تأملات / وسطية مصر في فكر جمال حمدان
| إبراهيم علي إبراهيم * |
كما أن الأمم لا توجد مصادفة، فإن الرجال لا يولدون عبثاً، وينطبق هذا الأمر على الباحث العظيم د. جمال حمدان ومعشوقته مصر؛ فالوطن عند جمال حمدان ليس مجرد مكان قد يعوضه عنه مكان آخر، وليس مجرد حيز يشغله، يقتصر نفعه عليه وإذا ما ضن عليه بالمنفعة، أبدله بالمديح هجاءً وبالثناء قذفاً وتجريحاً، فقد تمسك حمدان بمبدئه وعكف على التأليف في مسكن متواضع وفي عزلة عن الآخرين، حتى لقي ربه في ظروف غامضه يقال ان سببها أحد مؤلفاته التي شرع في تأليفها حباً في مصر وهدماً لحجج أعدائها.
تعرضت الشخصية المصرية في العصر الحديث للعديد من الصدمات التاريخية، بدءاً من الحملة الفرنسية التي أيقظتها من سبات القرون الوسطى بفعل العزلة التي فرضها النظام العثماني، وليس انتهاءً بهزيمة 67 التي شرخت إيمان المصري بنفسه، وثقته بمكانته، واحترامه لذاته؛ فلم يتخل الدكتور جمال حمدان فيلسوف الجغرافيا عن دوره الذي آمن به، وظل يؤديه إلى آخر أيام حياته، محاولاً نفض الغبار عن الجوانب الإيجابـية من وطنه أرضا وشعبا ومكانة ودوراً؛ رغم ما تعرض له حمدان ذاته من نـكران وحسد وتضيـيـق ألزمه عزلةً فرضها على نفسه.
فجاءت كتابات جمال حمدان مثل نيل سبتمبر تطمئن الأرض أنه ما يزال لها عشاق، وأن خصوبتها لابد أن تأتي حتى ولو من عَـرق أبنائها حيناً و من دمائهم حيناً آخر، فكان كتابه العبقري ((شخصية مصر دراسة في عبقرية المكان)) في محاولة لعلاج جرح النكسة، وتأكيداً على ثوابت غـُشيت أبصار البعض عن رؤيتها بفعل غبار المعركة الذي لم يسقط بعد.
احتلت وسطية مصر جزءاً من تفكير جمال حمدان في بحثه العظيم، وما أظن الوسطية في الفكر المصري شيئاً يسيراً أو مَـلمحاً عابراً يخلو من التأصيل الذي يفرضه المكان وتصقله التجارب وقد أكدته الأبحاث العميقة للعلماء والمفكرين ومنهم بطل هذا المقال.
ففي الفصل السابع من الكتاب الذي اختار له عنوان : (تعدد الأبعاد
والجوانب) الذي وضح فيه تعدد الأبعاد والجوانب في الشخصية المصرية يقول حمدان: ((تحتل مصر مكانا وسطا بين خطوط الطول والعرض، وبين مواقع الإنتاج والأقاليم الطبيعية، وبين القارات والمحيطات، وحتى بين الأجناس والسلالات والحضارات والثقافات، وليس معنى هذا أننا أمة نصف، ولكننا أمة وسط)) أمة متعددة الجوانب والأبعاد والآفاق مما يثري الشخصية الإقليمية والتاريخية، ويبرز عبقرية المكان فيها ويستمر حمدان معبراً عن عبقرية المكان إذ أخذت مصر الماء من الأقاليم الحارة، وسط افريقيا وشرقها ولم تأخذ منها الرطوبة القاتلة والمناخ القاسي، وأخذت موضع البحر المتوسط على ناصية الدنيا ولم تأخذ موقع الحبشة السحيق داخل اليابسة، أي أنها جمعت المحاسن من بعديها النيلي والمتوسطي وتركت منهما الأضداد والمساوئ، فمصر بذلك تكون قد أخذت مكاناً وموضعاً مقطراً مرشحاً خالياً من الشوائب، ثم أن البعد الأفريقي أمدنا بالحياة ماءً وسكاناً، والبعد الآسيوي أمدنا باللغة والحضارة والدين، قد تميل مصر أحيانا إلى بعدها الآسيوي بحكم ميل نهر النيل إلى ناحية المشرق، وأن المشرق هو طريق الفتح والغزو، وحتى على مستوى الأديان كانت مصر طرفاً في قصة التوحيد بفصولها الثلاثة، فقد كانت لموسى عليه السلام أرضا ومنطلقاً، ولعيسى عليه السلام ملجأ وملاذا ولمحمد (ص) هدية ومودة.
فالبعد الآسيوي في الشخصية المصرية قد استحوذ على جزء كبير من اهتمام الشخصية المصرية بفعل الصلات الحضارية والثقافية والسكانية مع آسيا منذ العصر الفرعوني حتى اليوم، عبر العديد من الطرق مثل طريق سيناء أو طريق القصير أو طريق السويس وهو في دورة كاملة كانت مصر عنصراً فاعلاً فيها إذ تقف مصر على بوابة أفريقيا وتنظر من نافذة آسيا، وقد شهد هذا البعد أغلب اندفاعات الـمـد المصري الذي وصل إلى حدود الأناضول، وشهد أغلب غزوات وحروب مصر الفاصلة، وتتركز أهمية البعد الآسيوي في أن مصر أخذت الشخصية العربية في اللغة والثقافة والدين، وقد بلورت قضية فلسطين قمة اندماج مصر في هذا البعد، الذي صدّر السكان والهجرات البشرية منذ الفتح الإسلامي؛ بدءاً من العرب ومروراً بالديلم والأكراد والشراكسة وصولاً لعرب الشام في القرن الفائت، وهو طريق الديانات السماوية الثلاث إلى قلب الوادي.
لكن البعد الأفريقي لم يتخل عن جاذبيته منذ عهد الفراعنة وحملات بلادبونت التي حملت المد المصري إلى قلب أفريقيا منذ القدم في اتجاه الجنوب، واستمر هذا التأثير البشري والحضاري وصولاً إلى عهد إسماعيل وفتوحاته في إفريقيا.
ثم أن هناك اتجاه آخر وهو بعد الصحراء الغربية والشريط الساحلي الشمالي الذي حمل العديد من الهجرات البشرية من الليبيين الذين أسسوا إحدى الأسرات الفرعونية، ثم جاء الامتداد الإسلامي في المغرب فأصبحت مصر بوابة التعريب بالنسبة للمغرب العربي، طريقاً للحج حمل المؤثرات المغربية بهدوء واستمرارية لتصب في التكوين المصري، يرمز إليه العديد من أضرحة الشيوخ بدءاً من سيدي براني إلى سيدي المرسي أبي العباس وحتى سيدي احمد البدوي وبذلك أصبح البعد الأفريقي ذا اتجاهين اتجاه ناحية الغرب واتجاه آخر ناحية الجنوب.
ثم ينتقل جمال حمدان إلى بعد آخر في الشخصية المصرية وهو البعد النيلي؛ إذ يمثل الصعيد في فكر جمال حمدان شرياناً إلى قلب القارة السمراء حتى وصل إلى أثيوبيا القديمة، وكما صدرت مصر حضارتها وعقيدتها الفرعونية إلى الجنوب، كررت دورها مع المسيحية والإسلام، وقد انطلق البعد النيلي لمصر بعد فتوحات القرن التاسع عشر في السودان حتى وصل إلى بحر العرب وبحر الغزال في السودان، ثم تحول إلى الشرق باتجاه الصومال وأريتريا وأثيوبيا
بفعل مستنقعات النيل ولم يوقفه هناك إلا سد الاستعمار.
ويمكن تركيز البعد النيلي في الشخصية المصرية بأنه بعد متصل زمانا منتشر مكاناً، يحمل طابعاً سياسياً، ذو رسالة حضارية، وفي المقابل فهو أكثر الأبعاد أهمية في التكوين المصري إذ هو أساس الوجود المصري كله بفعل أهمية النيل الحاضر دائماً في الشخصية المصرية.
وينتقل بنا المفكر الجليل إلى البعـد الرابع في الشخصية المصرية وهو البعد المتوسطي، إذ يرى أن البعد المتوسطي أصيل في الشخصية المصرية، وقد حاول بعض المثقفين نسبة مصر كلياً إلى حوض البحر المتوسط دون غيرها من أبعاد الشخصية المصرية، لكنه اعتبر ذلك ردة تاريخية عفا عليها الزمن، أما الرصد التحليلي لعلاقة مصر ببعدها المتوسطي فقد شهد أدواراً عديدة من الصعود والهبوط ؛بدءاً من العلاقات الفرعونية ببلاد الشام وجزيرة كريت ثم الاتصال بالعالـَــمين اليوناني والروماني وصولاً إلى حالة النشاط التجاري في العصر المملوكي، ثم العصر العثماني الذي شهد انصهاراً لجاليات من ألبانيا وتركيا وذوبانهم في التكوين المصري، ثم جاءت قناة السويس لتؤكد ذلك البعد الذي وثقته الهجرات البشرية من أوروبا لتشهد مصر جاليات يونانية وإيطالية و فرنسية ذاب العديد منهم في التكوين المصري العام، ومن ثم فالبعد المتوسطي في التكوين المصري بعد حضاري ساهم في التكوين العام في الشخصية المصرية؛ وهكذا تتعدد الجوانب والأبعاد في الشخصية المصرية لتصل بها إلى الوسطية.
مدرس مصري بالكويت
كما أن الأمم لا توجد مصادفة، فإن الرجال لا يولدون عبثاً، وينطبق هذا الأمر على الباحث العظيم د. جمال حمدان ومعشوقته مصر؛ فالوطن عند جمال حمدان ليس مجرد مكان قد يعوضه عنه مكان آخر، وليس مجرد حيز يشغله، يقتصر نفعه عليه وإذا ما ضن عليه بالمنفعة، أبدله بالمديح هجاءً وبالثناء قذفاً وتجريحاً، فقد تمسك حمدان بمبدئه وعكف على التأليف في مسكن متواضع وفي عزلة عن الآخرين، حتى لقي ربه في ظروف غامضه يقال ان سببها أحد مؤلفاته التي شرع في تأليفها حباً في مصر وهدماً لحجج أعدائها.
تعرضت الشخصية المصرية في العصر الحديث للعديد من الصدمات التاريخية، بدءاً من الحملة الفرنسية التي أيقظتها من سبات القرون الوسطى بفعل العزلة التي فرضها النظام العثماني، وليس انتهاءً بهزيمة 67 التي شرخت إيمان المصري بنفسه، وثقته بمكانته، واحترامه لذاته؛ فلم يتخل الدكتور جمال حمدان فيلسوف الجغرافيا عن دوره الذي آمن به، وظل يؤديه إلى آخر أيام حياته، محاولاً نفض الغبار عن الجوانب الإيجابـية من وطنه أرضا وشعبا ومكانة ودوراً؛ رغم ما تعرض له حمدان ذاته من نـكران وحسد وتضيـيـق ألزمه عزلةً فرضها على نفسه.
فجاءت كتابات جمال حمدان مثل نيل سبتمبر تطمئن الأرض أنه ما يزال لها عشاق، وأن خصوبتها لابد أن تأتي حتى ولو من عَـرق أبنائها حيناً و من دمائهم حيناً آخر، فكان كتابه العبقري ((شخصية مصر دراسة في عبقرية المكان)) في محاولة لعلاج جرح النكسة، وتأكيداً على ثوابت غـُشيت أبصار البعض عن رؤيتها بفعل غبار المعركة الذي لم يسقط بعد.
احتلت وسطية مصر جزءاً من تفكير جمال حمدان في بحثه العظيم، وما أظن الوسطية في الفكر المصري شيئاً يسيراً أو مَـلمحاً عابراً يخلو من التأصيل الذي يفرضه المكان وتصقله التجارب وقد أكدته الأبحاث العميقة للعلماء والمفكرين ومنهم بطل هذا المقال.
ففي الفصل السابع من الكتاب الذي اختار له عنوان : (تعدد الأبعاد
والجوانب) الذي وضح فيه تعدد الأبعاد والجوانب في الشخصية المصرية يقول حمدان: ((تحتل مصر مكانا وسطا بين خطوط الطول والعرض، وبين مواقع الإنتاج والأقاليم الطبيعية، وبين القارات والمحيطات، وحتى بين الأجناس والسلالات والحضارات والثقافات، وليس معنى هذا أننا أمة نصف، ولكننا أمة وسط)) أمة متعددة الجوانب والأبعاد والآفاق مما يثري الشخصية الإقليمية والتاريخية، ويبرز عبقرية المكان فيها ويستمر حمدان معبراً عن عبقرية المكان إذ أخذت مصر الماء من الأقاليم الحارة، وسط افريقيا وشرقها ولم تأخذ منها الرطوبة القاتلة والمناخ القاسي، وأخذت موضع البحر المتوسط على ناصية الدنيا ولم تأخذ موقع الحبشة السحيق داخل اليابسة، أي أنها جمعت المحاسن من بعديها النيلي والمتوسطي وتركت منهما الأضداد والمساوئ، فمصر بذلك تكون قد أخذت مكاناً وموضعاً مقطراً مرشحاً خالياً من الشوائب، ثم أن البعد الأفريقي أمدنا بالحياة ماءً وسكاناً، والبعد الآسيوي أمدنا باللغة والحضارة والدين، قد تميل مصر أحيانا إلى بعدها الآسيوي بحكم ميل نهر النيل إلى ناحية المشرق، وأن المشرق هو طريق الفتح والغزو، وحتى على مستوى الأديان كانت مصر طرفاً في قصة التوحيد بفصولها الثلاثة، فقد كانت لموسى عليه السلام أرضا ومنطلقاً، ولعيسى عليه السلام ملجأ وملاذا ولمحمد (ص) هدية ومودة.
فالبعد الآسيوي في الشخصية المصرية قد استحوذ على جزء كبير من اهتمام الشخصية المصرية بفعل الصلات الحضارية والثقافية والسكانية مع آسيا منذ العصر الفرعوني حتى اليوم، عبر العديد من الطرق مثل طريق سيناء أو طريق القصير أو طريق السويس وهو في دورة كاملة كانت مصر عنصراً فاعلاً فيها إذ تقف مصر على بوابة أفريقيا وتنظر من نافذة آسيا، وقد شهد هذا البعد أغلب اندفاعات الـمـد المصري الذي وصل إلى حدود الأناضول، وشهد أغلب غزوات وحروب مصر الفاصلة، وتتركز أهمية البعد الآسيوي في أن مصر أخذت الشخصية العربية في اللغة والثقافة والدين، وقد بلورت قضية فلسطين قمة اندماج مصر في هذا البعد، الذي صدّر السكان والهجرات البشرية منذ الفتح الإسلامي؛ بدءاً من العرب ومروراً بالديلم والأكراد والشراكسة وصولاً لعرب الشام في القرن الفائت، وهو طريق الديانات السماوية الثلاث إلى قلب الوادي.
لكن البعد الأفريقي لم يتخل عن جاذبيته منذ عهد الفراعنة وحملات بلادبونت التي حملت المد المصري إلى قلب أفريقيا منذ القدم في اتجاه الجنوب، واستمر هذا التأثير البشري والحضاري وصولاً إلى عهد إسماعيل وفتوحاته في إفريقيا.
ثم أن هناك اتجاه آخر وهو بعد الصحراء الغربية والشريط الساحلي الشمالي الذي حمل العديد من الهجرات البشرية من الليبيين الذين أسسوا إحدى الأسرات الفرعونية، ثم جاء الامتداد الإسلامي في المغرب فأصبحت مصر بوابة التعريب بالنسبة للمغرب العربي، طريقاً للحج حمل المؤثرات المغربية بهدوء واستمرارية لتصب في التكوين المصري، يرمز إليه العديد من أضرحة الشيوخ بدءاً من سيدي براني إلى سيدي المرسي أبي العباس وحتى سيدي احمد البدوي وبذلك أصبح البعد الأفريقي ذا اتجاهين اتجاه ناحية الغرب واتجاه آخر ناحية الجنوب.
ثم ينتقل جمال حمدان إلى بعد آخر في الشخصية المصرية وهو البعد النيلي؛ إذ يمثل الصعيد في فكر جمال حمدان شرياناً إلى قلب القارة السمراء حتى وصل إلى أثيوبيا القديمة، وكما صدرت مصر حضارتها وعقيدتها الفرعونية إلى الجنوب، كررت دورها مع المسيحية والإسلام، وقد انطلق البعد النيلي لمصر بعد فتوحات القرن التاسع عشر في السودان حتى وصل إلى بحر العرب وبحر الغزال في السودان، ثم تحول إلى الشرق باتجاه الصومال وأريتريا وأثيوبيا
بفعل مستنقعات النيل ولم يوقفه هناك إلا سد الاستعمار.
ويمكن تركيز البعد النيلي في الشخصية المصرية بأنه بعد متصل زمانا منتشر مكاناً، يحمل طابعاً سياسياً، ذو رسالة حضارية، وفي المقابل فهو أكثر الأبعاد أهمية في التكوين المصري إذ هو أساس الوجود المصري كله بفعل أهمية النيل الحاضر دائماً في الشخصية المصرية.
وينتقل بنا المفكر الجليل إلى البعـد الرابع في الشخصية المصرية وهو البعد المتوسطي، إذ يرى أن البعد المتوسطي أصيل في الشخصية المصرية، وقد حاول بعض المثقفين نسبة مصر كلياً إلى حوض البحر المتوسط دون غيرها من أبعاد الشخصية المصرية، لكنه اعتبر ذلك ردة تاريخية عفا عليها الزمن، أما الرصد التحليلي لعلاقة مصر ببعدها المتوسطي فقد شهد أدواراً عديدة من الصعود والهبوط ؛بدءاً من العلاقات الفرعونية ببلاد الشام وجزيرة كريت ثم الاتصال بالعالـَــمين اليوناني والروماني وصولاً إلى حالة النشاط التجاري في العصر المملوكي، ثم العصر العثماني الذي شهد انصهاراً لجاليات من ألبانيا وتركيا وذوبانهم في التكوين المصري، ثم جاءت قناة السويس لتؤكد ذلك البعد الذي وثقته الهجرات البشرية من أوروبا لتشهد مصر جاليات يونانية وإيطالية و فرنسية ذاب العديد منهم في التكوين المصري العام، ومن ثم فالبعد المتوسطي في التكوين المصري بعد حضاري ساهم في التكوين العام في الشخصية المصرية؛ وهكذا تتعدد الجوانب والأبعاد في الشخصية المصرية لتصل بها إلى الوسطية.
مدرس مصري بالكويت