الدين الشامل والشخصية المتوازنة (5)


ذكرت في المقال السابق ان سبب نشوء الفرق وظهور الاختلاف في الدين وانحراف الكثير قديما وحديثا هو التصور المقتضب والنظرة الجزئية للشريعة، وكما ذكرنا ان الحكم فرع عن التصور، وهذه نماذج وصور على هذا الانحراف:
فلنأخذ الخوارج مثلا نظروا إلى جانب الخوف - وقد كانوا يعرفون بشدة العبادة والخوف من الله - ولم ينظروا الى جانب الرحمة والرجاء، فكانت النتيجة ان استعظموا امر من ارتكب كبيرة من الكبائر فحكموا بكفره، وكان اول من حكموا بكفره الخليفة الراشدي الرابع علي رضي الله عنه!
ولننظر الى حال المرجئة فلم يكن نظرهم للدين احسن حالا، الى جانب الرحمة والرجاء دون جانب الخوف والوعد والوعيد، فحكموا بانه لا يضر العبد ذنب عمله! وسووا بين افجر الناس ما دام مسلما وافضل رسل الله!
المعتزلة مددوا مساحة النظر العقلي فغلوا حتى جعلوه حاكما على النصوص الشارع الحكيم، فكذبوا كثيرا من النصوص الصريحة لا ان عقولهم هم لم تشهد لصحة ذلك!
المتصوفة نظروا الى جانب الزهد والطمع في الاخرة فحرموا كثيرا من الطيبات، ونظروا الى جانب ما يكون للصالحين من باشرات وكرامات حتى غلوا فزعموا انهم يرون الرسول صلى الله عليه وسلم يقظة يأخذون عنه الدين! حتى صار هم كثير منهم من العبادة انما هو الوصول للكرامة، ومن طريف ما يذكره الامام الغزالي رحمه الله عن نفسه انه قرأ حديث: من اخلص لله اربعين يوما ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه، يقول فجربت ذلك اربعين يوما فلم اجد شيئا فقلت لشيخي فقال: انما فعلت ذلك لاجل الحكمة لا اخلاصا لله. وكذلك اصحاب الكرامة هؤلاء صار كثير منهم يعبد الله طمعا في الكرامة فقط، لذا لا تجد كتابا من كتبهم يخلو من ذكر كرامات فلان وعلان، يقول الجورجاني رحمه الله: هم يريدون الكرامة والله يريد الاستقامة. تلك صور للانحرافات الجماعية، اي التي صارت فرقا وجماعات، وهناك صور من الانحرافات الفردية في التدين نلاحظها كثيرا خاصة في زماننا هذا فمنها مثلا: ان تجد كثيرا من الحريصين على دعوة الغير الى الدين ينسون اهليهم الذين اول ما سيسألون يوم القيامة عنهم، وقد حدثني احد الاخوة عن رجل مجتهد في الدعوة يطوف العالم شرقا وغربا، اولاده منحرفون مدمنو مخدرات، فلما عاتبه الناس في ذلك قال: يسلم ويتوب على يدي كذا وكذا من الناس فلمن اترك هذه الامة، اشتغل باولادي عن هذه الامة! ما اقبحه من عذر... سبحان الله، هذا من اسمج ما سمعت...
وصدق من قال: ان الدعوة تحصد الشوك من اناس قليلي الفقه، كثيري النشاط، ينطلقون بعقولهم الكليلة ولا يحسنون.
يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: والذي يحدث عند بعض الناس ان جزءا من الاسلام يمتد على حساب بقية الاجزاء كما تمتد الاورام الخبيثة على حساب بقية الخلايا فيهلك الجسم كله. بعض المتعبدين حريص على النوافل من صيام وصلاة، وقد يمر به الاسبوع والشهر لا يقرأ صفحة من كتاب الله، فأي تدين هذا!
وذكر الامام الغزالي رحمه الله نماذج على ذلك، نقلها الدكتور القرضاوي في (فقه الاولويات) كمن عنده مال لا يكفي بنفقة الوالدين والحجة معا فربما حج وهو مغرور، وكمن تصيب ثوبه النجاسة، فيغلظ القول على ابويه بسبب ذلك، والحذر من ايذائهما اعظم من الحذر من النجاسة. والامثلة كثيرة على تلك الانحرافات الفردية التي سببها النظرة الجزئية للدين، وقد وضعت جدولا ولله الحمد، ضمنته اعمال اليوم الواحد للمسلم يتحقق فيه جانب الشمول في اقامة الشريعة في نفسه ووفق معيار التوازن في الشريعة، ولو كان هنا متسع لادرجته لكن من اراده من الاخوة القراء فليراسلني على البريد الالكتروني.
والى حلقة جديدة والله الموفق
إمام في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية
alathr3y@gmail.com