«الى روح مؤيد الشربجي الذي كنت أقص شعري عنده لعشر سنوات في حي القابون وكان يحكي لي القصص ويرشني بالعطر»
بحكم عملي وبحكم اشياء كثيرة فأنا متابع مواظب لوسائل الاعلام السورية جميعها منذ سنين طويلة رغم انها وسائل اعلام مملوكة للحكومة ووظيفتها الاساسية تمجيد النظام الحاكم وتكريس عبادة «القائد الحكيم، القومي،المناضل، الاصلاحي، المؤمن، الفريد، الفذ، الذي يتصدى لكل المؤمرات العربية والدولية والكونية التي تحاك ضد سورية...».
لكن ومنذ اندلاع الاحتجاجات الأولى في درعا وسوق الحميدية في دمشق منذ نحو ثمانية عشر شهرا او اكثر، لاحظت الغربة الحقيقية لهذا الاعلام عن شعبه وما يجري في الشارع السوري. ربما يبدو هذا الكلام قديما للبعض لكن بعد الاحداث والتطورات المرتبطة بالثورة السورية وانتفاضة غالبية السوريين ضد النظام الحاكم، تطورت العلاقة بين هذا الاعلام وشعبه بحيث لم يعد ممكنا توصيفها بالغربة او القطيعة بل بالعداوة.نعم العداوة بكل ما في الكلمة من معنى.
يكفي ان تتابع الشريط الاخباري للفضائيات السورية كلها اذا كنت لا تستطيع تحمل الخطاب الاعلامي الرسمي بكل لغته الخشبية، واذا كنت لا تحتمل سماع خطاب اعلام يقوم فقط على البروباغندا فقط، يكفي ان تلقي نظرة سريعة على عناوين الوكالة العربية السورية للأنباء «سانا» لتعرف ان المصطلح الأنسب لوصف علاقة هذه الوسائل الإعلامية الحكومية بشعبها هي علاقة عداوة فقط وليس وسائل اعلام شعبية او وسائل اعلام تنتمي للقرن الواحد والعشرين، ربما تجد شبيها لها فقط في ألمانية النازية او الاتحاد السوفياتي في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي او اليوم في جمهورية كوريا الشمالية او كوريا الديموقراطية الشعبية حسب الاعلام السوري أيضاً.
غالبية الاخبار اليومية او الطبق الاخباري اليومي في وسائل الاعلام هذه تتحدث عن «القضاء على مجموعة إرهابية كاملة» في ريف دمشق او حلب او دير الزور او درعا، لكن حين تشاهد غالبية القنوات الفضائية العربية والدولية فإنك ستشاهد أخبارا وصورا مختلفة تماماً. فحين تقرأ او تسمع ان «قواتنا المسلحة قضت على مجموعة الإرهابيين» في مدينة داريا غرب دمشق منذ نحو شهر تقريبا، ستجد في اليوم التالي ان العالم كله استفاق ليرى مجزرة رهيبة ومؤلمة وصورا تقشعر لها الأبدان لنساء وأطفال وشيوخ وشبان تجاوز عددهم اربعمئة ضحية.؟
وحين تشاهد قناة الدنيا او تقرأ الشريط الاخباري للفضائية السورية او تتصفح وكالة سانا ستقرأ ان «جنودنا البواسل تصدوا لمجموعات إرهابية مسلحة في مدينة الباب في محافظة حلب بعد ان تلقوا شكاوى من الأهالي تطلب من السلطات المساعدة في القضاء على الإرهابيين الذين يعيثون فسادا وتنكيلا وتخريبا بالأهالي «لكن ما هي إلا ساعات حتى يبث ناشطون سوريون شرائط فيديو لدمار هائل في تلك المدينة وشبان يرفعون الأنقاض بحثا عن قتلى دفنوا تحت الابنية المتهدمة بفعل غارة جوية للطيران الحربي السوري. ثم لتكتشف لاحقا ان اكثر من سبعين شخصا قتلوا جراء تلك الغارة الجوية على المدينة ومن بينهم أيضاً أطفال ونساء وشيوخ ورجال وشبان وبنات...
ذات مرة قرأت على وكالة سانا ان القوات الأمنية لاحقت مجموعة إرهابية في حي القابون في دمشق وأنها قتلت عشرات الإرهابيين، في اليوم التالي اخبرني قريب كان ما زال يسكن في الحي قبل ان يغادر ويهرب الى الأردن ان اولاد «طه الصادق» الثلاثة قد وجدوهم محروقين في منزلهم وان امهم أصيبت بالجنون حين سمعت الخبر. كذلك انتشرت صور على مواقع التواصل الاجتماعي لمجزرة في الحي نفسه وفي الوقت نفسه راح ضحيتها اكثر من عشرة أشخاص وقد وجدوا مربوطي الأيدي من الخلف والرصاص اخترق رؤوسهم وظهورهم من الخلف، رأيت تلك الصور لأولئك الإرهابيين المفترضين حسب وسائل الاعلام السورية، ورأيت لاحقا في مجزرة أخرى صورة «مؤيد الشربجي» الذي كان يملك صالونا لحلاقة الشعر في مقابل البناء الذي كنت اسكن فيه، وهو الشاب الوسيم الاشقر الذي قص شعري ورش علي العطر لمدة اكثر من عشرة اعوام، وقص الشعرات الناعمة الاولى لكل أولادي.
ذات يوم أخبرتني صديقة تعمل في احد التلفزيونات العربية انها تشعر ان غالبية الشعب السوري بات إرهابي حين تتابع التلفزيون السوري، ومرة كتب لي صديق من داخل سورية بسخرية مرة، وهو بالمناسبة كاتب روائي: اشعر يا صديقي حين اتابع قناة الدنيا ان ابي إرهابيا وامي إرهابية وعمتي فاطمة إرهابية والحاجة ام مصطفى القابلة التي ولدت كل أبنائي إرهابية أيضاً، واستاذ المدرسة وحبيبتي الاولى، ومختار الحي وابو عبدو بائع سندويش الفلافل القريب من مبنى السجن المركزي في ادلب... كلهم إرهابيون.
النظام السوري ربما هو الوحيد في العالم الذي يقصف المدن الكبرى والعريقة مثل حلب ودمشق ودرعا ودير الزور بالطيران الحربي ويلقي عليها براميل «التي ان تي» الشديدة الانفجار لملاحقة وقتل الإرهابيين. وهو النظام الوحيد في العالم الذي يرتكب جنوده وشبيحته المجزرة تلو المجزرة ويعلن بعد دقائق او ساعات قليلة ان إرهابيين عملاء للخارج هم من ارتكبوا المجزرة، وهو الوحيد الذي يحضر في اليوم التالي المتهمين ويجري معهم مقابلات تلفزيونية يعترفون خلالها بارتكابهم للمجزرة بكل أريحية ودون ضغوط او تعذيب.
لن نتحدث هنا عن تلك المذيعة في قناة الدنيا التي مشت برجليها وكعب حذائها العالي بين جثث ضحايا مجزرة داريا بكامل اناقتها الصارخة، بعيونها المكحلة، بأظافرها المطلية بالأحمر، وأجرت مقابلات مع أطفال يجلسون قرب جثث أمهاتهم وآبائهم... هذا يحدث فقط في مكان واحد في العالم... في سورية الاسد.
زين الشامي