وقفات مع الأدب والأديب الإسلامي (8)


إن للأدب الإسلامي خصائص تميزه عن سائر الآداب، ونحب أن نتحدث - فيما يلي - بشيء من التفصيل عن بعض خصائصه مستفيدين من كتابات الأدباء والكتاب الكبار المعاصرين.
الخصيصة الأولى: العقدية
لعل أهم خصائص الأدب الإسلامي أنه أدب عقدي، لا يصطدم بالثوابت الإسلامية التي جاء بها الكتاب والسنة.
والنصوص الأدبية والنقدية التي تشير إلى ضرورة ارتباط الادب بالعقيدة كثيرة متعددة، وهي تلح على ذلك الحاحاً.
وربما دفع النقاد إلى التشدد في هذا المبدأ ما شاع في الأدب العربي عبر عصوره المختلفة خاصة في العصر الحديث من رموز ومعان تصطدم بالعقيدة الإسلامية، وتتطاول على ثوابت الأمة ومقدساتها بدعاوى التحليل واللاشعور وما إلى ذلك، من حيل تبريرية تتيح للكاتب ان يتحرر من قيود متعددة، أهمها بالطبع العقيدة، كما كثرت في الأدب الحديث الألفاظ والمصطلحات التي تصدم الحس الإسلامي، حيث استخدم بعض الشعراء هذه الألفاظ والمصطلحات في غير ما وضعت له.
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هو: «ما الذي يمكن ان تقدمه العقيدة للأدب؟» خاصة ان العقيدة ذات مبادئ وأصول ثابتة بينما يمور الأدب بالحركة وينفر من القيود والقواعد الثابتة.
ان العقيدة الإسلامية ليست جامدة فهي عقيدة حيوية وخصبة، ولها رؤيتها الكاملة والواضحة لحقائق الوجود، وقد انبثقت منها قديماً عشرات المدارس الفكرية التي أمدت الفكر الإنساني بتنوع هائل من الأفكار والتصورات.
كما أنها تشحذ خيال المسلم وذهنه، وتهيئ نفسه لتصور مشاهد البعث والحساب والمعجزات، وكل هذه الأمور لا تصيب الأدب بالجمود والثبات، ولا تكبل الأديب بالقيود والأغلال، بل تفتح له طاقات من النور والأمل، والتخيل بما تتيحه للأديب من عوالم لم يطلع عليها الا في ظل هذه العقيدة.
لذلك فإن ما يقوله بعض النقاد الغربيين عن الأثر السلبي للعقيدة على الأدب، قول لا يصح بالنسبة للعقيدة الإسلامية التي حررت العقل البشري من الجمود والتقليد، ودعته للتفكير والتأمل والتدبر.
ان العقيدة هي غذاء الروح، وهي حقيقة بدهية في كيان الإنسان، فهي تفسر له وجوده ومصيره، وتجيب عن الأسئلة الغامضة المحيرة التي حيرت الإنسان طويلاً.
والمتأمل في الأدب الإسلامي الذي نشأ في ظلال العقيدة، والتحم بما تطرحه من أفكار وآراء لا يجد فيه اثراً سلبياً، ولا يشعر بقيود من اي نوع على الأديب، بل يشعر باليد الحانية التي تمتد إلى هذا الأديب وتصحبه إلى شاطئ الأمان.
ويتحدث الدكتور وليد قصاب عن الصلة بين الأدب والعقيدة، فيقول: «إن الذي لا شك فيه هو ان الصلة بين الأدب والعقيدة هي صلة قديمة حديثة، ولكنها أجلى ما تكون عليه في الإسلام، إذ لم يعرف دين من الأديان السماوية او مذهب من المذاهب البشرية، علاقة وشيجة بينه وبين الأدب كما عرف ذلك الإسلام، ذلك ان معجزة هذا الدين الكبرى هي معجزة أدبية تمثلت في القرآن الكريم، قمة الروعة البيانية، وذروة الارتقاء الفني التعبيري، وبذلك نبه الإسلام منذ لحظة نزوله الأولى على دور الكلمة في بناء الإنسان والكون، وعلى اثرها في تكوين المشاعر والأحاسيس، وفي صياغة وجدان الناس، وتشكيل الرؤى والتصورات ونشر القيم والأفكار والرسالات.
ولا ينبغي ان يمر المسلم مروراً سريعاً على هذه الواشجة القوية التي اقامها الإسلام بين العقيدة والكلمة في أشكالها المختلفة التي يمكن ان تخرج عليها، ولا ان يغفل عن هذه الدلالة، أولا يتوافر على درسها الدرس الكافي.
لقد مضى الإسلام بعد ذلك في نصيه الأساسيين الكبيرين: القرآن والسنة، يستخدم نماذج مختلفة للكلمة في التعبير عن رسالته، وفي تبليغ دعوته، وإيصال صوته إلى الأفئدة والضمائر والعقول، استخدم القرآن الكريم الموعظة، والمثل، والحكمة والقصة، والمناظرة، والتاريخ، وغير ذلك، وصاغ الكلمة في هذه الأنماط جميعها، وفي كثير غيرها صياغة فنية مؤثرة، لم يرق اليها - ولا يمكن ان يرقى - أي أديب في القديم والحديث.
ثم استحكمت الواشجة بين الأدب والدين أكثر وأكثر في أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لقد كان - عليه السلام - في ذروة سنام القوم فصاحة، وكان كلامه نماذج عليا في التعبير الأدبي الراقي، استعمل أشكالاً كثيرة من التعبير كالمثل، والخطبة، والحكاية، والموعظة المباشرة وغير المباشرة، والرمز والكناية، وأنماطا لا حصر لها من تصريفات القول، وأساليبه المختلفة، وكان - عليه السلام - من الفصاحة والبلاغة بموضع يجعله مهيأ للتعامل مع القرآن الكريم - النص المعجز - تفسيراً وتوضيحاً وتبليغاً، بمستوى فني عال يليق بالمكانة الأدبية البلاغية للكتاب المنزل.
ثم كان الشعر العربي - لا سيما القديم منه - عاملاً أساسياً في اثبات اعجاز القرآن الكريم وفهمه حتى أثرت المقولة المشهورة: «إذا استعصى عليكم شيء من كتاب الله فالتمسوه في الشعر».
وكان وضع النحو والمعاجم وجمع شوارد اللغة، ولملمة أشعار العرب في دواوين ومجاميع ومصنفات لهذه الغاية العقيدية كان ذلك كله من جذوة القرآن وإليه، لحماية السنة الناس من الخطأ، في كتاب الله، والاستعانة على فهمه وضبطه، وكان الاستشهاد باللغة والشعر مما لا يستغني عنه مفسر، ولا محدث، ولا فقيه، ولا قاض، ولا مفت، ولا خطيب، ولا طالب علم.