زين الشامي / سيكولوجية القمع ... سيكولوجيا الإصرار عند السوريين

تصغير
تكبير
غالبية من المتابعين لما يحدث في سورية شاهدوا على القنوات الفضائية ذلك الرجل الثلاثيني وهو يعبر بألم عما فعلت به قوات الامن السورية خلال مداهمتها لبعض قرى ومناطق جبل الزاوية في ادلب حين صرخ «أنا إنسان ماني حيوان.. وهالناس كلها متلي». انه محمد أحمد عبدالوهاب، وهو من قرية «خربة الجوز» التي تزنرها اشجار الكرز والرمان والجوز ودوالي العنب وكروم الزيتون والتين. صرخته كانت مؤلمة ومؤثرة لأنها صرخة لا يعرف ما تختزنه من قهر الا السوريون انفسهم او غيرهم ممن عاشوا تحت نظام عائلة الاسد وحكم البعث والذين اكتووا بنار القمع الممتد على اكثر من خمسين عاما في تاريخ السوريين الحديث.

طبيعة النظام في سورية منذ تسلم البعثيين وتحوله الى نظام امني عسكري متغول في الحياة العامة في اوائل الثمانينيات بعد القمع الدموي لحركة التمرد التي قادها الاخون المسلمون، هي طبيعة ليست فريدة في التاريخ، لكنها فريدة لناحية امتدادها واستمرارها منذ بداية الستينيات من القرن الماضي وحتى لحظة ثورة السوريين في آذار عام 2011 وهي ثورة لم تنته الى اليوم، انها الثورة الاكثر دموية وألما وتضحيات وبطولات مقارنة ببقية ما شهدته البلدان العربية التي عاشت انتفاضات مماثلة.

ان بطولة السوريين وشدة قمع النظام لمعارضيه تعكس حقيقة التاريخ، التاريخ الممتد ما بين تسلم البعث للسلطة ثم تحوله الى نظام شمولي فردي بعد تسلم حافظ الاسد السلطة في عام 1971. وبناء عليه ربما يتساءل احدهم عن هذه «الخصوصية السورية»، او الاسباب الكامنة وراء بطولة السوريين واستعدادهم الكبير للتضحية رغم قوة النظام وبطشه ورغم عشرات الالاف من الضحايا ورغم تدمير الكثير من المدن والقرى؟

ان الجواب يكمن في فهم صرخة «محمد احمد عبد الوهاب» ابن قربة «خربة الجوز»، نعم، فهم سر هذه الصرخة التي تعكس حقيقة علاقة المواطن السوري مع نظامه، لقد اراد السوريون من خلال ثورتهم ان يضعوا حدا لاكثر من نصف قرن من القهر والاستلاب والعبودية التي مارسها نظام فاشي كان يختبئ وراء شعارات قومية كبيرة، نظام شعاره الوحدة والحرية والاشتراكية، لكنه اكثر الانظمة العربية التي اساءت للتضامن العربي واكثر الانظمة التي شاركت في تمزيق وحدة الصف العربي، ولعل اللبنانيين والفلسطينيين يدركون تماما ماذا فعل هذا النظام بحق قضاياهم ووحدتهم السياسية والمجتمعية. لا بل ان هذين الشعبين هما من بين اكثر الشعوب العربية التي عرفت وذاقت وحشية هذا النظام، خصوصا وان الآلاف منهم سجنوا في سجون النظام وتم تعذيبهم ومنهم من قتل او اعتقل ولم يعد الى اهله الى اليوم.كذلك كان النظام السوري من اكثر الانظمة استلابا لحرية مواطنيه واكثرهم تفقيرا لشعبه وسرقة ونهبا للمقدرات الوطنية.

ان تكون سوريا أو عشت في سورية، يعني انك تعرف تماما ما هو وقع كلمة مثل «مخابرات» او «فرع فلسطين» او «فرع المنطقة» او «سجن تدمر» او «سجن المزة». ان وقع هذه الكلمات على نفسية السوريين ربما يشبه وقع «النازية» او «الغستابو» على اليهودي، او «ستالين» على الروس. انها ليست كلمات عادية او امكنة او مؤسسات، انها تفاصيل وحياة يومية محورها الخوف والرهبة عاشها السوريون لسنين طويلة، انها كلمات ليست بكلمات، انها الموت، او التعذيب، او نهاية المستقبل، او الغياب لسنين طويلة بعيدا عن الضوء والاهل والاقارب، وفي احسن الاحوال كلمات تثير الهلع الشديد في نفس أي شخص حصل وسمع بعض القصص عنها لاشخاص اختربوها.

حتى المؤسسة الحزبية، او تلك التشكيلات الهرمية التابعة لحزب البعث لا تقل في مدلولاتها وايحاءاتها القمعية والسيكولوجية عن تلك القلاع والمؤسسات الاستخبارية، ففي الفرقة الحزبية قد تستدعى للتحقيق مع امين الفرقة اذا لم تكن «مواطنا ايجابيا» او «صديقا للدولة»، وهو مصطلح يعرف السوريون انه يعني «مواليا للنظام والرئيس القائد». وفي الفرقة الحزبية ايضا قد لا يسمح لك بفتح حانوت صغير اذا لم يوافق امين الفرقة على ذلك لاعتبارات «قومية» او تخص الأمن الوطني والقومي او لاسباب تتعلق بنسبة ولاء الشخص للنظام أو سلبيته.

ذات يوم وصل ابي الى البيت وقت العصر ووجه مكفهرا متألما غاضبا، كنت طفلا لم يتعدَ العاشرة من العمر، من خلال حديثه لأمي فهمت ان رئيس البلدية اجبره على شراء كتاب اسمه «هكذا تكلم القائد» اذا كان يريد الحصول على تلك الرخصة المتعلقة بفتح «فرن للخبز» وكان سعر الكتاب مرتفعا جدا بحيث انه كان يعادل راتب موظف، ابي كان اميا ولم يكن امامه خيار سوى شراء كتاب سميك يحتوي نحو الف وخمسمئة صفحة وعليه صورة الرئيس حافظ الأسد.

ان تكون سوريا، يعني ان تخشى وتحسب حسابا لجارك فربما يكون «جاسوسا» يعمل لدى المخابرات، ومن مدرسك الذي يعلمك فقد يكون على علاقة بالحزب او فرع استخباراتي، ومن زميلك في الصف فربما جندّه امين فرقة الحزب في المدرسة؟

ان تكون سوريا، عليك تعتبر ان «القائد» اهم شخص على وجه الكرة الارضة، وهو الاكثر احتراما وحكمة ورحمة وحبا لشعبه والاكثر شجاعة في مواجهة «العدو». لا يجب ان تنتمي او تكون منتميا لأي حزب سياسي غير حزب البعث، واياك ان تعجب بأي رئيس او قائد او ملك او زعيم غير حافظ الاسد، ومن بعد ذلك ابنه ووريثه بشار الاسد. ان مثل ذلك قد يعرضك للسين والجيم والاستدعاء لدى احد الفروع الامنية.

في سورية من الطبيعي جدا ان تهين وتشتم لكن اياك من توجيه كلمة نابية الى شخص «القائد» ان ذلك قد يجعلك نسيا منسيا في اقبية المخابرات.

في سورية عليك ان تجامل رجل السلطة وترشيه احيانا مهما كانت حياتك قاسية ومهما كنت «مواليا» للنظام. ان استمرار ولاءك دائما في وضعية اختبار مهما بلغت من شأن او عمر. انه مسيرة دائمة ملازمة لكل فرد اراد ان يتجنب المساءلة او ملاحقة ومتابعة الاجهزة الاستخبارية، ومن خالفوا او تحدوا هذا النمط من العبودية كان مصيرهم السجن او في ادنى الاحوال، العزل والبقاء بدون عمل او فرصة في التعليم او حتى السفر للخارج.

ان مجيء بشار الاسد للسلطة بعد وراثته الحكم عن ابيه عام 2000 لم يغير من حقائق هذه الاوضاع، او من طبيعة المؤسسات الامنية المتغولة في حياتهم، مجيئه لم يضع حدا للفساد، ولم يصنع سوى اصلاح شكلي مخادع حين اعطى دفعا لطبقة جديدة من رجال الاعمال المقربين واصحاب النفوذ الموالين فيما بقيت غالبية السوريين تعيش ذات الظروف التي عاشتها تحت حكم الاب... مزيد من القمع، مزيد من تردي الحياة المعيشية، والادهى من كل ذلك مزيد من الخوف.

ربما يفسر ذلك بعضا من اسباب صمود السوريين الى اليوم امام آلة القمع الوحشية للنظام واصرارهم على الاستمرار في ثورتهم.



زين الشامي
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي