رأي / مشكلة الاقتصاد العالمي في الطلب المحلي
| بقلم حيدر توفيق * |
يحتاج الاقتصاد العالمي إلى توفير فرص عمل وأموال لبعض الاقتصادات اليائسة، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال وجود نمو اقتصادي مستدام، ومن الواضح أن تحقيق مثل هذا النمو لا يمكن أن يتمّ إلا من خلال الحد من اعتماد المصانع على الآلات والروبوتات الصناعية لاسيما في الاقتصادات الناشئة في الصين والهند والبرازيل.
ولا يمكن للاقتصاد العالمي أن يتحمّل مواصلة تصدير تلك الروبوتات الصناعية، ومعدات التشغيل الآلية للدول التي تحتاج إلى نمو اقتصادي، كما لا ينبغي له أن يسمح للدول التي تتمتع بمعدلات ادخار عالية بالقيام بذلك، إذ أن اليابان وألمانيا والصين لديها أعلى معدلات ادخار في العالم لكن الطلب المحلي فيها ضعيف، وهي في الوقت نفسه الدولُ الرئيسية المصدرة للروبوتات الصناعية ومعدات التشغيل الآلية، وتتسبب هذه الدول من خلال تصدير هذه الآلات والمعرفة للدّول التي تحتاج إلى تحقيق معدلات نمو عبر توفير فرص عمل، في القضاء على أي أمل في ذلك.
تصوروا فقط ما يمكن أن يحدث إذا تحول قطاع صناعة النسيج والغزل في الهند إلى صناعة مؤتمتة بالكامل، وماذا سيحل بآلاف العمال غير المتعلمين، أو ماذا سيحدث لو تم استبدال المزارعين في الصين بالآلات والماكينات الزراعية الضخمة، نعتقد أن مستوى البطالة المرتفعة في جميع أنحاء العالم يستوجب فرض حظر على المزيد من الاعتماد على الروبوتات الصناعية، وبذلَ الجهود لاستبدال الآلات باليد العاملة، على الأقل خلال السنوات العشرين المقبلة.
أعرف أن هذا الإجراء الجذري سيواجه اعتراضات من الشركات العالمية التي تنتج الروبوتات الصناعية، ولكن الواقع يتطلب التحرك الفوري قبل فوات الأوان، إن الاقتصاد العالمي لا يمكن أن يتحمّل استمرارَ معدلات البطالة في الارتفاع، وانتظار إجراءات التيسير الكمّي لتصحيح المسار.
يواصل السياسيون والمسؤولون في المصارف المركزية التحاورَ والتجادل حول تأثير إجراءات التيسير الكمّي والتهديد المحتمل للتضخم، ولكنهم لا يتحدثون عن ارتفاع معدلات البطالة لاسيما بين الشباب، إن ارتفاع معدلات البطالة حول العالم يعني ارتفاع التضخم لعدة سنوات مقبلة.
ويبدو أن القلق من نتائج أي تخلٍّ مفاجئ عن سياسات التيسير الكمّي المعتمدة، وآثار ذلك على النمو الاقتصادي وعلى توفير الوظائف لا يساور إلا المسؤولين في الاحتياطي الفدرالي الأميركي، و هذا يمثل تطورًا مقلقا ستكون له آثارٌ عالمية، إذ أن التخلي عن إجراءات التيسر الكمّي بسبب التهديد المُحتمل للتضخم في وقت يعاني فيه العالم من معدلات بطالة مرتفعة هو خطأ جسيم، والمركزي الأوروبي هو الجهة الوحيدة التي تدفع باتجاه التخلي عن هذه السياسات، لأنه وكما ذكرت في مقالاتي السابقة يعمل في ظل البنك المركزي الألماني.
وهنا أتساءل لماذا لا نقبل أن نتعايش مع بعض التضخم في سبيل توفير المزيد من الوظائف للشباب اليائس؟
لا أعتقد أن هناك خطأ أو صوابا في التفسيرات المختلفة للبنوك المركزية حول التيسير الكمّي، ولكن الأمر يتعلق فقط بطريقة إدارتهم لسياسات التيسير الكمي، قد يناسب شراء سندات قصيرة الاستحقاق، كتلك التي تستحق في غضون 3 سنوات على سبيل المثال، بعضَ البنوك المركزية مثل البنك المركزي الياباني، ولكنها قد لا تناسب الاحتياطي الفدرالي الأميركي، إن سوق الأسهم في اليابان ليس متطوراً كما هو شأن السوق الأميركي، وقد لا تحتاج الشركات اليابانية إلى الاقتراض بقدر ما تحتاجه الشركات في الولايات المتحدة أو في أوروبا، وتبقى هذه الشركات خائفة من أنّ إطالةُ البنوك المركزية لأمد استحقاق السندات ستجعلها تعاني عندما تبدأ معدلات الفائدة بالارتفاع. لكن معدلات الفائدة تبدأ بالارتفاع مع بداية النمو الاقتصادي أو مع ارتفاع التضخم، وليس من المرجح أن يحصل أي من ذلك في الوقت الحالي.
وبناء عليه فإن القلق من شيء غير موجود في الوقت الحالي يشبه تماماً تجنّب القيام بشيء ما لتفادي تحمّل اللوم في المستقبل.
آمل أن لا تخطر على بال رئيس الاحتياطي الفدرالي الأميريكي بن برنانكي فكرة التخلي المبكر عن إجراءات التيسير الكمّي التي يعتمدها في الوقت الذي تبدأ فيه الولايات المتحدة بسياسة مالية مشددة هذا العام، إذ من المتوقع أن تكون ميزانية هذه السنة ميزانية مضغوطة بشكل لم تعرفه الولايات المتحدة خلال هذا القرن، لست متأكداً ممّا إذا كان الاقتصاد الأميركي قد بلغ مستوى قدرته الحقيقية حتى الآن، ولكنه في الواقع شهد انكماشاً في الربع الرابع من العام الماضي، ولذلك فإن التشدّدَ المالي والحديثَ عن تخفيف سياسات التيسير الكمّي قد تدعو إلى القلق بعض الشيء.
ويكمن خوفي الأكبر في عدم قيام البنك المركزي الأوروبي بمحاولة لإيجاد بعض التوازن في الوقت الذي قد تكون فيه الولايات المتحدة متجهة نحو نمو اقتصادي أضعف هذا العام، يجب على المركزي الأوروبي التأكد من أن عائدات السندات ستبقى فوق معدلات نمو الناتج القومي الإجمالي الإسمي في البلدان التي لديها ديون عالية جداً بالمقارنة مع الناتج المحلي الإجمالي، وسيكون السبيل الوحيد لتحقيق هذا هو الاعتماد على سياسات مالية ميسّرة جداً.
يعيدنا كل ذلك إلى المعضلة التي تواجه نمو الاقتصاد العالمي وهي أنه هناك الكثير من التصنيع في جميع أنحاء العالم يقابله طلب أقل على المعروض، يجب على البلدان التي تتمتع بمعدلات ادخار عالية العملَ بجدية أكبر على تحفيز الطلب المحلي، والاعتمادَ بشكل أقل على الصادرات، يحتاج العالم الآن إلى إعادة التوازن التجاري أكثر من أي وقت مضى، ولا يمكن للاقتصاد الأميركي القيام بهذه المهمة لوحده، لذلك يجب على بعض الدول مثل ألمانيا التشدَّدَ في سياساتها المالية لتحقيق فائض في الميزانية.
لكن من الواضح أن مثل هذه الدول لا تسعى إلى ذلك على المدى الطويل وتبقى الدول الأكثر ضعفاً في منطقة اليورو هي التي تدفع ثمن ما يقوم به الألمان.
إننا في الوقت الحاضر نعيش في عالم يشهد ضعف معدلات الطلب، وارتفاع معدلات الادخار واختلال الميزان التجاري، لكن هذه العوامل لا يمكن أن تستمر لمدة طويلة، إن هذه البلدان التي تعاني من عجز ستكون وعلى المدى الطويل هي الفائزة وستدفع الدول التي تتمتع بمعدلات ادخار عالية الثمن، كما تعلمت اليابان الدرس بطريقة قاسية على مدار السنوات العشرين الماضية.
* نائب الرئيس لإدارة الاصول
في شركة ديمة كابيتال للاستثمار
ولا يمكن للاقتصاد العالمي أن يتحمّل مواصلة تصدير تلك الروبوتات الصناعية، ومعدات التشغيل الآلية للدول التي تحتاج إلى نمو اقتصادي، كما لا ينبغي له أن يسمح للدول التي تتمتع بمعدلات ادخار عالية بالقيام بذلك، إذ أن اليابان وألمانيا والصين لديها أعلى معدلات ادخار في العالم لكن الطلب المحلي فيها ضعيف، وهي في الوقت نفسه الدولُ الرئيسية المصدرة للروبوتات الصناعية ومعدات التشغيل الآلية، وتتسبب هذه الدول من خلال تصدير هذه الآلات والمعرفة للدّول التي تحتاج إلى تحقيق معدلات نمو عبر توفير فرص عمل، في القضاء على أي أمل في ذلك.
تصوروا فقط ما يمكن أن يحدث إذا تحول قطاع صناعة النسيج والغزل في الهند إلى صناعة مؤتمتة بالكامل، وماذا سيحل بآلاف العمال غير المتعلمين، أو ماذا سيحدث لو تم استبدال المزارعين في الصين بالآلات والماكينات الزراعية الضخمة، نعتقد أن مستوى البطالة المرتفعة في جميع أنحاء العالم يستوجب فرض حظر على المزيد من الاعتماد على الروبوتات الصناعية، وبذلَ الجهود لاستبدال الآلات باليد العاملة، على الأقل خلال السنوات العشرين المقبلة.
أعرف أن هذا الإجراء الجذري سيواجه اعتراضات من الشركات العالمية التي تنتج الروبوتات الصناعية، ولكن الواقع يتطلب التحرك الفوري قبل فوات الأوان، إن الاقتصاد العالمي لا يمكن أن يتحمّل استمرارَ معدلات البطالة في الارتفاع، وانتظار إجراءات التيسير الكمّي لتصحيح المسار.
يواصل السياسيون والمسؤولون في المصارف المركزية التحاورَ والتجادل حول تأثير إجراءات التيسير الكمّي والتهديد المحتمل للتضخم، ولكنهم لا يتحدثون عن ارتفاع معدلات البطالة لاسيما بين الشباب، إن ارتفاع معدلات البطالة حول العالم يعني ارتفاع التضخم لعدة سنوات مقبلة.
ويبدو أن القلق من نتائج أي تخلٍّ مفاجئ عن سياسات التيسير الكمّي المعتمدة، وآثار ذلك على النمو الاقتصادي وعلى توفير الوظائف لا يساور إلا المسؤولين في الاحتياطي الفدرالي الأميركي، و هذا يمثل تطورًا مقلقا ستكون له آثارٌ عالمية، إذ أن التخلي عن إجراءات التيسر الكمّي بسبب التهديد المُحتمل للتضخم في وقت يعاني فيه العالم من معدلات بطالة مرتفعة هو خطأ جسيم، والمركزي الأوروبي هو الجهة الوحيدة التي تدفع باتجاه التخلي عن هذه السياسات، لأنه وكما ذكرت في مقالاتي السابقة يعمل في ظل البنك المركزي الألماني.
وهنا أتساءل لماذا لا نقبل أن نتعايش مع بعض التضخم في سبيل توفير المزيد من الوظائف للشباب اليائس؟
لا أعتقد أن هناك خطأ أو صوابا في التفسيرات المختلفة للبنوك المركزية حول التيسير الكمّي، ولكن الأمر يتعلق فقط بطريقة إدارتهم لسياسات التيسير الكمي، قد يناسب شراء سندات قصيرة الاستحقاق، كتلك التي تستحق في غضون 3 سنوات على سبيل المثال، بعضَ البنوك المركزية مثل البنك المركزي الياباني، ولكنها قد لا تناسب الاحتياطي الفدرالي الأميركي، إن سوق الأسهم في اليابان ليس متطوراً كما هو شأن السوق الأميركي، وقد لا تحتاج الشركات اليابانية إلى الاقتراض بقدر ما تحتاجه الشركات في الولايات المتحدة أو في أوروبا، وتبقى هذه الشركات خائفة من أنّ إطالةُ البنوك المركزية لأمد استحقاق السندات ستجعلها تعاني عندما تبدأ معدلات الفائدة بالارتفاع. لكن معدلات الفائدة تبدأ بالارتفاع مع بداية النمو الاقتصادي أو مع ارتفاع التضخم، وليس من المرجح أن يحصل أي من ذلك في الوقت الحالي.
وبناء عليه فإن القلق من شيء غير موجود في الوقت الحالي يشبه تماماً تجنّب القيام بشيء ما لتفادي تحمّل اللوم في المستقبل.
آمل أن لا تخطر على بال رئيس الاحتياطي الفدرالي الأميريكي بن برنانكي فكرة التخلي المبكر عن إجراءات التيسير الكمّي التي يعتمدها في الوقت الذي تبدأ فيه الولايات المتحدة بسياسة مالية مشددة هذا العام، إذ من المتوقع أن تكون ميزانية هذه السنة ميزانية مضغوطة بشكل لم تعرفه الولايات المتحدة خلال هذا القرن، لست متأكداً ممّا إذا كان الاقتصاد الأميركي قد بلغ مستوى قدرته الحقيقية حتى الآن، ولكنه في الواقع شهد انكماشاً في الربع الرابع من العام الماضي، ولذلك فإن التشدّدَ المالي والحديثَ عن تخفيف سياسات التيسير الكمّي قد تدعو إلى القلق بعض الشيء.
ويكمن خوفي الأكبر في عدم قيام البنك المركزي الأوروبي بمحاولة لإيجاد بعض التوازن في الوقت الذي قد تكون فيه الولايات المتحدة متجهة نحو نمو اقتصادي أضعف هذا العام، يجب على المركزي الأوروبي التأكد من أن عائدات السندات ستبقى فوق معدلات نمو الناتج القومي الإجمالي الإسمي في البلدان التي لديها ديون عالية جداً بالمقارنة مع الناتج المحلي الإجمالي، وسيكون السبيل الوحيد لتحقيق هذا هو الاعتماد على سياسات مالية ميسّرة جداً.
يعيدنا كل ذلك إلى المعضلة التي تواجه نمو الاقتصاد العالمي وهي أنه هناك الكثير من التصنيع في جميع أنحاء العالم يقابله طلب أقل على المعروض، يجب على البلدان التي تتمتع بمعدلات ادخار عالية العملَ بجدية أكبر على تحفيز الطلب المحلي، والاعتمادَ بشكل أقل على الصادرات، يحتاج العالم الآن إلى إعادة التوازن التجاري أكثر من أي وقت مضى، ولا يمكن للاقتصاد الأميركي القيام بهذه المهمة لوحده، لذلك يجب على بعض الدول مثل ألمانيا التشدَّدَ في سياساتها المالية لتحقيق فائض في الميزانية.
لكن من الواضح أن مثل هذه الدول لا تسعى إلى ذلك على المدى الطويل وتبقى الدول الأكثر ضعفاً في منطقة اليورو هي التي تدفع ثمن ما يقوم به الألمان.
إننا في الوقت الحاضر نعيش في عالم يشهد ضعف معدلات الطلب، وارتفاع معدلات الادخار واختلال الميزان التجاري، لكن هذه العوامل لا يمكن أن تستمر لمدة طويلة، إن هذه البلدان التي تعاني من عجز ستكون وعلى المدى الطويل هي الفائزة وستدفع الدول التي تتمتع بمعدلات ادخار عالية الثمن، كما تعلمت اليابان الدرس بطريقة قاسية على مدار السنوات العشرين الماضية.
* نائب الرئيس لإدارة الاصول
في شركة ديمة كابيتال للاستثمار