الشارع


الشارع بالمعنى السياسي تحت عنوان «الرأي العام» هو جزء من النظام الديموقراطي في الدول الديموقراطية بطبيعة الحال. أما في العالم الثالث والأنظمة الشبيهة فالشارع جزء من رأي السلطة حتى لو كان في غالبيته معارضا لها لأن السلطة لم تصل الى القصر بالآليات الانتخابية المعروفة بل بـ«الآليات» العسكرية الثقيلة.
تغيرت الدنيا والسلطة وأشكال الحكم وتطورت لغة العصر والتكنولوجيا ووسائل المعرفة والاستقبال والارسال. لم يعد الشارع كما كان. صار بإمكان الطفل أن يصور بهاتفه النقال رجل أمن يضرب ويسحل لتنتشر الصورة في كل وسائل الاعلام العالمية ويتحرك «شارع» آخر ضاغطا على حكومته كي تضغط الأخيرة على هذا النظام أو ذاك لوقف القمع والسماح بحرية التعبير.
إلى وقت قريب، كان الشارع العربي جزءا من النظام. يريدونه أن يتحرك فيتحرك.تخرج طلائع الحزب الحاكم أو القبيلة الحاكمة أو أنصار الزعيم إلى الطرقات مع الموظفين والطلاب وحتى سائقي سيارات الأجرة، ومن لا يفعل ذلك لا يعود لا إلى عمله ولا إلى مدرسته. تغيرت الدنيا والسلطة وبدأ الشارع يبحث عن نظام آخر من خلال تنظيم التظاهرات والاعتصامات. حقق نجاحات ومني بإخفاقات ومع ذلك قرر عدم العودة الى عباءة السلطة لأنه أدرك أن الوطن أهم من الدولة وأن الدولة أهم من السلطة. خرج باحثا عن ثوابت أخرى في وطن مختلف، وعن دولة أخرى أكثر عدالة، وعن سلطة أخرى لا يشعر معها بأي مهانة... باختصار خرج يبحث عن حرية وكرامة.
ومثلما ان للقمع ثمنا فللخروج إلى الشارع أيضا أثمان، لكن هؤلاء الفتية بصدورهم العارية الذين رفعوا الشعار السلمي للتغيير يدركون أن عودة عقارب الساعة إلى الوراء ستضاعف الاثمان، وهم على يقين بأن التغيير يحتاج إلى وقت وأن الفوضى والانفلات والعنف والتخريب واردة جدا مع اقتراب تحقيق الاهداف لأنهم عاشوا في أنظمة «إما أنا او الفوضى» و«إما حكمي أو الطوفان». خصوصا أن ثقافة الخلاف والاختلاف لم تكن موجودة لعقود وأن الديموقراطية كانت دائما سلعة تقايض بالامن وأن الحريات أمر «مكروه» يقايض بالاستقرار.
العرب يشهدون من خلال الشارع مرحلة تأسيسية، وسواء تحقق كل «ما يريده الشعب» أم لم يتحقق إلا أن أشياء كثيرة تغيرت وستتغير. بعض الانظمة لم يقرأ جيدا ما يحصل فكان سقوطه مفاجئا حتى لأهل بيته. بعضهم قرأ بعينه التي يغطيها الرمد وتصرف بمنطق الانتقام من شعب كان يعتبره جزءا من «مزرعته»، فزاد على تاريخه المليء بالمجازر... مجازر. بعضهم انتبه مبكرا إلى وجوب عدم الركون للجيش كونه جزءا من نسيج الشارع فحيده وأنشأ على جانبيه قوات النخبة والحــــــرس والكتائب الخاصة وفرق الموت المسماة فرق الأمن. بعضهم يفاوض وبعضهم يناور وبعضهم لا يريد أن يصدق أنه ليس التاريخ ولا الوطن.
