زين الشامي / ملامح الديكتاتور الجديدة في الحقبة التكنولوجية
30 أكتوبر 2012
12:00 ص
1493
| زين الشامي |
بعد منتصف التسعينات بدأت الماكينة الإعلامية الداخلية وتلك العربية «الصديقة» تقدم الشاب بشار الاسد الى الجمهور السوري بصفته شابا درس في الغرب وتلقى علومه هناك ويحمل رؤى إصلاحية لمجتمع ودولة ونظام كان يحكمها والده حافظ الاسد بالحديد والنار.
هذه الماكينة الإعلامية انطلقت بعد مقتل الاخ الاكبر باسل الاسد في حادث سير على طريق مطار دمشق الدولي عام 1994 ويبدو ان الديكتاتور الاب أعطى الاشارة والضوء الاخضر للوريث الذي كان يدرس طب العيون في احدى جامعات بريطانيا وتم جلبه على وجه السرعة من اجل تهيئته للخلافة، خلافة الاب في رئاسة الجمهورية «العلمانية» التي يحكمها حزب البعث منذ عام 1963 لكنها الجمهورية التي لن تجد بعد ستة اعوام غضاضة في إهانة مفهوم الجمهورية ذاته وذل العلمانية التي يفترض ان تكون نقيضا لكل الأشكال والبنى القبلية والعشائرية والعائلية او المذهبية التي هي اشكال وصيغ متأخرة وسابقة لمرحلة الدولة الوطنية.
تسنى لي ان اقرأ العديد من المقابلات الصحافية التي أجراها رؤساء صحف عربية معروفة، ومنهم مازال على رأس عمله الى اليوم، عن «الشاب العصري والاصلاحي»
الذي تلقى تعليمه في الغرب. كان لا بد لك كسوري يعيش في دولة يحكمها نظام استخباراتي بقبضة من حديد، كان لا بد لك ان تتأثر وربما تعجب بما يقوله هذا الشاب عن محاربة الفساد وبرنامج الاصلاح وبناء دولة حديثة واعطاء فرصة للشباب الذين يشكلون اكثر من ثلثي المجتمع. ليس ذلك فحسب، هذا الشاب -مشروع الرئيس الوريث، كان يتحدث عن الكومبيوتر والإنترنت وثورة الاتصال الحديثة وضرورة مواكبتها.
وحتى قبيل استلامه الرئاسة، كان بشار الاسد يرأس « الجمعية السورية للمعلوماتية» وهي الجمعية التي تعنى بكل ما يتعلق بالإنترنت وايصاله الى المؤسسات الحكومية والأفراد.
أيضاً زوجة بشار الاسد عندما تم اختيارها لتنال شرف او لقب السيدة الاولى «وهو لقب لم تنله الى اليوم حيث يطلق على زوجة حافظ الاسد فقط؟» لم تخلُ من مواصفات وسيرة ذاتية مشابهة، ما عدا أنها لم تكن ابنة رئيس. فهي ابنة «عائلة سورية عريقة تعيش في بريطانية» وهي «تلقت علومها في الغرب وعملت في احد البنوك الدولية وأنيقة وناجحة وتتحدث الانكليزية بطلاقة الانكليز كما لو انها واحدة منهم».
مات حافظ الاسد عام 2000، سمعت الخبر عصر يوم العاشر من يونيو من ذلك العام، تابعت بقية التفاصيل على شاشة التلفزيون السوري الرسمي وانا في دمشق.اختير المذيع «مروان شيخو» ذو الصوت الجهوري والذي كان يقدم برامج دينية ليذيع نبأ «الحدث الجلل». كان ذلك المذيع يتلو الخبر ويبكي مثل الاطفال الصغار الذين فقدوا ابا او اما او عزيزا. بعد اكثر من عشرين عاما رأيت ذات المشهد يتكرر في «جمهورية كوريا الديموقراطية الشعبية» حين مات الرئيس كيم جونغ ايل.
لكن الشيء الابرز الذي رأيته عصر ذلك اليوم في دمشق، وكنت اراه لاول مرة، كان سلسلة من العربات العسكرية المصفحة الحديثة على طول طريق «اتوستراد العدوي» وهو الطريق الذي يربط بين قاعدة للحرس الجمهوري في حي القابون وقلب العاصمة دمشق.
كانت الصدفة وحدها من جعلتني ارى هذه العشرات من المصفحات القتالية التي كانت رشاشاتها تسبقها ويخرج من فوهة كل واحدة منها ضابط برتبة نقيب او رائد، تلك الصدفة هي أني كنت أعيش على مسافة قصيرة من قاعدة الحرس الجمهوري وكان علي ان اركب سيارة نقلني الى عملي وسط دمشق، فيما كان على العربات المصفحة ان تصل الى القصر الجمهوري وبعض المكاتب الحساسة. كان سيناريو التوريث يحتاج الى شيء من عرض العضلات العسكرية ليتم فرضه حتى على بقية افراد الحرس القديم الذين عرفوا بولاء شبه تام لحافظ الاسد. وهذا ما كان، ثم انجز بعد شهر تقريبا حين تم «انتخاب» بشار الاسد رئيسا للجمهورية في السابع عشر من يوليو من العام نفسه.
الشاب بشار الاسد الذي درس في الغرب ويهتم بالكومبيوتر والإنترنت والتكنولوجيا، صار رئيسا، وقبلها كان لا بد من ترقيته نحو خمسة رتب عسكرية ليصبح الفريق بشار الاسد القائد العام للقوات المسلحة. لم نشأ ان نصدق ان هذا الشاب المتعلم في الغرب ويتحدث عن الكومبيوتر ونشره وايصاله لكل بيت والذي سيحارب الفساد ويتصدى للحرس القديم، ان يكون عسكريا او له علاقة بتاريخ والده، حتى اننا رأينا ان البدلة العسكرية التي كان يرتديها كانت فضفاضة عليه بسبب نحولته وطول قامته.
بعد اقل من عام على كلمته الاولى في مجلس الشعب السوري، والتي تحدث فيها عن الرأي والرأي الآخر والعصرنة والتحديث والاصلاح السياسي، بعد اقل من عام من ذلك، تخلى عن استخدام جميع هذه المصطلحات، ثم عمل على اغلاق المنتديات الاجتماعية والسياسة التي ولدت من رحم لحظة إعداده وتجهيزه للرئاسة، لاحقا ادركت الغالبية ان ما تحدث عنه الرئيس كان مجرد كذبا وخداعا، كان بشار الاسد يدرك انه لن يكون مقبولا كرئيس للجمهورية العلمانية كونه ابن الرئيس فقط، كان يجب ان يظهر انه صاحب مشروع تحديثي سيضع حدا لنظام ابيه الاستبدادي، اي يقتل ابيه بالمعنى الرمزي للكلمة ليكون مقبولا لدى شعب يحكمه نظام جمهوري وليس نظاما ملكيا وراثيا.
لم يغلق بشار الاسد المنتديات او ما عرف بربيع دمشق، بل ظهر على حقيقته كابن يحمل عقدة ابيه ويسعى لتجاوزه بعد اكثر من عشرة اعوام من ذلك حين ضحك ملأ شدقيه بمجلس الشعب السوري بعد اولى الضحايا الذين سقطوا في درعا في بداية ثورة شعبية لم تنته الى اليوم.
الرئيس الشاب العصري الذي انتقل الى مرحلة اكثر تقدما من ناحية ولعه ومتابعته للتكنولوجيا، حيث أضاف جهاز الآي باد والآي فون لجملة مقتنياته الخاصة، كشف عن وجه جديد: استعداد للقتل وتدمير المدن السورية فوق ساكينها على ان يقبل حقيقة ساطعة كالشمس ان غالبية عظمى من شعبه لا تريده ولم تعد تحبه بل تتوق للحرية والكرامة والديموقراطية.
قبل بشار الاسد كان مفهومنا وإدراكنا المعرفي والسياسي التاريخي لشخصية الديكتاتور محددا ببضع شخصيات حدثنا عنها التاريخ، كنيرون الذي حرق روما، او ستالين الزعيم الحقيقي المؤسس للاتحاد السوفياتي والذي بنى امبراطوريته بالحديد والنار، او هتلر الذي أسس ألمانية النازية التي ابادت اليهود واتركبت بحقهم «الهولوكست» او موسوليني في ايطاليا الفاشستية او فرانكو في إسبانيا او بينوشيه في تشيلي، او صدام حسين في العراق او حافظ الاسد في سورية ومعمر القذافي في ليبيا. لم نكن قبل هؤلاء على معرفة بدكتاتور يقتل شعبه فيما هو مستمر في متابعة آخر الاغاني على جهاز الآي باد او الكومبيوتر المحمول او يتحدث مع صديقة له عبر الفايسبوك او معجبة عبر خدمة سكايب التي يوفرها الانترنت.
الديكتاتور في القرن الواحد والعشرين، له مواصفات حداثية مرتبطة بالعصر او الحقبة التكنولوجية، مثله تماماً مثل الجيل الشاب الذي يتقن آخر ابتكارات هذه الحقبة، لكنه الجيل الذي انتفض من الاحياء المهمشة، من الجامعات، من البطالة، من الفقر، مطالبا بالحرية والعدالة والديموقراطية والكرامة. الجيل الذي استخدم هاتفه المحمول ليصور ثورته وموته ويرسل كل ذلك الى العالم كله عبر الانترنت.
بعد منتصف التسعينات بدأت الماكينة الإعلامية الداخلية وتلك العربية «الصديقة» تقدم الشاب بشار الاسد الى الجمهور السوري بصفته شابا درس في الغرب وتلقى علومه هناك ويحمل رؤى إصلاحية لمجتمع ودولة ونظام كان يحكمها والده حافظ الاسد بالحديد والنار.
هذه الماكينة الإعلامية انطلقت بعد مقتل الاخ الاكبر باسل الاسد في حادث سير على طريق مطار دمشق الدولي عام 1994 ويبدو ان الديكتاتور الاب أعطى الاشارة والضوء الاخضر للوريث الذي كان يدرس طب العيون في احدى جامعات بريطانيا وتم جلبه على وجه السرعة من اجل تهيئته للخلافة، خلافة الاب في رئاسة الجمهورية «العلمانية» التي يحكمها حزب البعث منذ عام 1963 لكنها الجمهورية التي لن تجد بعد ستة اعوام غضاضة في إهانة مفهوم الجمهورية ذاته وذل العلمانية التي يفترض ان تكون نقيضا لكل الأشكال والبنى القبلية والعشائرية والعائلية او المذهبية التي هي اشكال وصيغ متأخرة وسابقة لمرحلة الدولة الوطنية.
تسنى لي ان اقرأ العديد من المقابلات الصحافية التي أجراها رؤساء صحف عربية معروفة، ومنهم مازال على رأس عمله الى اليوم، عن «الشاب العصري والاصلاحي»
الذي تلقى تعليمه في الغرب. كان لا بد لك كسوري يعيش في دولة يحكمها نظام استخباراتي بقبضة من حديد، كان لا بد لك ان تتأثر وربما تعجب بما يقوله هذا الشاب عن محاربة الفساد وبرنامج الاصلاح وبناء دولة حديثة واعطاء فرصة للشباب الذين يشكلون اكثر من ثلثي المجتمع. ليس ذلك فحسب، هذا الشاب -مشروع الرئيس الوريث، كان يتحدث عن الكومبيوتر والإنترنت وثورة الاتصال الحديثة وضرورة مواكبتها.
وحتى قبيل استلامه الرئاسة، كان بشار الاسد يرأس « الجمعية السورية للمعلوماتية» وهي الجمعية التي تعنى بكل ما يتعلق بالإنترنت وايصاله الى المؤسسات الحكومية والأفراد.
أيضاً زوجة بشار الاسد عندما تم اختيارها لتنال شرف او لقب السيدة الاولى «وهو لقب لم تنله الى اليوم حيث يطلق على زوجة حافظ الاسد فقط؟» لم تخلُ من مواصفات وسيرة ذاتية مشابهة، ما عدا أنها لم تكن ابنة رئيس. فهي ابنة «عائلة سورية عريقة تعيش في بريطانية» وهي «تلقت علومها في الغرب وعملت في احد البنوك الدولية وأنيقة وناجحة وتتحدث الانكليزية بطلاقة الانكليز كما لو انها واحدة منهم».
مات حافظ الاسد عام 2000، سمعت الخبر عصر يوم العاشر من يونيو من ذلك العام، تابعت بقية التفاصيل على شاشة التلفزيون السوري الرسمي وانا في دمشق.اختير المذيع «مروان شيخو» ذو الصوت الجهوري والذي كان يقدم برامج دينية ليذيع نبأ «الحدث الجلل». كان ذلك المذيع يتلو الخبر ويبكي مثل الاطفال الصغار الذين فقدوا ابا او اما او عزيزا. بعد اكثر من عشرين عاما رأيت ذات المشهد يتكرر في «جمهورية كوريا الديموقراطية الشعبية» حين مات الرئيس كيم جونغ ايل.
لكن الشيء الابرز الذي رأيته عصر ذلك اليوم في دمشق، وكنت اراه لاول مرة، كان سلسلة من العربات العسكرية المصفحة الحديثة على طول طريق «اتوستراد العدوي» وهو الطريق الذي يربط بين قاعدة للحرس الجمهوري في حي القابون وقلب العاصمة دمشق.
كانت الصدفة وحدها من جعلتني ارى هذه العشرات من المصفحات القتالية التي كانت رشاشاتها تسبقها ويخرج من فوهة كل واحدة منها ضابط برتبة نقيب او رائد، تلك الصدفة هي أني كنت أعيش على مسافة قصيرة من قاعدة الحرس الجمهوري وكان علي ان اركب سيارة نقلني الى عملي وسط دمشق، فيما كان على العربات المصفحة ان تصل الى القصر الجمهوري وبعض المكاتب الحساسة. كان سيناريو التوريث يحتاج الى شيء من عرض العضلات العسكرية ليتم فرضه حتى على بقية افراد الحرس القديم الذين عرفوا بولاء شبه تام لحافظ الاسد. وهذا ما كان، ثم انجز بعد شهر تقريبا حين تم «انتخاب» بشار الاسد رئيسا للجمهورية في السابع عشر من يوليو من العام نفسه.
الشاب بشار الاسد الذي درس في الغرب ويهتم بالكومبيوتر والإنترنت والتكنولوجيا، صار رئيسا، وقبلها كان لا بد من ترقيته نحو خمسة رتب عسكرية ليصبح الفريق بشار الاسد القائد العام للقوات المسلحة. لم نشأ ان نصدق ان هذا الشاب المتعلم في الغرب ويتحدث عن الكومبيوتر ونشره وايصاله لكل بيت والذي سيحارب الفساد ويتصدى للحرس القديم، ان يكون عسكريا او له علاقة بتاريخ والده، حتى اننا رأينا ان البدلة العسكرية التي كان يرتديها كانت فضفاضة عليه بسبب نحولته وطول قامته.
بعد اقل من عام على كلمته الاولى في مجلس الشعب السوري، والتي تحدث فيها عن الرأي والرأي الآخر والعصرنة والتحديث والاصلاح السياسي، بعد اقل من عام من ذلك، تخلى عن استخدام جميع هذه المصطلحات، ثم عمل على اغلاق المنتديات الاجتماعية والسياسة التي ولدت من رحم لحظة إعداده وتجهيزه للرئاسة، لاحقا ادركت الغالبية ان ما تحدث عنه الرئيس كان مجرد كذبا وخداعا، كان بشار الاسد يدرك انه لن يكون مقبولا كرئيس للجمهورية العلمانية كونه ابن الرئيس فقط، كان يجب ان يظهر انه صاحب مشروع تحديثي سيضع حدا لنظام ابيه الاستبدادي، اي يقتل ابيه بالمعنى الرمزي للكلمة ليكون مقبولا لدى شعب يحكمه نظام جمهوري وليس نظاما ملكيا وراثيا.
لم يغلق بشار الاسد المنتديات او ما عرف بربيع دمشق، بل ظهر على حقيقته كابن يحمل عقدة ابيه ويسعى لتجاوزه بعد اكثر من عشرة اعوام من ذلك حين ضحك ملأ شدقيه بمجلس الشعب السوري بعد اولى الضحايا الذين سقطوا في درعا في بداية ثورة شعبية لم تنته الى اليوم.
الرئيس الشاب العصري الذي انتقل الى مرحلة اكثر تقدما من ناحية ولعه ومتابعته للتكنولوجيا، حيث أضاف جهاز الآي باد والآي فون لجملة مقتنياته الخاصة، كشف عن وجه جديد: استعداد للقتل وتدمير المدن السورية فوق ساكينها على ان يقبل حقيقة ساطعة كالشمس ان غالبية عظمى من شعبه لا تريده ولم تعد تحبه بل تتوق للحرية والكرامة والديموقراطية.
قبل بشار الاسد كان مفهومنا وإدراكنا المعرفي والسياسي التاريخي لشخصية الديكتاتور محددا ببضع شخصيات حدثنا عنها التاريخ، كنيرون الذي حرق روما، او ستالين الزعيم الحقيقي المؤسس للاتحاد السوفياتي والذي بنى امبراطوريته بالحديد والنار، او هتلر الذي أسس ألمانية النازية التي ابادت اليهود واتركبت بحقهم «الهولوكست» او موسوليني في ايطاليا الفاشستية او فرانكو في إسبانيا او بينوشيه في تشيلي، او صدام حسين في العراق او حافظ الاسد في سورية ومعمر القذافي في ليبيا. لم نكن قبل هؤلاء على معرفة بدكتاتور يقتل شعبه فيما هو مستمر في متابعة آخر الاغاني على جهاز الآي باد او الكومبيوتر المحمول او يتحدث مع صديقة له عبر الفايسبوك او معجبة عبر خدمة سكايب التي يوفرها الانترنت.
الديكتاتور في القرن الواحد والعشرين، له مواصفات حداثية مرتبطة بالعصر او الحقبة التكنولوجية، مثله تماماً مثل الجيل الشاب الذي يتقن آخر ابتكارات هذه الحقبة، لكنه الجيل الذي انتفض من الاحياء المهمشة، من الجامعات، من البطالة، من الفقر، مطالبا بالحرية والعدالة والديموقراطية والكرامة. الجيل الذي استخدم هاتفه المحمول ليصور ثورته وموته ويرسل كل ذلك الى العالم كله عبر الانترنت.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي