وقفات مع الأدب والأديب الإسلامي (9)


تحدثنا في الحلقة السابقة عن الخاصية الأولى من خصائص الأدب الإسلامي.
الخصيصة الثانية: الإنسانية
يرى بعض الناس ان الادب ينسب الى اللغة لا إلى الدين، وهذه الرؤية قد تكون صحيحة إلى حد ما، ولكن الأصح ان ينسب الادب الى المفهوم الذي يصدر عنه، فالادب الذي يكتبه كاتب ماركسي غير الذي يكتبه كاتب وجودي، فكل منهما له مفهومه الخاص للحياة والكون والواقع وما وراء الواقع، حتى وان بدا ان هناك قواسم مشتركة بين كل منهما، فالتمايز في الرؤية والتعبير موجود لامحالة، والأمر ذاته ينطبق على من يكتب بمفهوم اسلامي، ومن يكتب بمفهوم غير اسلامي، ومشكلة بعض الناس في العالم الاسلامي انهم ينظرون الى الأدب بمفهوم مغاير لمفاهيم الاسلام، بل يضيفون صفة التعصب الى المنادين به، والادب الاسلامي لا يمكن ان يكون طائفيا، او انعزاليا، أو عنصريا لاسباب موضوعية وواقعية في آن واحد.
لقد جاء الاسلام ليكون عالميا وانسانيا يمقت الطائفية بمعطياتها السلبية، ويرفض العنصرية بأشكالها المتعددة ومدلولاتها البغيضة، وفي الوقت ذاته دعا الى التفتح، والتمس الحكمة لدى الآخر: أيا كان الآخر وحيثما كان، ولو كان في الصين أبعد نقطة بالنسبة للمسلم في بداية عصر الاسلام.
وفي العالم العربي والإسلامي لا يمكن ان يكون الاسلام طائفيا، ويستحيل ان يكون المسلمون طائفة أو جالية، فهم الأغلبية الساحقة التي من حقها ان تعبر عن نفسها ومعتقداتها دون ان تجد حرجا أو غضاضة، ثم ان الاقليات غير المسلمة تجد نفسها داخلة تحت عباءة الثقافة الاسلامية الى درجة كبيرة، لانها مظهر الحياة الاجتماعية العامة، وعناصر هذه الثقافة مبثوثة في كيانها ووجدانها بحكم التربية والعلاقات وطبيعة التسامح التي تميز بها الاسلام، وان كان هذا لا يمنع من احتفاظ الاقليات بخصوصياتها الدينية والفكرية.
لقد حارب الاسلام العنصرية منذ بدء الدعوة، وجمع الاسلام بين الابيض والاسود، والعربي والعجمي، والفقير والغني في منظومة عقدية فكرية مدهشة ليس لها نظير مسبوق في التاريخ، واقام أساس المفاضلة بين البشر على ركيزة التقوى (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) [الحجرات/13]. والتقوى مفهوم شامل يتسع لاخلاص القلب لله والخوف منه، وطاعته والعدل واجتناب المظالم والبعد عن العدوان ونصرة المظلوم واحترام الانسان أيا كان، انطلاقا من قوله تعالى (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) [الاسراء/70].
وتكريم بني آدم في الآية يشمل كل بني آدم، المسلم وغير المسلم، العربي وغير العربي، الابيض والملون، القوي والضعيف، القريب والغريب، الغني والفقير، لا تفرقة في الاسلام بين آدمي وآدمي في حفظ الكرامة وصونها، وما أكثر المواقف العملية التي سجلها التاريخ تطبيقا لهذا السلوك في المحيط الاسلامي.
ولا ريب ان الاسلام وهو يدعو الى الحرص على آدمية الانسان، لا يجهل أهمية التفاعل بين بني آدم، واستفادة بعضهم من بعض في شتى المجالات، ويخطئ من يتصور ان الاسلام يدعو إلى العزلة او التقوقع، يقول الحق تبارك وتعالى: (يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله أتقاكم). [الحجرات/13]ّ
وفي هذه الآية الكريمة بيان لأهمية التعارف بين الناس، سواء شعوبا، أو قبائل، أو بلغة العصر: دولا وأوطانا، فالتعارف يتضمن المعرفة والمصالح المتبادلة، والتفاهم المشترك، والوعي بما لدى الآخر، وتحقيق التواصل الانساني في اطار التقوى التي هي مناط التفاضل كما سبقت الاشارة.
ان أدبا يعبر عن القيم الانسانية التي ترفض الطائفية والعنصرية والعزلة لهو أدب يعني كل الناس، وهو أدب انساني، يجد فيه البشر على اختلاف ألوانهم ومشاربهم زادا من الخير، وذخيرة من الأمل، وطاقة من النور، وبالتالي لا يمكن ان يكون أدبا طائفيا أو عنصريا، أو داعيا الى العزلة والتقوقع.
هناك آداب طائفية، وأيضا آداب مذهبية تعبر عن بعض الأقليات والفئات وللأسف فان مضمونها الاناني الذي يصدر عن تعصب طائفي او مذهبي يجعل تأثيرها محدودا، وان كان يمنح من يتوجه اليهم مزيدا من الاشتعال الطائفي وربما العنصري ويدفعهم الى الشقاق مع الأغلبيات، ولم يعد خافيا ان الدول الكبرى الاستعمارية تقف من وراء هذه الآداب الطائفية وتروج لها في أجهزة دعايتها القوية وتمنحها الجوائز المرموقة، ومع ذلك فانه لا يتبقى منها نصوص ذات قيمة انسانية عالية، والحال نفسها تنطبق على الآداب العنصرية التي تمجد القوة وسحق الضعفاء والهيمنة عليهم، واستحلال بلادهم وثرواتهم ثم استعبادهم، وهذه الآداب منتشرة وموجودة في دول الاستعمار القديم والاستعمار الجديد، وتمثل وصمة في جبين الانسانية، خاصة وانها قد انتقلت من مرحلة الطبع على الورق الى التصوير على شاشات السينما والتلفزة وأشرطة الفيديو وشبكات الانترنت.
ان ميزة الادب الاسلامي انه يفتح صدره للانسانية جمعاء، ولا يتعصب لطائفة أو جماعة او جنس او عرق، لان الانسانية من أهم خصائصه، وتقدمه للعالم مصدر هداية واصلاح واخوة وأمل.