رجال الدين يحرجون أهل السياسة والقضاء في بريطانيا

الكنيسة «تصدر حكمها» على ميردوخ وتسحب استثماراتها من «امبراطوريته»

تصغير
تكبير
| لندن من إلياس نصرالله |

أثار قرار الكنيسة الأنغليكانية الإنكليزية، بسحب استثماراتها من شركة «نيوز كوربوريشن» التي يملك أكبر حصة من أسهمها روبيرت ميردوخ، صاحب أكبر إمبراطورية إعلامية في العالم، ضجة كبيرة وأعاد فضيحة التنصت على المكالمات الهاتفية للمواطنين البريطانيين التي تورط بها العاملون في مؤسسة ميردوخ الإعلامية إلى واجهة الأحداث أو الأخبار من جديد، فيما اعتبر المراقبون السياسيون في لندن القرار بأنه «ضربة قوية» لكل من ميردوخ ولرئيس الوزراء ديفيد كاميرون وحكومته على حدٍ سواء.

ويعود سبب الضجة التي أحدثها قرار الكنيسة ليس لحجم استثمارها البالغ مليوني جنيه استرليني في هذه الامبراطورية الإعلامية التي يُقدَّر رأسمالها بنحو ملياري جنيه، بل لمغزى القرار العميق وخلفية الواقفين خلفه، أي قيادة الكنيسة التي تشغل ملكة بريطانيا منصب الرئيس الفخري لها والمتمثلة بكبير الأساقفة روان ويليامز، أسقف كانتربري، وباقي أعضاء مجلس الأساقفة التابع للكنيسة. فقرار الكنيسة يُشكل إدانة لهذه الإمبراطورية الإعلامية ولميردوخ ذاته، في وقت تلكأت الحكومة أو السلطتين القضائية والتنفيذية في اتخاذ أي إجراء شخصي ضد ميردوخ وابنه جيمس اللذين توليا إدارة «نيوز كوربوريشن»، مكتفية باتخاذ إجراءات قضائية ضد عدد قليل من موظفي الشركة من ضمنهم ربيكا بروكس، مديرة أعمال ميردوخ، وآندي كولسون، رئيس التحرير السابق لصحيفة «نيوز أو ذي وورلد» التي أغلقها ميردوخ لإراحة نفسه من همومها.

وكانت الكنيسة الأنغليكانية أصدرت بياناً في العام الماضي لدى تفجُّر فضيحة التنصت على المكالمات الهاتفية عبّرت فيه عن قلقها من «السلوك غير الأخلاقي والمشين» لطريقة عمل الصحافيين والعاملين في المؤسسة، وأكدت أنها تحاول من أجل إرغام المسؤولن في «نيوز كوروريشن» على «تحسين أدائهم في إدارة الشركة».

ففي بيان الكنيسة حول سحب استثمارها في الشركة، قال أمين سر مفوضية الكنيسة التي تُعنى في استثمار أموالها أندرو براون في بيان «في العام الماضي، أثارت التهم حول التنصت على المكالمات الهاتفية قلقاً شديداً لدى هيئات الكنيسة المشرفة على الاستثمارات في شأن أسهمنا في نيوز كوربوريشن». وأضاف: «قرارنا لسحب استثماراتنا لم يكن متعجلاً وجاء بعد عام من الحوار المتواصل مع الشركة قدمت خلاله المجموعة الاستشارية للاستثمار الأخلاقي التابعة للكنيسة عدداً من التوصيات حول كيفية إصلاح الجهاز الإداري للشركة». واختتم براون بيانه بالقول: «لكن المجموعة الاستشارية لا تشعر بأن الشركة أجرت تغييراً كافياً ونحن وافقنا على توصيتها التي قـُدِّمت لنا بسحب استثمارنا».

ويعني قرار سحب الاستثمار أن الكنيسة، التي تطلع بدور إصلاحي من الدرجة الأولى في المجتمع، يئست من إمكانية إصلاح شركة «نيوز كوربوريشن»، مما ينطوي على مغزى كبير في شأن ميردوخ والطريقة التي تدار بها إمبراطوريته الإعلامية. وكان ناطق باسم المجموعة الاستشارية للكنيسة أجاب رداً على استفسارات الصحافيين في العام الماضي عن عدم سحب الكنيسة لاستثماراتها بالقول أن «بيع أسهمنا هو آخر وسيلة بيدنا. ونحن نفضل استخدام صوتنا. أنها مسألة حوار متواصل بيننا».

يشار إلى أن قرار سحب استثمارات الكنيسة من «نيوز كوربوريشن» ليس الأول من نوعه وربما لن يكون الأخير. فالكنيسة تسعى للمحافظة على أموالها من خلال هيئة مالية تشرف على توظيف أموالها أو استثمارها في شركات ومؤسسات تجارية بعيداً عن المضاربات في الأسواق المالية أو السعي الرخيص وغير الأخلاقي وراء الربح. وكانت الكنيسة الأنغليكانية أثارت ضجة عالمية واسعة عندما سحب استثمارتها قبل بضع سنوات من شركة «كاتربيلار» الأميركية التي تصنع البلدوزرات الثقيلة، نظراً لأن الشركة الأميركية تزود الجيش الإسرائيلي بالجرافات العملاقة (البولدوزر) التي تُستخدم في هدم المنازل في الأراضي الفلسطينية المحتلة في الضفة الغربية وقطاع غزة وتجريف الأراضي الزراعة للفلسطينيين وبناء المستوطنات اليهودية غير الشرعية عليها. واتخذت الكنيسة قرارها ضد «كاتربيلار» بناء على توصية من المجموعة الاستشارية للاستثمار الأخلاقي ذاتها التابعة للكنيسة. وأتبعته بقرار آخر عام 2010 ضد شركة عالمية أخرى هي «فيدانتا ريسورسيز» وسحبت منها استثماراتها البالغة قيمتها 3.6 مليون جنيه بسبب خرق الشركة لأبسط مبادئ حقوق الإنسان في التعامل مع عمال المناجم التي تشرف الشركة على إدارتها في الهند. كذلك سحبت الكنيسة استثماراتها من شركة الاتصالات العالمية «فودا فون» نتيجة فضيحة تهرب الشركة من دفع الضرائب، ومن شركتي «شيل» و«بي بي» للنفط، ومن شركة «غوغل» التي تشجع نشر الصور الجنسية الفاضحة، وشركة «غلاكسو سميث كلاين» لصناعة الأدوية بسبب متاجرتها في أمور تتعلق بصحة البشر. يُشار إلى أن الكنيسة تعرّضت لانتقادات شديدة في وسائل الإعلام بسبب استثماراتها ووجهت لها تهمة أنها استثمرت في «نيوز كوبوريشن»، رغم أن هذه الشركة تملك صحيفة «الصن» التي تنشر يومياً في صفحتها الثالثة ومنذ عقد الستينات الماضية بلا توقف، صورة كبيرة لفتاة عارية كلياً.

فاللجنة الاستشارية تعمل كجهاز مراقبة لدى الكنيسة لمنعها من الإنزلاق في مهاوي الاستثمار والأعمال غير الأخلاقية، فهي ترفض الاستثمار في مجالات صناعتي المشروبات الكحولية والتبغ، رغم أنهما غير محرمتين دينياً لدى المسيحيين، كما ترفض الاستثمار في شركات إنتاج الأسلحة، مهما كان نوعها وحجمها، وفي شركات إنتاج أفلام الجنس، كما ترفض الاستثمار في المؤسسات المالية القائمة أصلاً على الربا. وتفضل الاستثمار في شركات مضمونة وذات سُمعة جيدة. وتتبع الكنيسة أسلوباً أو مبدءاً بسيطاً في استثماراتها وهو مبدأ «عدم وضع بيضها في سلة واحدة»، لذلك فهي توزع استثماراتها على عدد كبير من المؤسسات والشركات المضمونة على نحو يمنع تكبيدها خسارة كبيرة، في حال حدوث كارثة لأي شركة من الشركات التي تستثمر فيها وإفلاسها. ووفقاً لمسؤولين ماليين في الكنيسة، ففي كل مرة يتم فيها سحب استثمار لها في أي شركة، يؤدي القرار إلى تكبيد الكنيسة خسارة معينة تلحق الضرر بالعائدات التي تعيش الكنيسة عليها. ففي العام الماضي مثلاً انخفضت عائدات الكنيسة من استثماراتها بنحو 2.9 في المئة، ما يؤثر على نشاط الكنيسة ورجالها، لكن قيادة الكنيسة مقتنعة بأن قراراتها بسحب الاستثمارات أهم لها من تحقيق الأرباح، حفاظاً على مكانتها ودورها الإصلاحي في المجتمع وظهورها كقدوة أمام الناس.

ويضع قرار الكنيسة الحكومة البريطانية ولجنة التحقيق في فضيحة التنصت على المكالمات الهاتفية برئاسة اللورد ليفيسون في موضع حرج، إذ أنه تضمَّن إشارة واضحة إلى وجود خلل في الهيكل الإداري لشركة «نيوز كوربوريشن». فإن كان هذا الخلل واضحاً بالنسبة لرجال الدين، معناه أنه حتماً واضحٌ بالنسبة لرجال السياسة ولأعضاء لجنة ليفيسون للتحقيق. وإن كان رجال الدين قادرين على اتخاذ قرار بحق «نيوز كوربوريشن»، فما المانع من أن تتخذ الحكومة ولجنة التحقيق قرارات شبيهة بحق الشركة والمسؤولين فيها؟ وعلقت صحيفة «الغارديان» على قرار الكنيسة بقولها أنه «بإمكان الكنيسة أن تقوم بدور من شأنه أن يجعل العالم عند أطرافه أفضل قليلاً، وهذا ما فعلته الآن بقولها على رؤوس الأشهاد أن نيوز كوربوريشن لا تفي بالتزاماتها الأخلاقية».

وجاء قرار الكنيسة في وقت بدأت تظهر فيه دلائل تشير إلى أن ميردوخ عاد ليمارس دوره في التأثير على القرارات السياسية في بريطانيا، وبعد أن تمادى رئيس بلدية لندن بوريس جونسون وضرب عرض الحائط بالأصوات المطالبة بمعاقبة ميردوخ، فتجرأ على تكريمه بدعوته لحضور المسابقات في دورة لندن للألعاب الأولمبية الأسبوع الماضي.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي