الدين الشامل والشخصية المتوازنة (9)


ياسر المقداد
لكن هذه الشمولية هي بعد ذلك لا بد مضبوطة بمعيار وميزان، فليس كل مشمولات الشريعة على درجة واحدة، بل أعطى الله كل نوع مقدارا وميزانا لا يجوز ان يتجاوز، فالصلاة لها وزن ومقدار، والجهاد له وزن ومقدار، والخلق الحسن له وزن ومقدار... وهكذا فقد ضبط الله كل هذه الاشياء بميزان، حتى تنسجم محققة توازنا فريدا لا يقل روعة عن روعة الشمول والجماعية في شريعتنا، يقول في ذلك الاستاذ محمد المبارك رحمه الله في كتابه (الفكر الاسلامي الحديث في مواجهة الأفكار الغربية): فلو جعلنا الحياة مئة جزء لوجدنا أن الاسلام خص العبادة منها بأجزاء، وكذلك الانفاق والكسب، والجهاد، والتمتع بالملذات المشروعة لكل منها نصيب محدود، ولو غيرنا هذه النسب فقللنا قيمة الجهاد، وزدنا في نصيب العبادة، وانتقصنا من حظ المال كسبا أو انفاقا، وغالينا في الملذات أو ألغيناها، لخرجنا من ذلك بنظام يخالف في حقيقته وفي روحه نظام الاسلام، وأخللنا بالتوازن الذي أقامه بين قيم الحياة وجوانبها.
ويصف رحمه الله التغيير في هذه النسب فيقول: كتغيير النسب في أجزاء الدواء فقد يؤدي الى افساده، وتغيير صفاته وخصائصه، وربما انقلب الى مادة ضارة أو سامة.
ومن طرق صنع التوازن:
أولا:معرفة الواجب الوقتي أو ما يجب في كل وقت، حتى لا يشغل بغيرها، وقد أسهب ابن القيم رحمه الله في بيانه وذكر نماذج منه، فالأفضل وقت حضور الضيف القيام بحقه، والافضل وقت الاذان اجابة المؤذن. والواجب وقت مداهمة العدو واستباحته المحرمات الجهاد. والواجب وقت درس العلم جمع النفس على تحصيله، والافضل في العشر الأواخر من رمضان الاعتكاف والخلوة والتضرع.
ثانيا: تقديم الأصول على الفروع، والاصول هي ما يتعلق بتوحيد الله جل وعلا، وما يتعلق بصيانة الدين من الحوادث والبدع.
ثالثا: تقديم الفرض العيني على فرض الكفاية، فمن ذلك مثلا ما صح في الحديث ان رجلا استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد، فقال له: أحيّ والداك قال نعم، قال فيهما فجاهد.
رابعا: تقديم الأولى فالاولى من فروض الكفاية، اذ قد يصبح بعضها فرضا عينيا على من اشتغل بها أحيانا، كجماعة تركوا دراستهم الجامعية في الطب بحجة الاشتغال بالدعوة مع كون الحاجة ماسة لما تركوه!
خامسا: تقديم الفرائض على النوافل، ومن ذلك حديث: ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه. فقدم الله في العمل الفرائض على النوافل.
ومن ذلك ان يشتغل أحد بقيام الليل فتفوته الفجر، وبعضهم يشتغل بقيام الليل، ثم يذهب الى عمله مكدودا متعبا فيضر بمصالح الناس، فهذا أتى بالنفل وضيع الواجب (ذكر بعض هذه الضوابط الدكتور القرضاوي في كتابه: فقه الأولويات). والضابط في ذلك كله معرفة الوزن الذي وضعه الشرع لكل عمل، ووضعه في مكانه المناسب.
فالشمول طريق الى التوازن لا بد - لذا عنونت هذه المقالات بالشمول والتوازن لارتباطهما ارتباطا وثيقا، فحيث لا شمول فلا توازن، وحيث لا توازن فلا شمول ايضا، لكن الشمول سابق على التوازن ومقدمة وطريق اليه، وهما أعني الشمول والتوازن صمام الأمان من الانحراف والزيغ والغلو وأمان من الهلاك في واديي الافراط والتفريط.
والله الموفق
إمام في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية
alathr3y@gmail.com
تبين مما سبق في المقالات السابقة ضرورة ان يستلهم المسلم شمولا في شخصيته من شخصية الدين الشمولية الجامعة. وان يكون كالمرآة تعكس ما في الدين من معاني العظمة والروعة.
لكن هذه الشمولية هي بعد ذلك لا بد مضبوطة بمعيار وميزان، فليس كل مشمولات الشريعة على درجة واحدة، بل أعطى الله كل نوع مقدارا وميزانا لا يجوز ان يتجاوز، فالصلاة لها وزن ومقدار، والجهاد له وزن ومقدار، والخلق الحسن له وزن ومقدار... وهكذا فقد ضبط الله كل هذه الاشياء بميزان، حتى تنسجم محققة توازنا فريدا لا يقل روعة عن روعة الشمول والجماعية في شريعتنا، يقول في ذلك الاستاذ محمد المبارك رحمه الله في كتابه (الفكر الاسلامي الحديث في مواجهة الأفكار الغربية): فلو جعلنا الحياة مئة جزء لوجدنا أن الاسلام خص العبادة منها بأجزاء، وكذلك الانفاق والكسب، والجهاد، والتمتع بالملذات المشروعة لكل منها نصيب محدود، ولو غيرنا هذه النسب فقللنا قيمة الجهاد، وزدنا في نصيب العبادة، وانتقصنا من حظ المال كسبا أو انفاقا، وغالينا في الملذات أو ألغيناها، لخرجنا من ذلك بنظام يخالف في حقيقته وفي روحه نظام الاسلام، وأخللنا بالتوازن الذي أقامه بين قيم الحياة وجوانبها.
ويصف رحمه الله التغيير في هذه النسب فيقول: كتغيير النسب في أجزاء الدواء فقد يؤدي الى افساده، وتغيير صفاته وخصائصه، وربما انقلب الى مادة ضارة أو سامة.
ومن طرق صنع التوازن:
أولا:معرفة الواجب الوقتي أو ما يجب في كل وقت، حتى لا يشغل بغيرها، وقد أسهب ابن القيم رحمه الله في بيانه وذكر نماذج منه، فالأفضل وقت حضور الضيف القيام بحقه، والافضل وقت الاذان اجابة المؤذن. والواجب وقت مداهمة العدو واستباحته المحرمات الجهاد. والواجب وقت درس العلم جمع النفس على تحصيله، والافضل في العشر الأواخر من رمضان الاعتكاف والخلوة والتضرع.
ثانيا: تقديم الأصول على الفروع، والاصول هي ما يتعلق بتوحيد الله جل وعلا، وما يتعلق بصيانة الدين من الحوادث والبدع.
ثالثا: تقديم الفرض العيني على فرض الكفاية، فمن ذلك مثلا ما صح في الحديث ان رجلا استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد، فقال له: أحيّ والداك قال نعم، قال فيهما فجاهد.
رابعا: تقديم الأولى فالاولى من فروض الكفاية، اذ قد يصبح بعضها فرضا عينيا على من اشتغل بها أحيانا، كجماعة تركوا دراستهم الجامعية في الطب بحجة الاشتغال بالدعوة مع كون الحاجة ماسة لما تركوه!
خامسا: تقديم الفرائض على النوافل، ومن ذلك حديث: ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه. فقدم الله في العمل الفرائض على النوافل.
ومن ذلك ان يشتغل أحد بقيام الليل فتفوته الفجر، وبعضهم يشتغل بقيام الليل، ثم يذهب الى عمله مكدودا متعبا فيضر بمصالح الناس، فهذا أتى بالنفل وضيع الواجب (ذكر بعض هذه الضوابط الدكتور القرضاوي في كتابه: فقه الأولويات). والضابط في ذلك كله معرفة الوزن الذي وضعه الشرع لكل عمل، ووضعه في مكانه المناسب.
فالشمول طريق الى التوازن لا بد - لذا عنونت هذه المقالات بالشمول والتوازن لارتباطهما ارتباطا وثيقا، فحيث لا شمول فلا توازن، وحيث لا توازن فلا شمول ايضا، لكن الشمول سابق على التوازن ومقدمة وطريق اليه، وهما أعني الشمول والتوازن صمام الأمان من الانحراف والزيغ والغلو وأمان من الهلاك في واديي الافراط والتفريط.
والله الموفق
إمام في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية
alathr3y@gmail.com