خيرالله خيرالله / السابع من نوفمبر العربي... والسابع من نوفمبر التونسي

تصغير
تكبير

قبل عشرين عاماً، يوم السابع من نوفمبر من العام 1987، كان موعد الافتتاح الرسمي لقمة عربية في عمان. كان كل شيء معداً لأن تكون القمة نقطة تحول في العلاقات العربية - العربية في ضوء مشارفة الحرب العراقية - الإيرانية على نهايتها، بعدما استمرت أكثر مما يجب وأنهكت العرب عموماً. انعقدت قمة عمان من أجل البحث في موضوع عودة العرب إلى مصر... أو عودة مصر إلى العرب لا فارق، بعد قطيعة استمرت ثمانية أعوام تلت توقيع معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية في مارس من العام 1979. اكتشف العرب في نهاية المطاف أن بقاء مصر خارج المنظومة العربية مستحيل خصوصاً بعدما كشفت الحرب العراقية - الإيرانية بين العامين 1980 و1988 ألا توازن إقليمياً يحفظ للعرب قدرة على الصمود في وجه كل التدخلات التي مصدرها الجوار، في غياب مصر. وكان الدليل الساطع على ذلك، اضطرار عراق صدّام حسين إلى الاستعانة بمصر أنور السادات عندما ضاقت به سبل الحصول على أنواع معينة من الأسلحة خلال السنوات الأولى للحرب مع إيران. كان ذلك في العام 1981 عندما استنجد العراق بمصر إثر توقف الاتحاد السوفياتي عن تزويده بأنواع معينة من الأسلحة والذخائر كان في أمس الحاجة إليها. لعبت وقتذاك سلطنة عمان دور الوسيط بين القاهرة وبغداد من أجل تأمين وصول أسلحة وذخائر مخزّنة لدى الجيش المصري إلى القوات العراقية التي كانت تواجه صعوبات كبيرة في المواجهة مع الإيرانيين...

في العام 1987، اضطرت كل الدول العربية، بما فيها سورية التي اعتبرت نفسها المستفيد الأول من القطيعة العربية مع مصر، إلى التراجع وإعادة مد الجسور مع القاهرة. مهد مؤتمر القمة الذي استضافته عمان وبدفع من الملك الحسين، رحمه الله، إلى تلك العودة. في عمان، بدأ العد العكسي لعودة مقرّ جامعة الدول العربية إلى القاهرة حيث توجد سفارة إسرائيلية! هناك من فهم المعنى التاريخي لقمة عمّان تلك وللقرارات التي اتخذتها وهناك من لم يفهم ذلك. هناك من لم يفهم أبعاد الفشل العربي في عزل مصر والنتائج المنطقية التي يفترض أن تترتب على عودة جامعة الدول العربية إلى القاهرة المتمسكة بالمعاهدة مع إسرائيل.

طغى الحدث العربي المتمثل في انعقاد قمة عمان التي عكست تحولاً كبيراً على الصعيد الإقليمي على حدث مهم آخر شهده المغرب العربي في ذلك اليوم. فقد فوجئ المشاركون في القمة بتغيير في تونس ارتدى طابعاً سلمياً. في يوم انعقاد القمة، تولى الرئيس زين العابدين بن علي الرئاسة خلفاً للرئيس الحبيب بورقيبة الذي تقدم في السن وفقد قدرته على ممارسة مسؤولياته. إذا كانت قمة عمان ساهمت في إعادة الوضع العربي إلى طبيعته نسبياً، أي إلى أن تكون مصر داخل المجموعة العربية، فإنّ التغيير الذي شهدته تونس كان أيضاً حدثاً كبيراً بكل المقاييس متى نظرنا إلى التجربة التي مر فيها البلد في العقدين الأخيرين.

ساهم التغيير الذي شهدته تونس في إنقاذ بلد عربي والمحافظة عليه في ظل ظروف داخلية وإقليمية في غاية التعقيد. من يريد إدراك أهمية الحدث التونسي، يستطيع أن يسأل نفسه ماذا كان سيحل بهذا البلد العربي المعتدل لو لم يحصل التغيير في الوقت المناسب؟ للاجابة عن هذا السؤال، لا بد من العودة بالذاكرة إلى خلف قليلاً واستعادة الظروف التي رافقت تولي الرئيس بن علي مهماته. كانت هناك قبل كل شيء محاولة يقوم بها الإسلاميون المتطرفون للاستيلاء على السلطة، مستفيدين من الوهن الذي كان يعاني منه النظام بسبب الوضع الصحي لبورقيبة وما رافقه من ترهل لمؤسسات الدولة. من لديه أدنى شك في ذلك عليه أن يأخذ في الاعتبار أن الأيام الأخيرة من عهد الرئيس الراحل، الذي لم يكن صاحياً سوى لساعات قليلة في اليوم، شهدت مواجهة مع الإسلاميين وتشدداً واضحاً تجاههم. كذلك، عليه أن يأخذ في الاعتبار أن بن علي باشر عهده بالتساهل مع الذين كانوا يعتبرون أنفسهم إسلاميين معتدلين إلى أن تبين ألا وجود لمثل هذا النوع من الإسلاميين، بل ان هدف هؤلاء استغلال الدين لتحقيق أهداف سياسية واضحة على رأسها الوصول إلى السلطة ولا شيء غير السلطة، بغية تغيير طبيعة المجتمع. كان لا بد في لحظة معينة من اتخاذ الإجراءات المطلوبة للحؤول دون تدهور الوضع التونسي. بعد أقل من سنة على حصول التغيير في تونس، في أكتوبر 1988، انفجر الوضع في الجزائر. كان الوضع في تونس مرشحاً لأن يكون أسوأ من الوضع الجزائري حيث سقط ما يزيد على مئة وخمسين ألف قتيل في خلال سنوات قليلة. في الجزائر، قتل مئات بل آلاف ذبحاً. لا يزال البلد يعاني حتى يومنا هذا من آثار حرب أهلية تسبب بها نظام يعتبر أن الإرهاب لا يمكن أن يعالج إلا عبر العنف والاستئصال من جهة وحركة إسلامية تظن من جهة أخرى أن السلطة في متناول اليد عبر الانتخابات...شرط ألا تكون هناك انتخابات سوى لمرة واحدة تتغير بعدها كل قوانين اللعبة الديموقراطية لمصلحة من يفوز في الانتخابات.

تكمن أهمية التجربة التونسية التي يمكن أن تكون هناك بعض المآخذ عليها، خصوصاً في مجالات معينة من بينها الإعلام الذي لم يمتلك القدرة على تسويقها بما يليق بها، إضافة بالطبع إلى غياب الحياة السياسية عن البلد كما في الماضي، بالتركيز على الجانب الاجتماعي. نجحت التجربة في إقامة طبقة متوسطة كبيرة، صارت العمود الفقري للمجتمع التونسي، تمتلك مصلحة في التطور والتقدم والانتماء إلى المستقبل بدل الغرق في متاهات التخلف التي تقود إلى مزيد من التردي والظلامية والتطرف والنزاعات الداخلية. نجحت في ذلك، رغم أن تونس بلد فقير بموارده الطبيعية التي تكاد أن تكون شبه معدومة مقارنة مع الجارين الليبي والجزائري. لكن الذي حصل أنه أمكن تعويض هذا النقص عبر التركيز على تنمية الثروة الإنسانية بالاعتماد على تطوير البرامج التربوية وتحديثها مع التمسك بالمكاسب التي حققتها المرأة منذ استقلال تونس. أكثر من ذلك جرى تطوير للقوانين التي تحافظ على حقوق المرأة بصفة كونها تمثل نصف المجتمع. وكما في أي مجتمع حديث على تماس مع العالم المتحضر، من غير الطبيعي ألا يكون هذا النصف منتجاً ومساهماً في زيادة الثروة الوطنية. اعتمدت تونس على الإنسان بما يمثله من ثروة واستطاعت، بشهادة الأرقام، الانتصار إلى حد كبير على الفكر المتطرف وعلى المتطرفين. إنه صراع لا تنفع معه الوسائل القمعية. ما ينفع هنا مزيج من الإجراءات في أساسها وجود طبقة وسطى واسعة قادرة على فهم أن التطرف بكل أشكاله هو عدوها الأوّل.

كان 7 نوفمبر العربي بداية إدراك لواقع يتمثل في أن المنطقة تغيّرت وأن على العرب التوقف عن المزايدة على بعضهم بعضاً. كانت قمة عمان التي انعقدت قبل عشرين عاماً محاولة عربية للتصالح مع الواقع. نجحت المحاولة جزئياً للأسف الشديد. هناك إلى الآن من يعتقد أن المتاجرة بالشعب الفلسطيني وقضيته يمكن أن تكون استثماراً سياسياً، وأن الانتصار على لبنان وشعبه بديل من الانتصار على إسرائيل. أما 7 نوفمبر التونسي فكان بداية تجربة تصب في حماية بلد عربي من التطرف بما يخدم شعبه ومحيطه في آن. كانت تونس المستقرة السند الحقيقي لليبيا لدى تعرضها إلى عقوبات ظالمة عندما اختارت الولايات المتحدة أن تكون الجماهيرية كبش الفداء في قضية لوكربي التي سيتبين يوماً أن جهات أخرى تقف وراءها. في كل الأحوال، بين السابع من نوفمبر 1987 العربي والسابع من نوفمبر 1987 التونسي، يكتشف المواطن العربي أن الأيام العربية ليست كلها أيام سود! المسألة مسألة فرص يمكن استغلالها. لم يستوعب العرب عموماً معنى قمة عمان للعام 1987 واعتبروا ما حصل مسألة عابرة. الفارق أن تونس تعاطت في العام 1987 بشكل جدي مع أزمتها وسعت إلى معالجتها بالعودة إلى الجذور، أي بالاتكال على المجتمع وربطه بمصالحه المتمثلة في التغيير والتطور والإصلاح...


خيرالله خيرالله


كاتب وصحافي لبناني مقيم في لندن

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي