ارفعوا أياديكم عن القضاء

تصغير
تكبير
ندخل مباشرة في صلب الموضوع... القضاء تاج على رأس الكويت وأي إساءة له إساءة للكويت رأسا وجسدا.

ما هذه المهزلة التي تحصل؟ كيف تجرأ بعض الكويتيين على استمراء الإساءة للسلطة القضائية وهي حصننا وملاذنا وسور البلد؟ لماذا ذهب البعض بعيدا في محاولة إرهاب السلطة القضائية ورجالها؟ ولماذا انحدر المستوى السياسي الكويتي إلى هذا الدرك الأسفل الذي يضع القضاء في موقع التهديد والوعيد؟

هل يعرف من يتعرض بهذا الشكل السافر للسلطة القضائية أنه يهدم أساسا من الأسس الحافظة للكويت؟ وهل يعقل أن يصل خطاب مرشحين وسياسيين إلى القول بأنه «إذا صدر حكم كذا فسنفعل كذا» وسنتظاهر ونحرك الجماهير؟ هل صارت الساحات محاكم للنقض والاستئناف والطعن والتمييز؟ هل صارت الفوضى هي البديل للمؤسسات؟ وهل يراد للكويتيين أن يخسروا الركيزة الصلبة التي تحمي حاضرهم ومستقبلهم كي يقود الغوغاء حاضر ومستقبل أبنائنا؟

في الواقع، نرفع «العقل» ونؤدي التحية لرجال السلطة القضائية الذين لم ترهبهم الحملات ولم تحرك التهديدات شعرة في رؤوسهم. أولئك هم الابطال حماة المؤسسات الذين أعطوا الكويت أملا جديدا للمستقبل، وأولئك هم المسؤولون الحقيقيون الذين ردوا للمؤسسات اعتبارها بعدما تخاذلت الحكومات المتعاقبة وسمحت بتداخل السلطات... بل بزحف الشارع على المؤسسات.

يمكن في ظل الحراك السياسي الكويتي أن تطغى السلطة التشريعية على السلطة التنفيذية أو العكس. يمكن أن تهز قضية ما الحياة العامة فتنفرز المواقف وتتشظى قبليا ومذهبيا وطائفيا. يمكن أن تواجه السلطة أزمات وتحديات أمنية سواء تعلق الأمر بتهديدات إقليمية أو بأعمال تخريبية داخلية، كل هذه الأمور عاشتها الكويت وخبرتها، لكنها كانت مثل الموج العالي الذي ينسحب بعد فترة مخلفا خرابا نعكف جميعا على إصلاحه... إلا القضاء أيها السادة، فحصانته لم تأت من فراغ، وإذا وصلت حسابات الجهل والاندفاع والغباء حدود الطعن فيه وتهميشه فهنا المؤامرة بعينها سواء أدرك أصحاب الحسابات أم لم يدركوا، لأن السلطة القضائية إذا انهارت فستنهار أمور كثيرة ولن نتمكن من إصلاحها، وسيتحول الموج العالي إلى «تسونامي» أزمات يجرف الأخضر واليابس.

ثم ماذا زرعت السلطة القضائية كي تحصد كل هذا الهجوم؟

القضاء الكويتي أيها السادة هو الذي أعاد النظر بقانون التجمعات ما مكن كثيرين من التعبير عن رأيهم بل من تحقيق مطالبهم، وأثبت انه حارس قوي وامين للدستور والقانون والديموقراطية والحريات العامة.

القضاء الكويتي أوقف أحكاما وأعاد العمل بأخرى رغم أن التواقيع عليها أتت من أعلى سلطة في البلاد، فلا رأس السلطة اعترض ولا الجسم القضائي ساير أو تجاوب أو نافق.

