يا بهية


هل نقترب من «مصر التي في خاطري»؟
سؤال فرض نفسه على المشهد السياسي العربي برمته مع بدء الانتخابات الرئاسية الحقيقية التعددية الأولى منذ آلاف السنين، في بلد هو القاطرة الفعلية للأزمنة والأمكنة، فحيثما تحضر مصر يحضر العرب وحيثما تغب يغيبوا.
ذهبت مصر إلى الحرب فذهبنا جميعا. اعتمدت خيار استعادة الحقوق بالتفاوض فاعتمدناه - مع بعض الاستثناءات - بل ذهب كثيرون إلى أبعد مما ذهبت إليه مصر إنما في السر وليس في العلن.
حكم العسكر مصر فتساقطت أنظمة عربية في قبضة العسكر. اعتمد مجلس قيادة الثورة قاعدة «التجربة والخطأ» في سن القوانين والتشريعات فاعتمدت مجالس قيادات الثورة في الأنظمة الأخرى قاعدة «الخطأ والخطأ» فيما اعتمد آخرون حتى الآن قواعد «التجربة والتجربة» لأن البوصلة ضائعة وما زالت ضائعة. طبق الضباط الأحرار النموذج الاشتراكي على طريقتهم في الحكم فهجم الضباط العرب على أملاك الناس لتحريرها من أصحابها وعلى الاتفاقات الدولية لتمزيقها وعلى المنشآت لتأميمها، وعندما غير الضباط الأحرار خططهم لحق بهم الضباط العرب فاختلطت الأمور وأعيد انتاج أنظمة لا هي اشتراكية ولا هي رأسمالية وتاهت خطط التنمية في خطط البقاء في السلطة وصار النظام هو القائد والقائد هو النظام، وصار البلد هو القائد والقائد هو البلد وصار الشعب هو القائد والقائد هو الشعب.
عادت مصر إلى الوسطية بين الديكتاتورية المطلقة والحكم الفردي المرن فعادت الأنظمة إلى هذا الموقع، ودائما مع بعض الاستثناءات، حاولت الخروج من ادارة بيروقراطية اشتراكية الى ليبرالية لا تلتهم حقوق محدودي الدخل فارتبكت أكثر الأنظمة التي تاجرت بالشعارات واكتشفت أن هذه الشعارات لا تقي من برد ولا تسمن من جوع. تمسكت بحكم مركزي موسع نشأت على جوانبه طبقة مستفيدة سياسيا واقتصاديا ففعلت الأنظمة الأخرى الشيء نفسه إنما بفظاظة أكبر خصوصا «جمهوريات التوريث».
بدأ الربيع العربي قرب مصر لكنه لم يأخذ هويته الحقيقية الا في مصر ولم ينتشر الا بعد مصر. طالب المصريون بالحرية والديموقراطية والمساواة والعدل والمشاركة في السلطة والثروة. رفضوا التوريث وتكميم الافواه والقمع وحكم الأجهزة فكانت ثورتهم رمزا للتحول العربي رغم الثمن الذي دفعوه من الأرواح والممتلكات... وكانت مصر عظيمة بهم.
مصر فعلا في موقع قيادي، لا بسبب حجمها الجغرافي والسكاني وموقعها الوسطي بين المشرق والمغرب وبين الشمال والجنوب، بل لان عبقرية الزمان فيها انتجت إرثا حضاريا ميزها بالقدرة على تجاوز الكثير من المصاعب والأزمات، فمن كان منارة الثقافة والتنوير والعلوم والآداب والفنون والتصنيع لابد أن ينتج أجيالا فاعلة متفاعلة صابرة على يومها متفائلة بغدها.
لم يكن المصري متطرفا أو عنيفا في الفكر والممارسة، وعندما كانت الاستثناءات تحصل كان المصريون يعتبرونها «حالات شاذة وطارئة وغريبة». لم يحكمها الملك بالعنف ولم يسقط في 23 يوليو 1952 ضحايا كما حصل في انقلابات عربية اخرى. شهدت حالات قمع وانتهاكات لحقوق الانسان واعتقالات لرجال الفكر تراجعت تدريجيا...
وحتى شهداء ثورة يناير التي فتحت الباب للعبور الى الجمهورية الثانية، وعلى رغم الألم الذي يدمي جراح أهلهم وعموم المصريين، إلا أنها كانت ثورة حضارية بكل معنى الكلمة لا تقارن نهائيا بما يحصل في دول أخرى يشهد ربيعها في اليوم الواحد سقوط ضحايا يفوق عددهم عدد ضحايا الثورة المصرية على امتداد أيامها.
أمس، قال أحد المرشحين للرئاسة وهو يدلي بصوته إن على الرئيس المصري أن يكون خادما للشعب المصري، فرد احد المعلقين السياسيين: «نتمنى عندما يصل أي رئيس إلى السلطة أن يبقى خادما لا أن يصبح فرعون»، والجميع فعلا يتمنى ذلك لان مصر الديموقراطية التعددية التي ظهرت أمس حيث يقف المرشحون للرئاسة في طوابير الاقتراع بين المواطنين مثلهم مثل «الغلابة» والفلاحين والعمال، هي القاطرة التي ستجبر المسار العربي على التصحيح، بشرط واحد هو ان تسن سلطة ما بعد الثورة قوانين وتشريعات لحراسة هذه المكتسبات العظيمة ومنع انحرافها. أي بصريح العبارة، يجب أن يتم تداول السلطة وفق دستور عصري متطور لمنع الرئاسة إلى الأبد وإنهاء معادلة «إما القصر أو القبر».
تقول الأغنية المصرية المشهورة التي أحدثت ضجة قبل عقود واعتبرت ردا على انتهاكات حقوق الإنسان زمان صلاح نصر: «مصر يمه يا بهية يمّو طرحه وجلابيه... الزمن شاب وانتي شابة هو رايح وانتي جيه»... كانوا يؤمنون في عز الشعبية الكاسحة للنظام الناصري آنذاك أن مصر شابة بينما النظام «شايب» وأن التجدد هو الهرم الرابع.
مصر «ولادة»، وعلى الدول العربية أن تجهز خيامها ومقارها الانتخابية... عاجلا أم آجلا.
جاسم بودي
سؤال فرض نفسه على المشهد السياسي العربي برمته مع بدء الانتخابات الرئاسية الحقيقية التعددية الأولى منذ آلاف السنين، في بلد هو القاطرة الفعلية للأزمنة والأمكنة، فحيثما تحضر مصر يحضر العرب وحيثما تغب يغيبوا.
ذهبت مصر إلى الحرب فذهبنا جميعا. اعتمدت خيار استعادة الحقوق بالتفاوض فاعتمدناه - مع بعض الاستثناءات - بل ذهب كثيرون إلى أبعد مما ذهبت إليه مصر إنما في السر وليس في العلن.
حكم العسكر مصر فتساقطت أنظمة عربية في قبضة العسكر. اعتمد مجلس قيادة الثورة قاعدة «التجربة والخطأ» في سن القوانين والتشريعات فاعتمدت مجالس قيادات الثورة في الأنظمة الأخرى قاعدة «الخطأ والخطأ» فيما اعتمد آخرون حتى الآن قواعد «التجربة والتجربة» لأن البوصلة ضائعة وما زالت ضائعة. طبق الضباط الأحرار النموذج الاشتراكي على طريقتهم في الحكم فهجم الضباط العرب على أملاك الناس لتحريرها من أصحابها وعلى الاتفاقات الدولية لتمزيقها وعلى المنشآت لتأميمها، وعندما غير الضباط الأحرار خططهم لحق بهم الضباط العرب فاختلطت الأمور وأعيد انتاج أنظمة لا هي اشتراكية ولا هي رأسمالية وتاهت خطط التنمية في خطط البقاء في السلطة وصار النظام هو القائد والقائد هو النظام، وصار البلد هو القائد والقائد هو البلد وصار الشعب هو القائد والقائد هو الشعب.
عادت مصر إلى الوسطية بين الديكتاتورية المطلقة والحكم الفردي المرن فعادت الأنظمة إلى هذا الموقع، ودائما مع بعض الاستثناءات، حاولت الخروج من ادارة بيروقراطية اشتراكية الى ليبرالية لا تلتهم حقوق محدودي الدخل فارتبكت أكثر الأنظمة التي تاجرت بالشعارات واكتشفت أن هذه الشعارات لا تقي من برد ولا تسمن من جوع. تمسكت بحكم مركزي موسع نشأت على جوانبه طبقة مستفيدة سياسيا واقتصاديا ففعلت الأنظمة الأخرى الشيء نفسه إنما بفظاظة أكبر خصوصا «جمهوريات التوريث».
بدأ الربيع العربي قرب مصر لكنه لم يأخذ هويته الحقيقية الا في مصر ولم ينتشر الا بعد مصر. طالب المصريون بالحرية والديموقراطية والمساواة والعدل والمشاركة في السلطة والثروة. رفضوا التوريث وتكميم الافواه والقمع وحكم الأجهزة فكانت ثورتهم رمزا للتحول العربي رغم الثمن الذي دفعوه من الأرواح والممتلكات... وكانت مصر عظيمة بهم.
مصر فعلا في موقع قيادي، لا بسبب حجمها الجغرافي والسكاني وموقعها الوسطي بين المشرق والمغرب وبين الشمال والجنوب، بل لان عبقرية الزمان فيها انتجت إرثا حضاريا ميزها بالقدرة على تجاوز الكثير من المصاعب والأزمات، فمن كان منارة الثقافة والتنوير والعلوم والآداب والفنون والتصنيع لابد أن ينتج أجيالا فاعلة متفاعلة صابرة على يومها متفائلة بغدها.
لم يكن المصري متطرفا أو عنيفا في الفكر والممارسة، وعندما كانت الاستثناءات تحصل كان المصريون يعتبرونها «حالات شاذة وطارئة وغريبة». لم يحكمها الملك بالعنف ولم يسقط في 23 يوليو 1952 ضحايا كما حصل في انقلابات عربية اخرى. شهدت حالات قمع وانتهاكات لحقوق الانسان واعتقالات لرجال الفكر تراجعت تدريجيا...
وحتى شهداء ثورة يناير التي فتحت الباب للعبور الى الجمهورية الثانية، وعلى رغم الألم الذي يدمي جراح أهلهم وعموم المصريين، إلا أنها كانت ثورة حضارية بكل معنى الكلمة لا تقارن نهائيا بما يحصل في دول أخرى يشهد ربيعها في اليوم الواحد سقوط ضحايا يفوق عددهم عدد ضحايا الثورة المصرية على امتداد أيامها.
أمس، قال أحد المرشحين للرئاسة وهو يدلي بصوته إن على الرئيس المصري أن يكون خادما للشعب المصري، فرد احد المعلقين السياسيين: «نتمنى عندما يصل أي رئيس إلى السلطة أن يبقى خادما لا أن يصبح فرعون»، والجميع فعلا يتمنى ذلك لان مصر الديموقراطية التعددية التي ظهرت أمس حيث يقف المرشحون للرئاسة في طوابير الاقتراع بين المواطنين مثلهم مثل «الغلابة» والفلاحين والعمال، هي القاطرة التي ستجبر المسار العربي على التصحيح، بشرط واحد هو ان تسن سلطة ما بعد الثورة قوانين وتشريعات لحراسة هذه المكتسبات العظيمة ومنع انحرافها. أي بصريح العبارة، يجب أن يتم تداول السلطة وفق دستور عصري متطور لمنع الرئاسة إلى الأبد وإنهاء معادلة «إما القصر أو القبر».
تقول الأغنية المصرية المشهورة التي أحدثت ضجة قبل عقود واعتبرت ردا على انتهاكات حقوق الإنسان زمان صلاح نصر: «مصر يمه يا بهية يمّو طرحه وجلابيه... الزمن شاب وانتي شابة هو رايح وانتي جيه»... كانوا يؤمنون في عز الشعبية الكاسحة للنظام الناصري آنذاك أن مصر شابة بينما النظام «شايب» وأن التجدد هو الهرم الرابع.
مصر «ولادة»، وعلى الدول العربية أن تجهز خيامها ومقارها الانتخابية... عاجلا أم آجلا.
جاسم بودي