولسنا في حاجة الى تأكيدات مصدر آخر في البنتاغون ثم الى دفق التصريحات المعلنة، حتى نعلم ان صدام لا يزال يفكر في غزو الكويت وانه طاغية تعوزه الحكمة. ولم نكن في حاجة الى هذا الأسلوب، الذي ينعكس سلباً على استقرار الكويت واقتصادها حتى ندرك ان الولايات المتحدة ملتزمة الدفاع عن امننا وحدودنا، وهو امر يفترض ان يكون بديهياً. فبيننا وبينها معاهدات واتفاقات والتزامات مشتركة، لا نفع لها ان لم تكن واشنطن جاهزة لردع العدوان لو تكرر.
أتفه ما يمكن تصوره ان تكون التصريحات، تلك التي صدرت عن مسؤول او مصدر أو ناطق باسم الخارجية أو البيت الأبيض، تقع كلها في اطار الهوس الاميركي بالإثارة والتشويق، وهذا يطمئن حكومة الكويت وأهل الكويت، حتى ولو كان الأسلوب سخيفاً وسمجاً ومتسبباً بأضرار شتى. وأسوأ ما يمكن تصوره ان تكون وراء تصريحات التخويف وتصريحات الطمأنة المضادة طلبات معينة تواجه بتلكؤ، أو تأخر في تنفيذ بعض الرغبات أو تسديد بعض الدفعات، وعندها لا حول ولا قوة، وعلى الكويت الاختيار بين الابتزاز المكلف والصفقات المكلفة... وبين التصورين فإن الكويت تفضل بالتأكيد قليلاً من الإثارة والتشويق، وتفضل حتماً بعض المسؤولية في الكلام بدل سيل تصريحات يسرِّبه مصدر ويتبناه مسؤول.
رئيس التحرير