القضاء الكويتي أصدر أحكاما تتعلق بالوحدة الوطنية ونبذ الخطاب الطائفي أو القبلي أو الانقسامي ولو أعاد نواب وسياسيون قراءتها لخجلوا من أنفسهم. لم تكن أحكاما بقدر ما كانت دروسا في الوطنية والأخلاق. ولو دققتم في هوية القضاة الذين أصدروا هذه الاحكام وانتماءاتهم لزادكم ذلك فخرا وإعجابا بهم، فهم حكموا بالعدل والمنطق والقانون والمصلحة العامة متجاوزين كل الاعتبارات الشخصية والخاصة... بعكس نواب ووزراء باعوا قسمهم وضمائرهم لإرضاء ابن الطائفة أو القبيلة، بل اكثر من ذلك زاروا المخافر ليل نهار متوسطين لمجرمين وسارقين ومخالفين فقط لانهم من أبناء الطائفة أو القبيلة.

والقضاء الكويتي أيها السادة أوقف الكثير من قضايا الفساد وصان المال العام وتابع ويتابع قضايا اخرى مازالت موضع شبهة ولن يتركها إلا بعد ان يقول كلمته النهائية. والقضاء الكويتي اوقف الكثير من حالات الظلم التي تعرض لها مواطنون «غير مدعومين» سواء أتى الظلم من هيئات مدنية أو امنية.

عشرات ومئات الامثلة يمكن ان تكتب في هذا السياق، لكننا لسنا محامين للسلطة القضائية بل خائفين على الكويت، ونحمد الله ان رجال القضاء وهم جزء من النسيج الاجتماعي باتوا يدركون اليوم أن هناك من يريد ادخال القضاء في لعبة السياسة القذرة، فيشيد بهذا الحكم ان كان لمصلحته وينتقد ذاك اذا كان ضده ويجتهد لايجاد مثالب واخطاء في حكم ثالث ان كان «بين بين». يوافق هنا ويعترض هناك بقدر ما يخدم هذا الحكم أو ذاك تطلعاته الشخصية وحركته السياسية للوصول الى ما خطط له.

نعرف ان السلطة القضائية في الكويت تملك من التماسك والقدرة و«الاستذباح» على البر بقسم العدالة ما لا يملكه آخرون، لكن لا بأس من الاعتراف ايضا بدور الحكومات المتعاقبة في الإساءة لهذه السلطة، فبعض الأحكام تأخر تنفيذه لأنه خضع للعبة المساومة مع المجلس والنواب، كما ان «الترهيب» النيابي الذي قوبل به «الترغيب» الحكومي أخّر تحويل بعض القضايا وأساء إلى هيبة السلطات كلها... امور كثيرة حصلت وتتحمل الحكومة مسؤوليتها اوصلتنا الى يوم نرى فيه مرشحا يستهزئ مثلا بالقضاء ويقارنه بإحدى منظمات مراقبة الانتخابات، ونرى فيه مرشحا آخر يعتبر حكم القضاء هدما للنظام الدستوري والسياسي، ومرشحا ثالثا يهدد بتصحيح حكم قضائي في... الشارع.

قدر الكويت ان تكون مصونة بقضائها، محمية بقوانينها ومؤسساتها، قوية بقضاتها، ونحمد الله على بقاء السلطة القضائية قوية وفاعلة ومتفاعلة، ونسأل الله ان يهدي الجميع الى الطريق الذي يصون المؤسسات ويحميها، وفي طليعتها القضاء الذي يستحق عناية فائقة من السلطتين التشريعية والتنفيذية لدعم استقلاليته وتغطية الثغرات التي يمكن ان تشوب عمله وفق التقارير والمذكرات المرفوعة من رجال القضاء انفسهم ليتمكنوا من أداء واجبهم المقدس في خدمة العدالة من دون ضغوط.

نعم، القضاء اليوم في مرمى النيران، ومن يطلق النار لا يتقي الله في بلده ولا يعرف انه يطلق النار على الكويت... وأبنائها.



جاسم بودي
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي