قصة قصيرة الرسام

تصغير
تكبير
ساندرا عهد صوفان

كان قلم الرصاص يتحرك بخفة، مرة يرسم مستقيما ومرة ينحني حتى تكوّن الصورة التي ترضي صاحبه، صاحبه الرسام... انتهى من الرسم ونظر إلى ما رسمه قلمه، لوحة بديعة بالفعل... مسك فرشاة التلوين ووضعها في كأس به ماء ثم خلطها مع ألوانه المائية وبعدها بدأ يلون لوحته الجميلة... مرة أخضر... أصفر... أحمر... ألوان كثيرة تتحد مع بعضها فتعطي جمالا خاصا.


ها قد انتهى من تلوينها، قام بسرعة ووضعها على الطاولة لتجف، وأخذ ينظر إلى غرفته... إلى جدرانها الممتلئة بالرسومات واللوحات التي رسمها... كل واحدة تمثل بالنسبة له جزءا مهما من حياته كما لو أنه لا يستطيع العيش من دون أن يرسم، أخذ ينظر إلى رسوماته باشتياق... فغدًا سوف يسافر مع عائلته ويترك تلك اللوحات هنا وحيدة من دون صاحبها، إنه موسم السفر... الجميع فيه يستعدون لقضاء عطلتهم الصيفية ومع أنه كان يكره السفر والغربة إلا أنه يريد أن يرى الحياة في الدول الأخرى.


نظر إلى كأس ذهبي لامع فاز به في إحدى المسابقات لأفضل رسام، ذلك اليوم كان عيدا بالنسبة له، لن ينسى تلك الذكرى أبدا.


نظر إلى الشهادة التي حاز عليها في معهد للرسم والأشغال اليدوية، كانت أيضا ذكرى جميلة... رمى نفسه على الكنبة في استرخاء عميق وأغمض عينيه، يفكر في شيء ما... أو ربما يقرر شيئا ما، وفجأة فتح عينيه كمن كان قد قرر وانتهى وواثق من صحة ما توصل إليه، دخلت عليه أخته فالتفت إليها، فقالت: أردت فقط إخبارك بأن اتصالا لك قد جاء قبل قليل بينما كنت منهمكا في رسم تلك اللوحة وكان المتكلم يريد مقابلتك اليوم في الساعة السادسة مساء على ما أعتقد.


كان ينتظر اسم ذلك الشخص منها ولكنها ظلت تنظر إليه وهي تحاول فهم ما يريد، فقالت:حسنا، أعرف تلك النظرات، تريد أن تعرف من هو المتكلم؟... حسنا... أعتقد أن اسمها...


اسمها؟! إذا هي فتاة، فكر بكل الفتيات اللواتي يعرفهن وفجأة صاحت أخته:آها.... لقد تذكرت... كانت تلك هي ماري.


آه نعم، لقد تذكر الآن، ماري صديقته القديمة منذ الصغر، قالت شقيقته وهي تخرج: أنصحك بأن تزيل بعض اللوحات عن جدران غرفتك فهي كثيرة...


قال بعد أن أغلقت الباب:هراء! لوحاتي قصة حياتي، لوحاتي أجمل من تلك الصور السخيفة التي تضعونها على الجدران...


في صباح اليوم التالي، استيقظ على يد شقيقته توقظه وهي تقول له:سنتأخر عن موعد إقلاع الطائرة، أخذ نفسا عميقا، نظر حوله... كل شيء بخير... ومن ثم نظر إلى ساعته، الثامنة والنصف تقريبا، نهض من فراشه، كان عليه أن يجهز بسرعة ليلحق بالطائرة، لكنه اتجه إلى غرفة والده ووالدته وقال لهما:إنني من الآن... أعلن أنني لن أذهب... يمكنكم إلغاء سفري، لقد فكرت مليا بالأمر وهذا هو قراري الأخير. صدم الجميع عندما سمعوه وفتح الأب فاه يريد الكلام لكن ابنه أوقفه بإشارة من يده تفيد أنه لا يريد نقاشا.


جلس أمام نافذته وكوب القهوة في يده، سمع صوت الباب يغلق وعرف أن أسرته قد رحلت، جلس هناك وأخذ ينظر إلى الخارج، كان يريد أن يبقى هنا مع لوحاته ورسوماته فقد أصبح رجلا عاقلا ويستطيع تدبر أموره بنفسه، تأكد من أن حياته لا تنتمي إلا إلى هنا... إلى حيث يحب، المكان الذي لا يستطيع تركه...


ارتشف من فنجان القهوة وفجأة تذكر أن عليه أن يفعل شيئا لم تسعفه ذاكرته فيه، نسي موعد ماري!


فتح الخزانة وأخرج ربطة عنق بسرعة ولفها حول رقبته وذلك بعد أن غير ملابسه... كان مستعجلا جدا، لابد أنها غاضبة منه الآن...


طرق الباب وفتحت له سيدة عجوز، سأل عن ماري وتبين له أنها قد سافرت والبارحة كان آخر يوم لها وكانت تتمنى وجوده معها. ضرب بقدمه الحصى الذي أمامه بغضب وهو يمشي في أحد الشوارع العامة، غاضبا من نفسه... من نسيانه للموعد، قرر أن يتصل بها لاحقا.


وقف فجأة أمام منظر لم يره في حياته، كان هناك محل صغير يبيع الحاجيات الصغيرة وبقربه كانت هناك أشجار كبيرة وكثيفة وشجيرات تقف بجانبها تتوسطها الشمس بنورها وأشعتها الذهبية وخيوطها الصفراء أنارت أوراق الشجر، أسرع إلى المتجر المجاور وطلب ورقة وقلما وشيئا يسند عليه وخرج في الحال ووقف أمام منظره الجميل وبدأ بالرسم... ظل صاحب المتجر يراقبه بغرابة حتى المارة أخذوا ينظرون إليه لكنه لم يكن يعبأ، أنهى رسمته ونظر إليها بإعجاب، سيعلقها في غرفته حتما وسيبدأ بتلوينها على الفور، شكر صاحب المحل على الورقة والقلم ومضى في طريقه إلى البيت.


أسرع بفرشاة التلوين والألوان وبدأ يرسم لوحته كي تنطق بإحساسه وفي المساء عندما أنهاها غمره ارتياح حلّق به بصفاء وسكون... تمدد على سريره، ثم نام.


حلم بأنه يشم رائحة غريبة لا تبعث على الراحة ولكنه عندما استيقظ وجدها موجودة فعلا، قام من فراشه وأخذ معه رسمته التي وضعها على الطاولة، وبدأ يمشي ويشم المكان، كانت تلك الرائحة مألوفة، وجد أنه كلما اقترب من باب المنزل اشتدت الرائحة وعندما وصل إلى هناك فتح الباب ورأى النار أمامه!


أغلق الباب بسرعة وأسند ظهره إليه، وأخذ يتنفس بسرعة، لابد أن حريقا في الشقة المجاورة قد شب وامتد إلى شقته، أدرك أنه في أي وقت ستلتهم النار بابه وتدخل شقته، سمع أصوات صراخ جيرانه..بدأت الحرارة ترتفع... وبدأ العرق يتصبب على جبينه... ذهب إلى الهاتف بسرعة واتصل بفرقة الإطفاء... وفي الحال انكسر الباب ودخلت النار المكان... فزع وتراجع إلى الوراء، أحضر دلوا من الماء وحاول أن يطفئ النار لكنه لم يتمكن... لابد لرجال الإطفاء أن يأتوا بسرعة، هرع بسرعة إلى غرفته فقد كانت النار قد أكلت تقريبا كل شيء، وبدأت تأكل غرفته عندها سمع فرقة الإطفاء ففرح كثيرا... اتجه صوب النافذة وفتحها وبدأ بالاستغاثة، استدار ليجد أن النار بدأت تقترب وعندها سمع صوت رجل من رجال الإطفاء يقول:هيا أسرع بالنزول. التفت إليه الرسام وقال: انتظر قليلا! هل تريد أن تموت؟ قالها رجل الإطفاء، كان يريد أن يجمع لوحاته قبل أن تلتهمها النار وبسرعة أمسك بيد الرجل الإطفائي ونزل معه عبر السلم إلى الأرض، تلفت حوله فوجد جيرانه بخير رغم بعض الناس الذين نقلوا إلى المستشفى جرّاء إصابات... ويتملكهم الخوف والفزع، نظر إلى منزله الذي كان يحترق فبدأت عمليات الإطفاء برش الماء لتخمدها وفي الحال صرخ: لا... لوحاتي!... رسوماتي!... احترقت كلها... أعيدوها إلي، لقد قضيت سنين عمري أرسمها... لا يمكن أن تكون هذه النهاية...


سالت الدموع على خده دون أن يصدر صوتا، نظر إلى لوحته الأخيرة التي حملها معه... لن ينسى ذلك المنظر أبدا، تقدم منه صبي صغير، وقال له: هل أنت خائف مثلي؟ نظر إليه الرسام وقال:على الأقل لم تتحطم آمالك... أما أنا... فقد تحطمت... تكسرت... كليا... كل أحلامي تبخرت وكل لوحاتي ذهبت سدى... إنها كل حياتي... كل الجوائز التي حزت عليها تحطمت... أي رغبة هذه... لم تعد لي الرغبة في الرسم من جديد...


قال وهو يعطيه آخر لوحة كان قد رسمها:خذها... فربما تصبح رساما في المستقبل وترسم لوحات جميلة وتعلقها على جدرانك لتزين بها غرفتك فما أحلى أن تزين غرفتك بما صنعته يداك.


نظر الصبي إليه بعينين بريئتين، صافيتين مشعتين بالأمل وقال: هل فكرت في فائدة دموعك المنهمرة وحزنك الكبير وبكائك المر؟ إن حياتك مازال فيها شعاع أمل صغير، لا يجب أن تقف هنا، بل يجب أن تستمر وتكمل طريقك بل ولتبدأ بداية جديدة ولا تدع لليأس طريقا فهذه ليست نهاية العالم.


نظر إليه بإمعان، وكأن كلمات هذا الصبي قد أعطت مفعولا وتأثيرا في نفسه، شعر بالسعادة، بالأمل... بالتفاؤل والحياة... مسح دموعه ونهض وقال وهو يصافح ذلك الصبي: سأتذكر كلماتك وأتذكرك وسأبدأ مشواري من جديد.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي