«إخوان» مصر... الجديدة


لا يمكن اعتبار ما يجري في مصر شأنا مصريا خالصا، فموقع مصر ودور مصر وتاريخ مصر يجعل أمورها محلية بالنسبة لنا ككويتيين أو لغيرنا من الدول العربية الأخرى. يكذب العرب على انفسهم ان قالوا إنهم لم يتأثروا بجانب من الجوانب التي اضاءتها مصر في مسيرتها الحديثة، سواء تعلق الأمر بالثقافة أو التنوير أو الفن أو الادب أو السياسة. يكفي أن نسترجع ما كتبه أزهريون قبل أكثر من مئة عام لندرك كم يشبه ما نريد كتابته حاليا، ويكفي أن نستحضر سيرة المصريين الدعاة والأدباء الذين افتتحوا حوار الحضارات مع الآخر الغربي لنكتشف كم أن صراع الجهالات سببه غياب مصر وانكفاء دورها.
لن نكرر ما قلناه سابقا عن تأثر العرب بالنهضة التي قادتها مصر في مطلع القرن الماضي وما قبله، وعن تشابههم بالنظام الملكي ثم بثورة 23 يوليو ثم بالحرب والسلم وعصر الانفتاح الساداتي وحكم الرئيس مبارك والربيع العربي الراهن. إنما يمكن التأكيد أن مصر هي الرافعة العربية التي يمكن أن تحقق تقدما ملحوظا إلى الأمام إن أحسن نظامها السياسي القيادة أو أن تبقى الأمور في إطار الجمود أو التراجع إن أخفق نظامها السياسي.
اليوم نحن أمام تجربة جديدة. تجربة ملهمة مهما كانت أثمانها صعبة، فالولادة تصاحبها آلام ومضاعفات، لكن مصر تعبر للمرة الاولى منذ قرون وليس عقود من تجربة الحكم الواحد إلى ديموقراطية تعددية ذهبت فيها أصوات الملايين لهذا المرشح وأصوات الملايين لذاك ووقف فيها الناخب أمام طوابير طويلة للإدلاء بصوته وممارسة حقه والتعبير عن شراكته الحقيقية للنظام... وهذه التجربة ستنعكس على العرب رغم الخصوصيات الاجتماعية والسياسية.
الرئيس المصري الجديد اسمه محمد مرسي. رئيس أكبر وأهم دولة عربية ينتمي إلى جماعة «الإخوان المسلمين» التي كانت محظورة قبل سنتين فقط. رئيس «مصر الجديدة» عضو في حزب له امتدادات في عموم العالم العربي، بعضها يسمح له بحرية العمل والتعبير وبعضها الآخر ما زال يحظر هذه الحرية... سيتأثر العرب جميعا، مباشرة أو مداورة، بما حصل وسينتعش طبيعيا خط «الإخوان» إن لم يكن الآن ففي الأشهر والسنوات اللاحقة.
لكن معادلة «التأثير والتأثر» لا بد لها من جملة عوامل كي تستقيم وتحقق مبتغاها. اهمها على الإطلاق ان يفتح «إخوان» مصر صفحة المصالحة مع كل القوى السياسية التي تختلف معها وفي طليعتها القوى التي حصدت 48 في المئة من أصوات المصريين، وأن تغلق نهائيا الملف السياسي العربي التقليدي المليء بمفردات التشفي والانتقام، استجماعا لطاقات لابد من اتفاقها كي تتقدم مصر وكي يحقق «الاخوان» إنجازهم التاريخي الأهم بالانتقال من دولة الحزب إلى حزب الدولة.
وحتى تستقيم المعادلة، لا بد أن يصار وقبل كل شيء آخر إلى تحصين النظام الديموقراطي المصري بسلسلة من التشريعات والقوانين والبنود الدستورية التي تحرم الاعتداء على مبدأ التعددية السياسية وحرية التعبير والديموقراطية. أي بمعنى آخر أن يصار إلى حماية التعددية بقوة القانون للحد من التفرد وغلواء السلطة وتفرد طرف واحد بقرارات مصيرية تهم جميع المصريين.
والمطلوب من مصر الجديدة أن تنتقل من تقديس قائد النظام إلى احترام النظام القائد، تماما كما يحصل في الدول المتقدمة التي تدوم فيها المؤسسات وينخرط القادة «السابقون» مع أحزابهم وقواعدهم في ورشة سياسية مستمرة لخدمة الشأن العام من أي موقع كان.
والمطلوب أن تقوم في مصر حياة حزبية وسياسية حقيقية بعيدة من الاصطفافات الضيقة ايديولوجيا ودينيا، فمصر مؤهلة أكثر من غيرها من دول العالم العربي للوصول إلى هذه الصيغة كونها لا تعيش صراعات حادة معلنة ومبطنة بين طوائف ومذاهب وديانات وطبقات بحكم تركيبتها السكانية من جهة وطبيعتها التاريخية التسامحية من جهة أخرى. باختصار، مصر قد تكون الدولة العربية الأولى التي تنتقل فيها الحياة الحزبية من مفهومها السياسي الضيق إلى الرحاب الوطني العام، وتنتقل فيها البرامج الحزبية من الأيديولوجيات المتطرفة إلى البرامج التنموية التي تهم المواطن في مختلف المجالات... إنما الأمر مرتبط بطبيعة الحال بوجود رؤية لدى القيادة الجديدة لاطلاق ورشة تشريعية كاملة لتحقيق هذه الأهداف وبوجود رغبة حقيقية من القوى الفاعلة بتجاوز الهموم الخاصة إلى الشأن العام.
وكي تستقيم المعادلة أكثر وتنجح التجربة، يجب أن يكون شعار الرئيس الجديد... «المصري اولا»، فرخاء المواطن المصري وتحسين مستوى معيشته وظيفيا وتربويا وصحيا وعلميا والقضاء على التفاوت بين الفئات وتأمين فرص عمل وفتح الاقتصاد المصري على كل مجالات الاستثمار وتعميم ثقافة العمل والانتاج، كلها امور تشكل حصانة وطنية وتؤمن استقرارا وتعزز سيادة.
وعندما نقول إن «المصري أولا» فإنما نفعل ذلك لا من باب الدعوة إلى الانغلاق وإنما لأن تقدم «الخصوصية الوطنية» كانت شبه تهمة في عرف القوميين العرب الذين غلبوا في احيان كثيرة شعارات الوحدة والعروبة على تطوير الشأن المحلي بل لطالما كانت هذه الشعارات ستارا للتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية الاخرى. وبكل صراحة نقول اننا لا نريد لـ «إخوان» مصر وقد أصبحوا في سدة الرئاسة أن يتدخلوا في شؤون الدول الأخرى داعمين لهذا الطرف أو ذاك، بل لا نريد لهم بحجة الشعارات الدينية والأممية أن يعطوا أساسا هذا الانطباع.
مصر غنية بمفكريها ومشرعيها وهم اساسا من وضع دساتير دول عربية كثيرة، ومصر غنية بتاريخها وثقافتها وفنها وادبها وعلومها، ومصر رائدة في التجارب السياسية ومدرسة في الاصول الديبلوماسية وخبيرة متمرسة في الحرب والسلم، لذلك فنجاح مشروع نهضة جمهوريتها الثانية سيصيبنا بشظاياه الإيجابية وهو ما يجب أن ندعمه بكل قوة... أما التعثر لا سمح الله فسيزيد من العراقيل ليس في وجه المصريين فقط بل في وجوهنا جميعا.
جاسم بودي
لن نكرر ما قلناه سابقا عن تأثر العرب بالنهضة التي قادتها مصر في مطلع القرن الماضي وما قبله، وعن تشابههم بالنظام الملكي ثم بثورة 23 يوليو ثم بالحرب والسلم وعصر الانفتاح الساداتي وحكم الرئيس مبارك والربيع العربي الراهن. إنما يمكن التأكيد أن مصر هي الرافعة العربية التي يمكن أن تحقق تقدما ملحوظا إلى الأمام إن أحسن نظامها السياسي القيادة أو أن تبقى الأمور في إطار الجمود أو التراجع إن أخفق نظامها السياسي.
اليوم نحن أمام تجربة جديدة. تجربة ملهمة مهما كانت أثمانها صعبة، فالولادة تصاحبها آلام ومضاعفات، لكن مصر تعبر للمرة الاولى منذ قرون وليس عقود من تجربة الحكم الواحد إلى ديموقراطية تعددية ذهبت فيها أصوات الملايين لهذا المرشح وأصوات الملايين لذاك ووقف فيها الناخب أمام طوابير طويلة للإدلاء بصوته وممارسة حقه والتعبير عن شراكته الحقيقية للنظام... وهذه التجربة ستنعكس على العرب رغم الخصوصيات الاجتماعية والسياسية.
الرئيس المصري الجديد اسمه محمد مرسي. رئيس أكبر وأهم دولة عربية ينتمي إلى جماعة «الإخوان المسلمين» التي كانت محظورة قبل سنتين فقط. رئيس «مصر الجديدة» عضو في حزب له امتدادات في عموم العالم العربي، بعضها يسمح له بحرية العمل والتعبير وبعضها الآخر ما زال يحظر هذه الحرية... سيتأثر العرب جميعا، مباشرة أو مداورة، بما حصل وسينتعش طبيعيا خط «الإخوان» إن لم يكن الآن ففي الأشهر والسنوات اللاحقة.
لكن معادلة «التأثير والتأثر» لا بد لها من جملة عوامل كي تستقيم وتحقق مبتغاها. اهمها على الإطلاق ان يفتح «إخوان» مصر صفحة المصالحة مع كل القوى السياسية التي تختلف معها وفي طليعتها القوى التي حصدت 48 في المئة من أصوات المصريين، وأن تغلق نهائيا الملف السياسي العربي التقليدي المليء بمفردات التشفي والانتقام، استجماعا لطاقات لابد من اتفاقها كي تتقدم مصر وكي يحقق «الاخوان» إنجازهم التاريخي الأهم بالانتقال من دولة الحزب إلى حزب الدولة.
وحتى تستقيم المعادلة، لا بد أن يصار وقبل كل شيء آخر إلى تحصين النظام الديموقراطي المصري بسلسلة من التشريعات والقوانين والبنود الدستورية التي تحرم الاعتداء على مبدأ التعددية السياسية وحرية التعبير والديموقراطية. أي بمعنى آخر أن يصار إلى حماية التعددية بقوة القانون للحد من التفرد وغلواء السلطة وتفرد طرف واحد بقرارات مصيرية تهم جميع المصريين.
والمطلوب من مصر الجديدة أن تنتقل من تقديس قائد النظام إلى احترام النظام القائد، تماما كما يحصل في الدول المتقدمة التي تدوم فيها المؤسسات وينخرط القادة «السابقون» مع أحزابهم وقواعدهم في ورشة سياسية مستمرة لخدمة الشأن العام من أي موقع كان.
والمطلوب أن تقوم في مصر حياة حزبية وسياسية حقيقية بعيدة من الاصطفافات الضيقة ايديولوجيا ودينيا، فمصر مؤهلة أكثر من غيرها من دول العالم العربي للوصول إلى هذه الصيغة كونها لا تعيش صراعات حادة معلنة ومبطنة بين طوائف ومذاهب وديانات وطبقات بحكم تركيبتها السكانية من جهة وطبيعتها التاريخية التسامحية من جهة أخرى. باختصار، مصر قد تكون الدولة العربية الأولى التي تنتقل فيها الحياة الحزبية من مفهومها السياسي الضيق إلى الرحاب الوطني العام، وتنتقل فيها البرامج الحزبية من الأيديولوجيات المتطرفة إلى البرامج التنموية التي تهم المواطن في مختلف المجالات... إنما الأمر مرتبط بطبيعة الحال بوجود رؤية لدى القيادة الجديدة لاطلاق ورشة تشريعية كاملة لتحقيق هذه الأهداف وبوجود رغبة حقيقية من القوى الفاعلة بتجاوز الهموم الخاصة إلى الشأن العام.
وكي تستقيم المعادلة أكثر وتنجح التجربة، يجب أن يكون شعار الرئيس الجديد... «المصري اولا»، فرخاء المواطن المصري وتحسين مستوى معيشته وظيفيا وتربويا وصحيا وعلميا والقضاء على التفاوت بين الفئات وتأمين فرص عمل وفتح الاقتصاد المصري على كل مجالات الاستثمار وتعميم ثقافة العمل والانتاج، كلها امور تشكل حصانة وطنية وتؤمن استقرارا وتعزز سيادة.
وعندما نقول إن «المصري أولا» فإنما نفعل ذلك لا من باب الدعوة إلى الانغلاق وإنما لأن تقدم «الخصوصية الوطنية» كانت شبه تهمة في عرف القوميين العرب الذين غلبوا في احيان كثيرة شعارات الوحدة والعروبة على تطوير الشأن المحلي بل لطالما كانت هذه الشعارات ستارا للتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية الاخرى. وبكل صراحة نقول اننا لا نريد لـ «إخوان» مصر وقد أصبحوا في سدة الرئاسة أن يتدخلوا في شؤون الدول الأخرى داعمين لهذا الطرف أو ذاك، بل لا نريد لهم بحجة الشعارات الدينية والأممية أن يعطوا أساسا هذا الانطباع.
مصر غنية بمفكريها ومشرعيها وهم اساسا من وضع دساتير دول عربية كثيرة، ومصر غنية بتاريخها وثقافتها وفنها وادبها وعلومها، ومصر رائدة في التجارب السياسية ومدرسة في الاصول الديبلوماسية وخبيرة متمرسة في الحرب والسلم، لذلك فنجاح مشروع نهضة جمهوريتها الثانية سيصيبنا بشظاياه الإيجابية وهو ما يجب أن ندعمه بكل قوة... أما التعثر لا سمح الله فسيزيد من العراقيل ليس في وجه المصريين فقط بل في وجوهنا جميعا.
جاسم بودي