في ظل انتشار عدوى «Harlem Shake» و «Gangnam Style» بين شباب «الربيع العربي» كتعبير احتجاجي
الشعب يريد... «ترقيص» النظام !
الاحتجاج الراقص يتحدى الأسلاك الشائكة
«صرقعة» ... أم أسلوب حضاري للتعبير؟
«هارلم شيك» في معهد لغات بتونس
«غانغنام غزة ستايل»
رقصة «حظر ستايل» في بورسعيد المصرية
متظاهرون مصريون مناوئون لحكم جماعة الإخوان يرقصون «هارلم شيك» امام مقر الجماعة الرئيسي
| كتب عبدالعليم الحجار |
في تطور ذي طابع سياسي- اجتماعي (socio-political) مثير للاهتمام، لوحظ أن الحراك على «مسرح» ثورات الربيع العربي بدأ يشهد في الآونة الأخيرة** حضورا بارزا ومتصاعدا لظاهرة إقدام حشود من المتظاهرين الشباب على أداء رقصات استعراضية في الشوارع وفي غيرها من الأماكن العامة إما للتعبير عن الاحتجاج السلمي، أو للسخرية من أداء النظام الحاكم الجديد، أو حتى كنوع من التحدي العلني للتيارات السياسية الأصولية التي تميل إلى تقييد الحريات.
تلك الظاهرة التعبيرية تبلورت واكتسبت زخما ملحوظا ومتزايدا خلال الأشهر الماضية من خلال لجوء حشود من النشطاء السياسيين المغمورين في تونس ومصر وفي غيرهما من دول الربيع العربي إلى تنظيم رقصات جماعية كنوع من التعبير البدني الحر عن مواقفهم السياسية المعارضة مستخدمين في ذلك «حركات» الجسم لمواكبة «الحراك» السياسي- الإجتماعي والتعبير عنه ميدانيا.
ذلك «الحراك» الاحتجاجي الراقص تجسد عمليا على أرض الواقع في ما شهدناه أخيرا من قيام مجموعات من المتظاهرين في مصر وتونس وغزة ولبنان بالتعبير عن آرائهم إزاء المعطيات المحيطة من خلال قيامهم بأداء رقصات أجنبية جامحة نسبيا مثل رقصة «Harlem Shake» «هارلم شيك» ورقصة «Gangnam Style» «غانغنام ستايل» في الشوارع والميادين العامة فضلا عن ابتكار رقصات وأغان فلكلورية وشعبية أخرى (مثلما رأينا في سورية)، وهي الرقصات التي قد تختلف منابعها وأساليبها لكن القاسم المشترك بينها هو إفساح المجال لحركات البدن كي تعبر عن لسان حال المحتجين السياسيين بعد أن عجزت لغة الكلام عن القيام بذلك الدور.
وكغيرها من مظاهر الحراك السياسي-الإجتماعي غير التقليدية، قوبلت الظاهرة الاحتجاجية الراقصة بردود أفعال متباينة من جانب تيارات الطيف السياسي في دول الربيع العربي، إذ يراها المعارضون المنتمون إلى التيار الليبرالي والمدني باعتبارها شكلا راقيا ومتحضرا من أشكال التعبير الثقافي المتنور بينما ينظر اليها المنتمون إلى التيار الديني المتشدد نسبيا باعتبارها «صرقعة» و يعتبرونها من « الظواهر السلبية» غير المقبولة أخلاقيا لكونها تشكل في نظرهم انفلاتا من عقال الاحتشام وعدم مراعاة للآداب العامة.
وبعيدا عن مدى صحة هذا الرأي أو ذاك، يقتضي التوضيح أن تلك الظاهرة ليست سوى واحدة من إفرازات العلاقة التفاعلية الأزلية بين السياسة بمفومها العام وبين أفراد المجتمع، وبتعبير أشمل بين أولئك الذين بيدهم سلطة حاكمة وأولئك الذين يعيشون في ظل تلك السلطة فيلجأون أحيانا إلى أساليب ذات طابع فني تعبيرا عن اعتراضاتهم على ممارسات تلك السلطة التي قد تكون سلطة أخوية أو أبوية أو في مجال العمل وصولا إلى قمة الهرم السلطوي متمثلة في السلطة السياسية على مستوى الدولة.
لكن الأمر المؤكد هو أن الطابع الراقص لهذه الظاهرة لا يقلل بالضرورة من شأن عمقها السياسي- الاجتماعي، بل إنه قد يكسبه قوة خاصة مستقاة من أعماق التاريخ البشري، فالرقص هو عبارة عن حركات تعبيرية بالبدن بل ويتفق علماء الأنثروبولوجي على أن حركات البدن كانت «لغة» التواصل التي استخدمها البشر الأوائل للتعبير عن مشاعرهم وانفعالاتهم.
وفي خضم تطورات تلك الظاهرة التي من المرجح لها أن تتحرك صعودا وهبوطا وفقا لوتيرة حركة أمواج الشباب الساخطين والطامحين الى كسر القيود في شوارع كثير من الدول العربية، فإن أولئك «الراقصين الرافضين» نجحوا نسبيا في أن يفرضوا أسلوبهم على المشهد وقد ينجحوا في تغيير معطياته لصالحهم في نهاية المطاف، إذ ان ما يفعلونه هو أنهم انتقلوا من مرحلة شعار «الشعب... يريد... إسقاط النظام» إلى مرحلة يمكن أن نطلق عليها مجازيا شعار «الشعب... يريد... ترقيص النظام». بل إنه ليس من المستبعد أن يتمكنوا بأسلوبهم هذا في إرغام النظام على أن يجاريهم في «الرقص» من خلال الرضوخ لمطالبهم.
وفي التالي نستعراض بعضا من نماذج تلك الظاهرة.
في أعقاب اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير التي أطاحت ظاهريا بنظام الرئيس السابق حسني مبارك، شهدت مصر انتشارا ملحوظا لظاهرة استخدام الرقص كوسيلة للتعبير السياسي المعارض، ولا سيما من جانب فئة الشباب الذين كانوا قد شكلوا قوة الدفع الرئيسة لإنطلاق ثورة الخامس والعشرين من يناير.
فلقد كان الأمر لافتا عندما لعبت رقصة «هارلم شيك» دور البطولة أمام مقر الإخوان المسلمين بمنطقة المقطم وذلك عندما توجهت مجموعة من الشباب إلى هناك نظمت استعراضا راقصا مساء الخميس 28 فبراير الماضي تعبيرا عن احتجاجها ضد سياسات الجماعة التي تمسك حاليا بزمام السلطة في مصر. وقبل الذهاب إلى المقطم، أطلق منظمو ذلك التجمع الراقص صفحة على موقع فيسبوك لحشد أكبر عدد ممكن من المشاركين، مع التأكيد على ضرورة الالتزام بارتداء ملابس محتشمة تليق بالحدث الاحتجاجي، والابتعاد عن كل أشكال التعري، ورفع لافتات تعبر عن آرائهم المعارضة والرافضة لتحكم مرشد الإخوان المسلمين في قرارات مؤسسة الرئاسة.
وفي تطور مشابه، ألقت الشرطة القبض على أربعة شبان صوروا أنفسهم وهم يرقصون رقصة «هارلم شيك» بالملابس الداخلية في أحد شوارع القاهرة، وجرى إخضاع أولئك الشبان للتحقيق بتهمة ارتكاب فعل فاضح في الطريق العام، لكنهم رفضوا تلك التهمة وأصروا على أنهم أرادوا فقط من خلال ذلك الفعل التعبير عن أرائهم السياسية المعارضة.
واستمرارا للمسلسل الراقص، أثار 4 طلاب في كلية الصيدلة غضب سكان حي العجوزة القاهري بعد أن تجردوا من ملابسهم في أحد الشوارع ثم قاموا بتصوير أنفسهم وهم يعتمرون شعراً نسائياً مستعاراً، لكن المارة الغاضبين حاولوا التعدي بالضرب على أولئك الطلاب باعتبارهم «منحرفين جنسيا»، لكن الطلاب زعموا أن تصرفهم نبع من رغبتهم في التعبير عن استيائهم البالغ ضد الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية الراهنة في مصر.
وصوّر شباب آخرون مقاطع فيديو لأنفسهم وهم يرقصون رقصة «هارلم شيك» أمام الأهرامات، وبدا في ذلك الفيديو احدهم مرتديا سروالا داخليا فقط وربطة عنق حول رقبته وهو ممتطي جملاً.
وفي مدينة بورسعيد، أطلق شباب معارضون أغنية راقصة تسخر من قرار حظر التجوال الذي كان قد فرضه الرئيس محمد مرسي على مدن القناة قبل بضعة أسابيع كما تسخر من أسلوب الرئاسة في التعامل مع أهالي تلك المدن، وهي الأغنية التي أطلقوا عليها «الحظر ستايل»، تيمنا برقصة «غانغنام ستايل» الشهيرة. ويرقص الشباب رقصة خاصة على أنغام تلك الأغنية التي حظيت بانتشار واسع النطاق عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
... والياسمين «الغاضب»
يرقص في تونس
وفي تونس، التي انطلقت منها الشرارة الأولى للربيع العربي، ظهرت دعوات عبر مواقع التواصل الاجتماعي لتنظيم رقصات «هارلم شيك» أمام مقرات حكومية وفي المؤسسات العامة (كالمدارس والمستشفيات والمصانع) في شتى أرجاء العاصمة والمدن الكبرى، وذلك بهدف إظهار الاستياء والتحدي إزاء السياسات الراهنة التي تنتهجها سلطة ما بعد الثورة التونسية التي كان الياسمين شعارا لها.
وجاء أول رد فعل سياسي رسمي على حملة «هارلم شيك» تلك متمثلا في قرار وزارة التربية الوطنية التونسية التي أمرت بفتح تحقيق حول مقطع فيديو نشر على موقع يوتيوب ويظهر فيه شباب مراهقون يؤدون رقصة «هارلم شيك» في داخل إحدى المدارس الثانوية.
وفي السياق ذاته شن سلفيون تونسيون هجوما بالأسلحة البيضاء على معهد بورقيبة للغات الحية في العاصمة واشتبكوا مع طلاب لمنعهم من أداء تلك الرقصة في حرم الكلية تأكيدا على اصرارهم على التمسك بحقهم في حرية التعبير. ولدى وصول المهاجمين السلفيين إلى الحرم الجامعي راح الطلاب الراقصون يرددون باللغة الفرنسية قائلين للدخلاء «ارحلوا...ارحلوا» ثم اندلعت مشاجرات عنيفة بين الطرفين.
لكن الأمر الذي يحمل مغزى ذا دلالة تشير إلى جوهر الاحتقان بين الجانبين انعكس بوضوح في محتوى السجال الكلامي الذي دار بين معسكر «الرافضين للتعبير بالرقص» ومعسكر «الراقصين تعبيرا عن الرفض». فقد قال رجل سلفي مخاطبا الطلاب المشاركين في الرقصة التي يعتبرها ماجنة: «نحن جئنا إلى هنا لننهاكم عن المنكر. الإسرائيليون يقتلون أشقاءنا في فلسطين وانتم ترقصون هنا؟» كما أن طالبة محجبة مؤيدة للسلفيين صفعت زميلة لها ونعتتها بـ «الكافرة» لأنها (المصفوعة) عبرت عن تأييدها لمنظمي الرقصة.
«غانغنام غزة ستايل»
يتحدى الحصار
ولأن غزة خاضعة للحصار الاسرائيلي فإن البُعد السياسي - الاجتماعي يبقى حاضرا بامتياز، لذا فإن شبابها وجدوا في تلك الرقصات وسيلة للتنفيس عن احتقانهم ضد سلطات الاحتلال الاسرائيلية فظهر فريق مكون من 7 شبان وطفلين ليمارسوا أسلوبا استعراضيا جديدا للتعبير عن معاناة أهل قطاع غزة، وذلك بالرقص على إيقاعات «غانغنام ستايل» في مقاطع فيديو بعنوان»غانغام غزة ستايل»، وهي المقاطع التي حققت انتشارا سريعا وواسعا عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
وتركز رقصات فريق «غانغنام غزة ستايل» على روح العزيمة والمقاومة إذ ان الفيديوهات تحكي قصصا حركية على ايقاع الموسيقى والرقص تبين مدى إصرار الشباب على مواصلة الحياة بتحد ومثابرة، وهو ما يتجلى في مشاهد تعبيرية من بينها أن الشباب يفاجؤون لدى وصولهم إلى ملعب كرة قدم بأن القصف الاسرائيلي قد حوله إلى أنقاض، لكنهم يصرون على اللعب على أرضه على الرغم من كل شيء.
ويشتمل أحد مقاطع فيديو «غانغنام غزة ستايل» مشاهد لشباب يتحدون العدوان الإسرائيلي بالرقص الإيقاعي على أنقاض البنايات وفي داخل الأنفاق الممتدة تحت الحدود مع مصر وعلى مقربة من ميناء غزة الدولي ومعبر رفح الحدودي، وكل هذا في إطار يبرز التحدي للحصار المفروض على القطاع.
هل ستتقن الأنظمة الحاكمة لغة «المراقصة»؟
في ظل هذا الانتشار الملحوظ لظاهرة التجاء شريحة الشباب تحديدا إلى التعبير عن مواقفهم السياسية من خلال أداء الرقصات الجماعية في أماكن عامة، من المهم هنا أن نشير إلى أن «المراقصة» لا تتم إلا بين طرفين منسجمين ومتفاهمين. ومعنى هذا هو أن «المراقصة الاجتماعية - السياسية» بمفهومها المجازي لن تكتمل بنجاح إلا إذا نشأ نوع من التجاوب و «التناغم» بين أولئك الشباب من ناحية وبين الأنظمة الحاكمة من ناحية ثانية. لذا، تبرز في هذا الإطار تساؤلات مهمة مثل: «هل سينجح أولئك الشباب الراقصون-الرافضون في ان يفرضوا واقعا جديدا» و «هل سينجحون في تحقيق ما لم تنجح الأساليب الاحتجاجية التقليدية في تحقيقه؟» و «هل ستدرك الأنظمة الحاكمة إزاء ذلك الأسلوب أن الحل الأمثل يكمن في قيامها بـ«مراقصة» أولئك الشباب.... بمعنى أن تتقن التخاطب معهم بلغتهم العصرية؟»، تطورات الأحداث هي وحدها التي ستجيب عن هذه التساؤلات.
في تطور ذي طابع سياسي- اجتماعي (socio-political) مثير للاهتمام، لوحظ أن الحراك على «مسرح» ثورات الربيع العربي بدأ يشهد في الآونة الأخيرة** حضورا بارزا ومتصاعدا لظاهرة إقدام حشود من المتظاهرين الشباب على أداء رقصات استعراضية في الشوارع وفي غيرها من الأماكن العامة إما للتعبير عن الاحتجاج السلمي، أو للسخرية من أداء النظام الحاكم الجديد، أو حتى كنوع من التحدي العلني للتيارات السياسية الأصولية التي تميل إلى تقييد الحريات.
تلك الظاهرة التعبيرية تبلورت واكتسبت زخما ملحوظا ومتزايدا خلال الأشهر الماضية من خلال لجوء حشود من النشطاء السياسيين المغمورين في تونس ومصر وفي غيرهما من دول الربيع العربي إلى تنظيم رقصات جماعية كنوع من التعبير البدني الحر عن مواقفهم السياسية المعارضة مستخدمين في ذلك «حركات» الجسم لمواكبة «الحراك» السياسي- الإجتماعي والتعبير عنه ميدانيا.
ذلك «الحراك» الاحتجاجي الراقص تجسد عمليا على أرض الواقع في ما شهدناه أخيرا من قيام مجموعات من المتظاهرين في مصر وتونس وغزة ولبنان بالتعبير عن آرائهم إزاء المعطيات المحيطة من خلال قيامهم بأداء رقصات أجنبية جامحة نسبيا مثل رقصة «Harlem Shake» «هارلم شيك» ورقصة «Gangnam Style» «غانغنام ستايل» في الشوارع والميادين العامة فضلا عن ابتكار رقصات وأغان فلكلورية وشعبية أخرى (مثلما رأينا في سورية)، وهي الرقصات التي قد تختلف منابعها وأساليبها لكن القاسم المشترك بينها هو إفساح المجال لحركات البدن كي تعبر عن لسان حال المحتجين السياسيين بعد أن عجزت لغة الكلام عن القيام بذلك الدور.
وكغيرها من مظاهر الحراك السياسي-الإجتماعي غير التقليدية، قوبلت الظاهرة الاحتجاجية الراقصة بردود أفعال متباينة من جانب تيارات الطيف السياسي في دول الربيع العربي، إذ يراها المعارضون المنتمون إلى التيار الليبرالي والمدني باعتبارها شكلا راقيا ومتحضرا من أشكال التعبير الثقافي المتنور بينما ينظر اليها المنتمون إلى التيار الديني المتشدد نسبيا باعتبارها «صرقعة» و يعتبرونها من « الظواهر السلبية» غير المقبولة أخلاقيا لكونها تشكل في نظرهم انفلاتا من عقال الاحتشام وعدم مراعاة للآداب العامة.
وبعيدا عن مدى صحة هذا الرأي أو ذاك، يقتضي التوضيح أن تلك الظاهرة ليست سوى واحدة من إفرازات العلاقة التفاعلية الأزلية بين السياسة بمفومها العام وبين أفراد المجتمع، وبتعبير أشمل بين أولئك الذين بيدهم سلطة حاكمة وأولئك الذين يعيشون في ظل تلك السلطة فيلجأون أحيانا إلى أساليب ذات طابع فني تعبيرا عن اعتراضاتهم على ممارسات تلك السلطة التي قد تكون سلطة أخوية أو أبوية أو في مجال العمل وصولا إلى قمة الهرم السلطوي متمثلة في السلطة السياسية على مستوى الدولة.
لكن الأمر المؤكد هو أن الطابع الراقص لهذه الظاهرة لا يقلل بالضرورة من شأن عمقها السياسي- الاجتماعي، بل إنه قد يكسبه قوة خاصة مستقاة من أعماق التاريخ البشري، فالرقص هو عبارة عن حركات تعبيرية بالبدن بل ويتفق علماء الأنثروبولوجي على أن حركات البدن كانت «لغة» التواصل التي استخدمها البشر الأوائل للتعبير عن مشاعرهم وانفعالاتهم.
وفي خضم تطورات تلك الظاهرة التي من المرجح لها أن تتحرك صعودا وهبوطا وفقا لوتيرة حركة أمواج الشباب الساخطين والطامحين الى كسر القيود في شوارع كثير من الدول العربية، فإن أولئك «الراقصين الرافضين» نجحوا نسبيا في أن يفرضوا أسلوبهم على المشهد وقد ينجحوا في تغيير معطياته لصالحهم في نهاية المطاف، إذ ان ما يفعلونه هو أنهم انتقلوا من مرحلة شعار «الشعب... يريد... إسقاط النظام» إلى مرحلة يمكن أن نطلق عليها مجازيا شعار «الشعب... يريد... ترقيص النظام». بل إنه ليس من المستبعد أن يتمكنوا بأسلوبهم هذا في إرغام النظام على أن يجاريهم في «الرقص» من خلال الرضوخ لمطالبهم.
وفي التالي نستعراض بعضا من نماذج تلك الظاهرة.
في أعقاب اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير التي أطاحت ظاهريا بنظام الرئيس السابق حسني مبارك، شهدت مصر انتشارا ملحوظا لظاهرة استخدام الرقص كوسيلة للتعبير السياسي المعارض، ولا سيما من جانب فئة الشباب الذين كانوا قد شكلوا قوة الدفع الرئيسة لإنطلاق ثورة الخامس والعشرين من يناير.
فلقد كان الأمر لافتا عندما لعبت رقصة «هارلم شيك» دور البطولة أمام مقر الإخوان المسلمين بمنطقة المقطم وذلك عندما توجهت مجموعة من الشباب إلى هناك نظمت استعراضا راقصا مساء الخميس 28 فبراير الماضي تعبيرا عن احتجاجها ضد سياسات الجماعة التي تمسك حاليا بزمام السلطة في مصر. وقبل الذهاب إلى المقطم، أطلق منظمو ذلك التجمع الراقص صفحة على موقع فيسبوك لحشد أكبر عدد ممكن من المشاركين، مع التأكيد على ضرورة الالتزام بارتداء ملابس محتشمة تليق بالحدث الاحتجاجي، والابتعاد عن كل أشكال التعري، ورفع لافتات تعبر عن آرائهم المعارضة والرافضة لتحكم مرشد الإخوان المسلمين في قرارات مؤسسة الرئاسة.
وفي تطور مشابه، ألقت الشرطة القبض على أربعة شبان صوروا أنفسهم وهم يرقصون رقصة «هارلم شيك» بالملابس الداخلية في أحد شوارع القاهرة، وجرى إخضاع أولئك الشبان للتحقيق بتهمة ارتكاب فعل فاضح في الطريق العام، لكنهم رفضوا تلك التهمة وأصروا على أنهم أرادوا فقط من خلال ذلك الفعل التعبير عن أرائهم السياسية المعارضة.
واستمرارا للمسلسل الراقص، أثار 4 طلاب في كلية الصيدلة غضب سكان حي العجوزة القاهري بعد أن تجردوا من ملابسهم في أحد الشوارع ثم قاموا بتصوير أنفسهم وهم يعتمرون شعراً نسائياً مستعاراً، لكن المارة الغاضبين حاولوا التعدي بالضرب على أولئك الطلاب باعتبارهم «منحرفين جنسيا»، لكن الطلاب زعموا أن تصرفهم نبع من رغبتهم في التعبير عن استيائهم البالغ ضد الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية الراهنة في مصر.
وصوّر شباب آخرون مقاطع فيديو لأنفسهم وهم يرقصون رقصة «هارلم شيك» أمام الأهرامات، وبدا في ذلك الفيديو احدهم مرتديا سروالا داخليا فقط وربطة عنق حول رقبته وهو ممتطي جملاً.
وفي مدينة بورسعيد، أطلق شباب معارضون أغنية راقصة تسخر من قرار حظر التجوال الذي كان قد فرضه الرئيس محمد مرسي على مدن القناة قبل بضعة أسابيع كما تسخر من أسلوب الرئاسة في التعامل مع أهالي تلك المدن، وهي الأغنية التي أطلقوا عليها «الحظر ستايل»، تيمنا برقصة «غانغنام ستايل» الشهيرة. ويرقص الشباب رقصة خاصة على أنغام تلك الأغنية التي حظيت بانتشار واسع النطاق عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
... والياسمين «الغاضب»
يرقص في تونس
وفي تونس، التي انطلقت منها الشرارة الأولى للربيع العربي، ظهرت دعوات عبر مواقع التواصل الاجتماعي لتنظيم رقصات «هارلم شيك» أمام مقرات حكومية وفي المؤسسات العامة (كالمدارس والمستشفيات والمصانع) في شتى أرجاء العاصمة والمدن الكبرى، وذلك بهدف إظهار الاستياء والتحدي إزاء السياسات الراهنة التي تنتهجها سلطة ما بعد الثورة التونسية التي كان الياسمين شعارا لها.
وجاء أول رد فعل سياسي رسمي على حملة «هارلم شيك» تلك متمثلا في قرار وزارة التربية الوطنية التونسية التي أمرت بفتح تحقيق حول مقطع فيديو نشر على موقع يوتيوب ويظهر فيه شباب مراهقون يؤدون رقصة «هارلم شيك» في داخل إحدى المدارس الثانوية.
وفي السياق ذاته شن سلفيون تونسيون هجوما بالأسلحة البيضاء على معهد بورقيبة للغات الحية في العاصمة واشتبكوا مع طلاب لمنعهم من أداء تلك الرقصة في حرم الكلية تأكيدا على اصرارهم على التمسك بحقهم في حرية التعبير. ولدى وصول المهاجمين السلفيين إلى الحرم الجامعي راح الطلاب الراقصون يرددون باللغة الفرنسية قائلين للدخلاء «ارحلوا...ارحلوا» ثم اندلعت مشاجرات عنيفة بين الطرفين.
لكن الأمر الذي يحمل مغزى ذا دلالة تشير إلى جوهر الاحتقان بين الجانبين انعكس بوضوح في محتوى السجال الكلامي الذي دار بين معسكر «الرافضين للتعبير بالرقص» ومعسكر «الراقصين تعبيرا عن الرفض». فقد قال رجل سلفي مخاطبا الطلاب المشاركين في الرقصة التي يعتبرها ماجنة: «نحن جئنا إلى هنا لننهاكم عن المنكر. الإسرائيليون يقتلون أشقاءنا في فلسطين وانتم ترقصون هنا؟» كما أن طالبة محجبة مؤيدة للسلفيين صفعت زميلة لها ونعتتها بـ «الكافرة» لأنها (المصفوعة) عبرت عن تأييدها لمنظمي الرقصة.
«غانغنام غزة ستايل»
يتحدى الحصار
ولأن غزة خاضعة للحصار الاسرائيلي فإن البُعد السياسي - الاجتماعي يبقى حاضرا بامتياز، لذا فإن شبابها وجدوا في تلك الرقصات وسيلة للتنفيس عن احتقانهم ضد سلطات الاحتلال الاسرائيلية فظهر فريق مكون من 7 شبان وطفلين ليمارسوا أسلوبا استعراضيا جديدا للتعبير عن معاناة أهل قطاع غزة، وذلك بالرقص على إيقاعات «غانغنام ستايل» في مقاطع فيديو بعنوان»غانغام غزة ستايل»، وهي المقاطع التي حققت انتشارا سريعا وواسعا عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
وتركز رقصات فريق «غانغنام غزة ستايل» على روح العزيمة والمقاومة إذ ان الفيديوهات تحكي قصصا حركية على ايقاع الموسيقى والرقص تبين مدى إصرار الشباب على مواصلة الحياة بتحد ومثابرة، وهو ما يتجلى في مشاهد تعبيرية من بينها أن الشباب يفاجؤون لدى وصولهم إلى ملعب كرة قدم بأن القصف الاسرائيلي قد حوله إلى أنقاض، لكنهم يصرون على اللعب على أرضه على الرغم من كل شيء.
ويشتمل أحد مقاطع فيديو «غانغنام غزة ستايل» مشاهد لشباب يتحدون العدوان الإسرائيلي بالرقص الإيقاعي على أنقاض البنايات وفي داخل الأنفاق الممتدة تحت الحدود مع مصر وعلى مقربة من ميناء غزة الدولي ومعبر رفح الحدودي، وكل هذا في إطار يبرز التحدي للحصار المفروض على القطاع.
هل ستتقن الأنظمة الحاكمة لغة «المراقصة»؟
في ظل هذا الانتشار الملحوظ لظاهرة التجاء شريحة الشباب تحديدا إلى التعبير عن مواقفهم السياسية من خلال أداء الرقصات الجماعية في أماكن عامة، من المهم هنا أن نشير إلى أن «المراقصة» لا تتم إلا بين طرفين منسجمين ومتفاهمين. ومعنى هذا هو أن «المراقصة الاجتماعية - السياسية» بمفهومها المجازي لن تكتمل بنجاح إلا إذا نشأ نوع من التجاوب و «التناغم» بين أولئك الشباب من ناحية وبين الأنظمة الحاكمة من ناحية ثانية. لذا، تبرز في هذا الإطار تساؤلات مهمة مثل: «هل سينجح أولئك الشباب الراقصون-الرافضون في ان يفرضوا واقعا جديدا» و «هل سينجحون في تحقيق ما لم تنجح الأساليب الاحتجاجية التقليدية في تحقيقه؟» و «هل ستدرك الأنظمة الحاكمة إزاء ذلك الأسلوب أن الحل الأمثل يكمن في قيامها بـ«مراقصة» أولئك الشباب.... بمعنى أن تتقن التخاطب معهم بلغتهم العصرية؟»، تطورات الأحداث هي وحدها التي ستجيب عن هذه التساؤلات.