«السلطان الحائر» بين ... السيف والقانون

تصغير
تكبير
نستريح مرة أخرى من الكويت ومشاكلها ونشرككم بموضوع آخر.

يعشق العرب السيف. يربطون أشياء كثيرة به ويتبارون في إطلاق الأسماء عليه. السيف هو أداة الحضور والبقاء والعزة والكرامة والقوة والحكم والسلطة والحرب والنصر والهزيمة والغدر والخيانة والجمال والحب والعشق...

ويعزف العرب على القانون. لا يعشقونه كالسيف ولا يتغنون به ولا يخلدونه في القصائد والنصوص. يقبلونه إذا خدم مصالحهم وحاضرهم ويرفضونه إذا اضطرهم إلى التخلي عن مزايا خاصة من أجل مكتسبات عامة.

هوس العرب بالسيوف لم يكن ميزة خاصة بهم بل اشتركوا بها مع أمم وحضارات كثيرة، مع فارقين أساسيين: الأول أن كمية حضور السيف في التراث العربي لا يعادله ربما اي حضور في اي تراث عالمي، والثاني ان الآخرين تركوا السيف مع سنن التطور إلى القانون والعلم والحداثة فيما بقي العرب اسرى العشق والحنين... لنصله.

السيف عند العرب أقوى من القانون والمعاهدات، فهو «أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب». لماذا يا أبا تمام؟ يجيب: «بيض الصفائح لا سود الصحائف في متونهن جلاء الشك والريب»، فالحسم إذاً للسيف في تبيان الحق من الباطل. حتى العظيم المبدع أبو الطيب المتنبي استخدم بـ «فخر» أسبقية معرفة السيف له على القرطاس والقلم... «الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم». اذ لا يجوز أن يعرف القانون أو الدستور أو المواثيق رجلا عظيما مثل المتنبي حتى ولو كان ملك الكلام وأمير القصيد. المهم أن السيف يعرفه.

وللسيف خصائص مشاعرية عند العرب تنقله من الحديد والصفيح إلى الانسانية، فطرفة بن العبد يقارن بين ظلمين: ذوي القربى ووقع الحسام المهند، وعنترة العبسي يقارن بين لمعان السيوف وثغر حبيبته عبلة وبين ذكراها وبين الرماح التي تنهل منه والدماء المسالة: «فقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي فوددت تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم». واذ لم تخلُ قصيدة لعنترة من ذكر السيف إلا أنه كان السباق في إدخال السيف إلى المجالات المهنية عندما قال: «وسيفي كان في الهيجا طبيبا يداوي رأس من يشكو الصداعا».

وما ينطبق على الماضي ينطبق على الحاضر أيضا وهو حاضر مليء بشعر السيف، فالمبدع سعيد عقل يسبق السيف على الكتب والمجد ايضا عندما يقول: «شام يا ذا السيف لم يغب يا كلام المجد في الكتب»، ويذهب نزار قباني في قصيدة «ميسون» إلى ربطه باليقين: «صدق السيف حاكما وحكيما وحده السيف يا دمشق اليقين». وكم من شاعر ربط بين السيف وبين الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وكم من كاتب اعتبر الراحل ياسر عرفات «سيف الثورة»، وكم من رئيس عربي لم يقتنع بمنصبه كرئيس معتبرا أنه أقل من إمكاناته لذلك يجب أن يكون «سيف القادسية» أو «سيف العرب» مثلا قبل أن يكون رئيسا، أو «سيف الكرامة» أو «سيف أفريقيا» أو «سيف الثغور».

لن نطيل الابحار في بيوت الشعر العربي لرصد عشق العرب للسيف وبالتالي لمنطق القوة، فالعقل ليس من شيم الفحولة والرجولة خصوصا إذا كان السيف هو الدستور والقانون والفخر والعز والكرامة والفرح والظلم والحزن والحب... بل هو الطبيب والمهندس والمحارب والزعيم.

وسط غابة السيوف هذه وغياب المنطق والرصانة والتعقل، عدت إلى المكتبة لاستعيد بعضا من وعي. «عودة الوعي» لتوفيق الحكيم في المقدمة لكنني فضلت مسرحية «السلطان الحائر» التي كتبها الحكيم قبل 54 سنة لأنها الأجدر بالقراءة وتحديدا في هذه الظروف.

القصة معروفة... سلطان من سلاطين المماليك أحب شعبه فأحبه شعبه، قهر المغول وبنى الجسور وشق الطرق وفتح المدارس ووفر فرص العمل لكثيرين وخفض الضرائب. لم ينم وفي المملكة مظلوم ولم يجعل بينه وبين شعبه أي حواجز. وذات يوم تكلم مواطن عنه بسوء وشكك في شرعية حكمه، وبدأ الناس يتناقلون هذا الكلام في دواوينهم ومجالسهم إلى أن وصل الامر للسلطان الذي غضب لكنه جمع مستشاريه ليقرر رد فعله.

كان الوزير من الداعين إلى استخدام القوة وقطع رأس المتكلم ليكون عبرة لمن اعتبر، خصوصا أن الظروف تسمح بذلك كون السلطان في عز شعبيته وكون المسيء من أصول عادية ولا عزوة كبيرة لديه وكون بتر الفتنة في مهدها يعلم الآخرين احترام السلطان وعدم التمادي أو تقليد الإساءة.

التفت السلطان إلى القاضي الذي كان رأيه أن يتم خضوع كل شيء للقضاء والقانون، وأن يتخذ السلطان الخطوات القانونية الكفيلة بإزالة أي مبرر لاي كلام مسيء في المستقبل حتى ولو لم يكن ما قاله المتهم صحيحا، لأن السلطان بذلك سيسن سنة حميدة يقلدها الحكام الذين سيتعاقبون بعده أما إذا أعمل السيف بدل القانون فستكون سنة غير حميدة يتوارثها الآخرون.

ومن أجمل وأروع حوارات المسرحية العبارة التي قالها القاضي وهو يساعد السلطان على حسم خياره: «لك الخيار يا مولاي السلطان... لك أن تجعله للعمل، ولك أن تجعله للزينة... إني معترف بما للسيف من قوة أكيدة، ومن فعل سريع وأثر حاسم، ولكن السيف يعطي الحق للأقوى، ومن يدري غداً من يكون الأقوى؟... فقد يبرز من الأقوياء من ترجح كفته عليك... أما القانون فهو يحمي حقوقك من كلّ عدوان، لأنه لا يعترف بالأقوى...إنه يعترف بالأحق... والآن فما عليك يا مولاي سوى الاختيار: بين السيف الذي يفرضك ولكنه يعرضك، وبين القانون الذي يتحداك ولكنه يحميك».

طبعا اختار السلطان القانون وسار في إجراءاته، ورغم المفاجآت التي اعترت عملية توضيح الصورة وتغير الخطط إلا أنه بقي متمسكا برفض استخدام السيف قائلا لوزيره المخلص المستعد فعلا للموت من أجله: «تلجأ إلى السيف الآن؟ لقد فات الأوان»، مؤكدا انتصار القانون على السيف.

طبعا، لا السلطان المملوكي سن سنة سار عليها من لحقه رغم تحضره، ولا توفيق الحكيم استطاع تدمير غابة السيوف في التراث العربي وفتح الباب لعودة الوعي... لان السيف في غمد العرب أقوى من القانون في عقولهم.

المهم، أتمنى أن أكون نجحت في إبعادكم قليلا عن الديرة ومشاكلها.





جاسم بودي
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي