إشراقات من الحكم / العلم الحقيقي (2)


تطرقنا في المقال السابق لنظرة ابن عطاء الله للعلم الحقيقي الذي يجب على المسلم السعي لتحصيله، فإذا كان العلم لا يدعو الى العمل، ولا يقرب صاحبه إلى ربه فلا قيمة له، بل يكون وبالاعلى صاحبه، لأن العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل.
وعالم بعلمه لم يعملن * * * معذب من قبل عباد الوثن
فالعلم الحقيقي هو الذي ينير القلب بأنوار التوجه الى الله، ويشرح الصدر بشعاع التقرب من رب العالمين والخشية منه سبحانه وتعالى، يقول ابن عطاء الله: «العلم النافع هو الذي ينبسط في الصر شعاعه، ويكشف عن القلب قناعه» وبذلك يبارك الله له في علمه، ويكشف له عن أمور قد لا تنال بالتحصيل المباشر.
اما ان لم ينر العلم قلب صاحبه فقد يكون ذلك عذابا من الله، فالحسن البصري يقول: «عقوبة العلماء موت القلب، وموت القلب طلب الدنيا بعمل الآخرة، وقد قيل:
عجبت لمبتاع الضلالة بالهدى * * * ومن يشتري دنياه بالدين أعجب
وأعجب من هذا من باع دينه * * * بدنيا سواه فهو من ذين اعجب
ان دور العلماء الحقيقي في الأمة هو ارشادها من الضلال، واخراجها من التيه، فإذا كان حال المنوط بهم هذه المهمة الشريفة حال بئيسة من تكالب على الدنيا وتنافس على موائد السلاطين يستجدون منها الفتات فكيف لهم ان يقوموا بالدور المنوط بهم.
وراعي الشاة يحمي الذئب عنها * * * فكيف إذا الرعاة لها ذئاب!!
ثم يضرب ابن عطاء مثالا لاحدى آفات حملة العلم فيقول: «من رأيته مجيبا عن كل ما سئل، ومعبرا عن كل ما شهد، وذاكرا كل ما علم، فاستدل بذلك على وجود جهله»، فالله تعالى يقول (وما أوتيتم من العلم الا قليلا) فيخشى ان يكون المتصدر للاجابة والوعظ قد اصابته شهوة الحديث التي حذر منها بعض العلماء، فالغزالي يقول: «ان التلذذ بجاه الافادة ومنصب الارشاد اعظم لذة من كل تنعم في الدنيا فمن أجاب شهوته فيه فهو من أبناء الدنيا، ولذلك قال الثوري: فتنة الحديث أشد من فتنة الأهل والمال والولد، وكيف لا تخاف فتنته وقد قيل لسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم (ولولا ان ثبتناك لقد كدت تركن اليهم شيئا قليلا).
وليس كل سائل يستحق الجواب، ولا كل علم يذكر للناس، يقول الامام علي: «حدثوا الناس بما يعقلون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله».