«ماغنا كارتا»


في الصيف تهدأ المشاغل قليلا وتمنحنا العطل (التي لا تعرفها السلطة الرابعة إلا نسبيا) فرصة للعودة إلى قراءة التاريخ العالمي والإنساني وتحليل بعض محطاته بعين مختلفة عن عين القراءة الأولى... وهي فرصة للابتعاد ما أمكن عن الشأن المحلي الكويتي.
كثيرون درسوا ميثاق «ماغنا كارتا» الإنكليزي الذي اعتبر أحد العناصر التي غيّرت وجه العالم. كثيرون فتنوا به وبقدرته على تطوير المجتمعات السياسية من مرحلة إلى أخرى، وقيل إن الميثاق الذي صدر بداية عام 1215 ألهم الثورة الفرنسية ولاحقا دستور الدولة العظمى... الولايات المتحدة الأميركية.
باختصار، كانت بريطانيا تعيش في ذلك العام أزمة مركبة، داخليا وخارجيا. الوضع الاجتماعي سيئ نتيجة زيادة البطالة والعيش المستمر على نفير الحرب أو الاستعداد للحرب، والاقطاعيون يستميتون لفرض نفوذهم السياسي، والمؤسسة الدينية ممثلة بالكنيسة تريد السيطرة، والملك يتخذ قرارات ضريبية ومالية واقتصادية عشوائية ويعتبر أن صراعه مع الكنيسة والبارونات يوازي في الاهمية صراعه مع الجيران الاقليميين وبالاخص الجارة الكبرى فرنسا.
الوضع الاقليمي المتفجر انعكس أيضا على الداخل البريطاني، ففرنسا التي تريد الانتقام وجدتها فرصة سانحة لهزيمة العرش البريطاني في عقر داره، والملك البريطاني لا يتردد في عقد تحالفات مع الالمان وغيرهم للحد من الزحف الفرنسي. حصلت معركة 1214 الشهيرة التي أدت إلى هزيمة الانكليز. انتصر الملك فيليب في الحرب وخسر الملك جون حربين، واحدة على الجبهة واخرى في الداخل حيث حل البارونات كل خلافاتهم (وكانت كثيرة جدا) واتفقوا مع الكنيسة على مجموعة اصلاحات فرضوها فرضا على الملك بينها بنود تتعلق بالحريات العامة للافراد واخرى تتعلق بشكل اساسي بامتيازات البارونات وامتيازات التيار الديني الذي تتزعمه الكنيسة. أي ان الميثاق الذي عرف باسم «ماغنا كارتا» نص مثلا على عدم جواز توقيف أحد من دون محاكمة عادلة أو مصادرة املاك أحد من دون مسوغ قانوني أو أنتهاك حرية أحد بالمطلق من اسباب محددة وواضحة في التشريعات، وفي الوقت نفسه كرس حقوق البارونات وامتيازاتهم داخلا في تفاصيل هذه الامتيازات ومنها مثلا ما يتعلق بالميراث ونقل الملكيات والسيطرة على الاراضي وعدم جواز فرض ضرائب على الورثة... أما الكنيسة فنالت استقلالية دغدغت آمالها بالعودة إلى نفوذ العصور الغابرة.
من يقرأ التاريخ الانكليزي جيدا يعرف ان «ماغنا كارتا» لم تكن المحاولة الاصلاحية الاولى لكنها كانت الاولى التي تفرض فرضا من خلال عوامل عديدة أهمها:
ضعف الملك جون وخوضه حروبا خاسرة واعتماده سياسة المحاور الاقليمية واضطراره إلى الحكم بأسلوب رد الفعل وليس الفعل أمام طرف داخلي قوي هو البارونات بكل نفوذهم السياسي وتاريخهم الاقطاعي.
اتفاق البارونات على هدف مرحلي أدى إلى تناسي خلافاتهم وحروبهم وعمق تحالفهم مع الكنيسة.
دور المؤسسة الدينية الحاسم حيث يرى أكثر من مؤرخ انكليزي أن رجال الكنيسة كانوا يدعمون البارونات سرا ويدعمون الملك سرا كي يقفوا في النتيجة مع من يربح ويحقق مصالحهم.
الارتباط بالخارج وتحديدا بالملك الفرنسي الذي اعتبر التحالف مع البارونات استكمالا لحرب السيطرة على بريطانيا.
لكن التسويات العظيمة تأتي دائما في الامم العظيمة، فالانكليز الذين هللوا للماغنا كارتا بشكلها الاساسي وبشقها الاساسي الممثل بالحريات وتطوير النظام السياسي رفضوا لاحقا خروج الميثاق عن اهدافه الاصلاحية إلى اهدافه السياسية المصلحية، فبعد توقيع الميثاق توفي الملك جون واعتبر بعض البارونات ان الوقت حان للسيطرة على الحكم فطالبوا بمبايعة لويس ملك فرنسا ملكا على بريطانيا فيما كانت قواته تحتل فعليا اجزاء كثيرة من البلاد. ادرك البريطانيون وادركت الكنيسة ايضا أن أي إصلاح تفرضه توترات داخلية وصراعات سياسية مرتبطة بشهوة القفز إلى السلطة سيفتح الباب للاحتلال الخارجي ويؤدي إلى مبايعة الملك الفرنسي ويضيع بريطانيا، كما أدركوا أن أي إصلاح يتعلق بتطوير النظام السياسي من منطلقات وطنية صرفة هو انتصار لبريطانيا وللحريات في العالم... وهكذا كان.
أعلن البريطانيون المقاومة السياسية والعسكرية ضد المحتل الفرنسي وأعوانه في الداخل وذلك بدعم مباشر من الكنيسة التي اكتشفت أن مصالحها تكمن في الحفاظ على دورها لا في تجاوزه، رفض أعيان لندن ورجال الكنيسة لاحقا شروطا وبنودا وضعها البارونات في الميثاق الاولي للماغنا كارتا، وعندما بلغ الملك هنري وريث الملك جون سن الرشد اعاد توقيع ميثاق «ماغنا كارتا» مع حذف بنود سابقة واضافة بنود جديدة من خلال وثائق وعقود وعهود جديدة أقرها البريطانيون بمختلف انتماءاتهم مستفيدين من دروس التفرقة والاحتلال وضعف الحكم وتغليب مصلحة بعض الفرقاء الشخصية على مصالح البلد وتمادي بعض رجال الدين في لعب ادوار سياسية لم تحسب نتائجها.... أثبتت التجربة الانكليزية ان الاصلاح المفروض فرضا بفعل الشهوات السياسية الخاصة والدعم الاقليمي ينهي أمة، وأن الإصلاح التوافقي الذي تفرضه المصالح الوطنية العليا يجدد امة.
لم تكن «ماغنا كارتا» التي قرأنا عنها كثيرا وثيقة واحدة بل مجموعة وثائق استمر العمل على تطويرها وتعديلها بما يتلاءم وروح العصر لعقود وقرون. ليست ميثاق 1215 ولا 1225 ولا الذي اعيد اصداره 1237 ولا الذي وقع 1297 (تاريخ معتمد للخبراء الدستوريين). صار العقد جزءا من دستور غير مكتوب للامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. طورت بنودها الاصلاحية وطردت البنود السياسية وكرست مفهوما اسمه التعددية حمته بالتشريعات والقوانين وخرجت بريطانيا بالحقوقيين والمشرعين والتجار والصناعيين والمثقفين من دائرة (القصر - الاقطاع - الكنيسة) ودخلت بالتالي عصر الحريات والمجالس المنتخبة وألهمت تجربتها لاحقا الثورة الفرنسية التي استفادت من قيم بلد طالما حلم الملوك الفرنسيون بضمه.
أزعجناكم بقصص التاريخ... إنما كان لا بد من استراحة من الكويت.
جاسم بودي
كثيرون درسوا ميثاق «ماغنا كارتا» الإنكليزي الذي اعتبر أحد العناصر التي غيّرت وجه العالم. كثيرون فتنوا به وبقدرته على تطوير المجتمعات السياسية من مرحلة إلى أخرى، وقيل إن الميثاق الذي صدر بداية عام 1215 ألهم الثورة الفرنسية ولاحقا دستور الدولة العظمى... الولايات المتحدة الأميركية.
باختصار، كانت بريطانيا تعيش في ذلك العام أزمة مركبة، داخليا وخارجيا. الوضع الاجتماعي سيئ نتيجة زيادة البطالة والعيش المستمر على نفير الحرب أو الاستعداد للحرب، والاقطاعيون يستميتون لفرض نفوذهم السياسي، والمؤسسة الدينية ممثلة بالكنيسة تريد السيطرة، والملك يتخذ قرارات ضريبية ومالية واقتصادية عشوائية ويعتبر أن صراعه مع الكنيسة والبارونات يوازي في الاهمية صراعه مع الجيران الاقليميين وبالاخص الجارة الكبرى فرنسا.
الوضع الاقليمي المتفجر انعكس أيضا على الداخل البريطاني، ففرنسا التي تريد الانتقام وجدتها فرصة سانحة لهزيمة العرش البريطاني في عقر داره، والملك البريطاني لا يتردد في عقد تحالفات مع الالمان وغيرهم للحد من الزحف الفرنسي. حصلت معركة 1214 الشهيرة التي أدت إلى هزيمة الانكليز. انتصر الملك فيليب في الحرب وخسر الملك جون حربين، واحدة على الجبهة واخرى في الداخل حيث حل البارونات كل خلافاتهم (وكانت كثيرة جدا) واتفقوا مع الكنيسة على مجموعة اصلاحات فرضوها فرضا على الملك بينها بنود تتعلق بالحريات العامة للافراد واخرى تتعلق بشكل اساسي بامتيازات البارونات وامتيازات التيار الديني الذي تتزعمه الكنيسة. أي ان الميثاق الذي عرف باسم «ماغنا كارتا» نص مثلا على عدم جواز توقيف أحد من دون محاكمة عادلة أو مصادرة املاك أحد من دون مسوغ قانوني أو أنتهاك حرية أحد بالمطلق من اسباب محددة وواضحة في التشريعات، وفي الوقت نفسه كرس حقوق البارونات وامتيازاتهم داخلا في تفاصيل هذه الامتيازات ومنها مثلا ما يتعلق بالميراث ونقل الملكيات والسيطرة على الاراضي وعدم جواز فرض ضرائب على الورثة... أما الكنيسة فنالت استقلالية دغدغت آمالها بالعودة إلى نفوذ العصور الغابرة.
من يقرأ التاريخ الانكليزي جيدا يعرف ان «ماغنا كارتا» لم تكن المحاولة الاصلاحية الاولى لكنها كانت الاولى التي تفرض فرضا من خلال عوامل عديدة أهمها:
ضعف الملك جون وخوضه حروبا خاسرة واعتماده سياسة المحاور الاقليمية واضطراره إلى الحكم بأسلوب رد الفعل وليس الفعل أمام طرف داخلي قوي هو البارونات بكل نفوذهم السياسي وتاريخهم الاقطاعي.
اتفاق البارونات على هدف مرحلي أدى إلى تناسي خلافاتهم وحروبهم وعمق تحالفهم مع الكنيسة.
دور المؤسسة الدينية الحاسم حيث يرى أكثر من مؤرخ انكليزي أن رجال الكنيسة كانوا يدعمون البارونات سرا ويدعمون الملك سرا كي يقفوا في النتيجة مع من يربح ويحقق مصالحهم.
الارتباط بالخارج وتحديدا بالملك الفرنسي الذي اعتبر التحالف مع البارونات استكمالا لحرب السيطرة على بريطانيا.
لكن التسويات العظيمة تأتي دائما في الامم العظيمة، فالانكليز الذين هللوا للماغنا كارتا بشكلها الاساسي وبشقها الاساسي الممثل بالحريات وتطوير النظام السياسي رفضوا لاحقا خروج الميثاق عن اهدافه الاصلاحية إلى اهدافه السياسية المصلحية، فبعد توقيع الميثاق توفي الملك جون واعتبر بعض البارونات ان الوقت حان للسيطرة على الحكم فطالبوا بمبايعة لويس ملك فرنسا ملكا على بريطانيا فيما كانت قواته تحتل فعليا اجزاء كثيرة من البلاد. ادرك البريطانيون وادركت الكنيسة ايضا أن أي إصلاح تفرضه توترات داخلية وصراعات سياسية مرتبطة بشهوة القفز إلى السلطة سيفتح الباب للاحتلال الخارجي ويؤدي إلى مبايعة الملك الفرنسي ويضيع بريطانيا، كما أدركوا أن أي إصلاح يتعلق بتطوير النظام السياسي من منطلقات وطنية صرفة هو انتصار لبريطانيا وللحريات في العالم... وهكذا كان.
أعلن البريطانيون المقاومة السياسية والعسكرية ضد المحتل الفرنسي وأعوانه في الداخل وذلك بدعم مباشر من الكنيسة التي اكتشفت أن مصالحها تكمن في الحفاظ على دورها لا في تجاوزه، رفض أعيان لندن ورجال الكنيسة لاحقا شروطا وبنودا وضعها البارونات في الميثاق الاولي للماغنا كارتا، وعندما بلغ الملك هنري وريث الملك جون سن الرشد اعاد توقيع ميثاق «ماغنا كارتا» مع حذف بنود سابقة واضافة بنود جديدة من خلال وثائق وعقود وعهود جديدة أقرها البريطانيون بمختلف انتماءاتهم مستفيدين من دروس التفرقة والاحتلال وضعف الحكم وتغليب مصلحة بعض الفرقاء الشخصية على مصالح البلد وتمادي بعض رجال الدين في لعب ادوار سياسية لم تحسب نتائجها.... أثبتت التجربة الانكليزية ان الاصلاح المفروض فرضا بفعل الشهوات السياسية الخاصة والدعم الاقليمي ينهي أمة، وأن الإصلاح التوافقي الذي تفرضه المصالح الوطنية العليا يجدد امة.
لم تكن «ماغنا كارتا» التي قرأنا عنها كثيرا وثيقة واحدة بل مجموعة وثائق استمر العمل على تطويرها وتعديلها بما يتلاءم وروح العصر لعقود وقرون. ليست ميثاق 1215 ولا 1225 ولا الذي اعيد اصداره 1237 ولا الذي وقع 1297 (تاريخ معتمد للخبراء الدستوريين). صار العقد جزءا من دستور غير مكتوب للامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. طورت بنودها الاصلاحية وطردت البنود السياسية وكرست مفهوما اسمه التعددية حمته بالتشريعات والقوانين وخرجت بريطانيا بالحقوقيين والمشرعين والتجار والصناعيين والمثقفين من دائرة (القصر - الاقطاع - الكنيسة) ودخلت بالتالي عصر الحريات والمجالس المنتخبة وألهمت تجربتها لاحقا الثورة الفرنسية التي استفادت من قيم بلد طالما حلم الملوك الفرنسيون بضمه.
أزعجناكم بقصص التاريخ... إنما كان لا بد من استراحة من الكويت.
جاسم بودي