أخي في العراق ... نعم أخطأنا


اخي في العراق لك علينا - كاعلاميين - اعتذار كبير، فقد لحقنا بعد سقوط بغداد اغراء الحدث الصاخب مفتونين بضجيجه، واهملنا فضائل الاحداث الهادئة التي رأينا انها مهمة انما ليس الى الدرجة التي تجعلها تنافس التفجير والتفخيخ والقتل والارهاب.
ارسلنا جيوشنا الاعلامية مدججة بالكاميرات والكمبيوتر والاقلام والاوراق، تمترسنا خلف الجيش الاميركي في مرحلة الاحتلال، ثم نصبنا خيمنا على خطوط العنف (بعد فرار القيادة العراقية السابقة بسرعة البرق) لنصور زجاجة مولوتوف هنا وصاروخا بدائيا هناك، وعمليات انتحارية بالجملة والمفرق ضد عسكريين ومدنيين وابرياء، وحوادث خطف الاجانب والعرب، واعمال العنف الطائفية والمذهبية، وخلافات الفصائل وانهيار سفارات... صار الخبر في العراق متساويا تقريبا كل يوم فيما تفاصيله تختلف عن سابقاتها بعدد القتلى والجرحى وبمكان الجريمة.
وما سبق شكل جزءا اساسيا من عملنا يستحيل ألا نتعاطى معه بالحجم المطلوب، ويستحيل الا نواكبه خطوة خطوة والا وجدنا انفسنا خارج السباق، فالقارئ او المشاهد تتجه عينه - بالفطرة - الى مكمن الحدث ويتجه تفكيره فورا الى مناطق التحليل والاستنتاج ويصبح - مثلنا - اسير الصوت المدوي والصورة البائسة.
ولكن لا بد من الاعتذار، ففي العراق عهد جديد خطفته سيوف الارهاب وخطفتنا معه. لم نفرد صفحات مطولة لثورة الحريات الاعلامية التي تبدت في هذا الكم من الصحف والمحطات الاذاعية والتلفزيونية العراقية بعدما عاش العراق لقرون اسير الصوت الاعلامي الواحد وصورة القائد الاوحد.
توقفنا مطولا عند ارهاب يجتاح الطفولة البريئة لكننا لم نتوقف الا عرضا عند عشرات آلاف الاطفال الذين باتوا يتمتعون بعناية تربوية افضل في ظل سعي متواصل لتعديل المناهج السوداء بأخرى بيضاء. لم نسأل طفلا، يبدأ نهاره بصورة «القائد» على كراسته وكتبه ويتلقى تعاليم «البعث» كمقرر مقدس، عن رأيه في النهل طبيعيا من منهج تربوي خالص لا صور فيه ولا مواد سوى تلك المتعلقة بالعلم. لم نصور اعادة تأهيل واعمار 80 في المئة من مدارس العراق (33 الف مدرسة) بين يونيو 2003 وسبتمبر 2006 ولم نواكب بناء 4000 مدرسة جديدة واستحداث 23 كلية وقسما علميا وانسانيا خلال السنوات الاخيرة في الجامعات التي ارتفع عددها من 12 الى 25. وبالطبع لم نجر تحقيقا عن البدء في انشاء 150 مركزا صحيا و8 مستشفيات كبيرة ولم يبهرنا التقدم السريع في شبكات الاتصالات والانترنت... وكأننا نسينا انها كانت ممنوعة في العهد السابق.
توقفنا مطولا عند سيف فوق رقبة رهينة اجنبي ولم نتوقف بالقدر نفسه عند التحسينات التي طرأت على حال الادارات عموما. لم نفتح الهواء لمواكبة عودة الصناعة النفطية الى صباها وزيادة الانتاج والمداخيل بعدما كان هذا القطاع اسير العقوبات الدولية، ولم نرسل مراسلين لمواكبة زيادة حجم العمالة في اكثر من منطقة وتحسن القيمة الشرائية والمداخيل. يكفي ان نقول ان تقارير المنظمات الدولية الانسانية قلصت عدد العراقيين الذين يعيشون تحت خط الفقر من 5 ملايين ايام حكم البعث الى 2.7 مليون خلال عامين فقط، وان معدل الدخل الشهري لصغار الموظفين كان يتراوح ما بين 2 الى 5 دولارات فأصبح الآن ما بين 100 الى 250 دولاراً شهريا.
توقفنا ونتوقف يوميا عند انتحاري في سوق او امام مراكز المتطوعين، ولم نجر التحقيقات اللازمة لمعرفة كيف تتشكل القوى العسكرية والامنية العراقية من جيش وشرطة ووحدات خاصة وما هي التدريبات التي تلقوها والمعدات التي تصلها والعقيدة العسكرية التي تظلل ذلك كله وهي العقيدة التي تحولت من تبرير العدوان الى تحريمه.
توقفنا طويلا عند العنف الطائفي ولم تمر الانتخابات الحرة التعددية في وسائلنا ومؤسساتنا الا بالقدر الزمني لانعقادها، لنعود الى متابعة الخطف والتفجير سريعا. فالانتقال السياسي في العراق يستحق اكثر من وقفة «انتخابية» او «دستورية» خصوصا اذا ما قيست بما سبقها... لكننا للاسف الشديد ركضنا بحماسة وراء محاولات تخريب التجربة السياسية لرصدها والاضاءة عليها.
اخي في العراق، خطف الارهاب الحدث وتحولنا الى رهائن معه، وخطفت الادارة الاميركية شعاراتها السابقة وافرجت عن شعارات جديدة ساهمت في ربط الحدث العراقي بالحرب العالمية على الارهاب... وتحولنا ايضا الى رهائن معها، اضطررنا الى ملاحقة الدمار لا الهدم لان صوته الاعلامي اعلى وتغافلنا عن عشرات الامور الايجابية لانها غير مغرية اعلاميا.
اخي في العراق، اعمال القتل والهدم والخطف والارهاب ستبقى ما دامت ارادة الشر موجودة، وتحديات السلام والاستقرار والبناء والتنمية والتحديث والتطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي ستبقى ما دامت ارادة الحياة موجودة، واذا كان التوازن صعبا بالنسبة الى الاعلاميين بين الارادتين فلا يبقى لنا الا الاعتراف بالخطأ او بالعجز وبالتالي الاعتذار... في انتظار الانتصار الذي طال انتظاره.
جاسم بودي