ودائما دائما تحضر «المؤامرة» في الشارع المعارض للسلطة وتغيب في الشارع الموالي لها. يصبح المتظاهرون «متآمرين» أو في أفضل الأحوال «جهلة» أما من يتولى التصدي «للمتآمرين والخونة» فهم أيضا نسيج غريب عجيب، ومن يتمعن مليا في ممارسات فرق الأمن الخاصة والعامة التي تتولى تعذيب المعتقلين أو قتلهم والتمثيل بجثثهم كما نشاهد في بعض ما يبث على الفضائيات، يشك للحظة في أنهم من بني آدم بل ويعتقد أنهم كانوا ربما في «أقفاص» أو أماكن معزولة عن التمدن والتدين، وأن إبقاء هؤلاء في جوع دائم الى العلم والثقافة والتحضر والقيم جزء من أهداف النظام في تكوين جيش من الأميين لا تستقبل أدمغتهم سوى تعاليم الغاب.
هذه الصورة العامة توصل الى أمرين:
الأول أن حركة الشارع العربي لن تتوقف خصوصا تلك المنادية بالحرية والكرامة والمعتمدة على مبدأ السلمية، وأن على الأنظمة تخفيف الخسائر الوطنية بتغيير النهج القمعي وملاقاة الشارع في رغبة الإصلاح.
والثاني أن حركة الشارع في الدول العربية التي تعيش في ظل دولة دستور ومؤسسات وقوانين وديموقراطية وحريات ومجالس منتخبة وإعلام حر وتملك كل الأدوات الدستورية للرقابة والمحاسبة... يجب أن تكون حركة واضحة الأهداف والشعارات والمعالم توصل رأي الشارع إلى المؤسسات ولا تأخذ المؤسسات إلى الشارع.
جاسم بودي
تغيرت الدنيا والسلطة وأشكال الحكم وتطورت لغة العصر والتكنولوجيا ووسائل المعرفة والاستقبال والارسال. لم يعد الشارع كما كان. صار بإمكان الطفل أن يصور بهاتفه النقال رجل أمن يضرب ويسحل لتنتشر الصورة في كل وسائل الاعلام العالمية ويتحرك «شارع» آخر ضاغطا على حكومته كي تضغط الأخيرة على هذا النظام أو ذاك لوقف القمع والسماح بحرية التعبير.
إلى وقت قريب، كان الشارع العربي جزءا من النظام. يريدونه أن يتحرك فيتحرك.تخرج طلائع الحزب الحاكم أو القبيلة الحاكمة أو أنصار الزعيم إلى الطرقات مع الموظفين والطلاب وحتى سائقي سيارات الأجرة، ومن لا يفعل ذلك لا يعود لا إلى عمله ولا إلى مدرسته. تغيرت الدنيا والسلطة وبدأ الشارع يبحث عن نظام آخر من خلال تنظيم التظاهرات والاعتصامات. حقق نجاحات ومني بإخفاقات ومع ذلك قرر عدم العودة الى عباءة السلطة لأنه أدرك أن الوطن أهم من الدولة وأن الدولة أهم من السلطة. خرج باحثا عن ثوابت أخرى في وطن مختلف، وعن دولة أخرى أكثر عدالة، وعن سلطة أخرى لا يشعر معها بأي مهانة... باختصار خرج يبحث عن حرية وكرامة.
ومثلما ان للقمع ثمنا فللخروج إلى الشارع أيضا أثمان، لكن هؤلاء الفتية بصدورهم العارية الذين رفعوا الشعار السلمي للتغيير يدركون أن عودة عقارب الساعة إلى الوراء ستضاعف الاثمان، وهم على يقين بأن التغيير يحتاج إلى وقت وأن الفوضى والانفلات والعنف والتخريب واردة جدا مع اقتراب تحقيق الاهداف لأنهم عاشوا في أنظمة «إما أنا او الفوضى» و«إما حكمي أو الطوفان». خصوصا أن ثقافة الخلاف والاختلاف لم تكن موجودة لعقود وأن الديموقراطية كانت دائما سلعة تقايض بالامن وأن الحريات أمر «مكروه» يقايض بالاستقرار.
العرب يشهدون من خلال الشارع مرحلة تأسيسية، وسواء تحقق كل «ما يريده الشعب» أم لم يتحقق إلا أن أشياء كثيرة تغيرت وستتغير. بعض الانظمة لم يقرأ جيدا ما يحصل فكان سقوطه مفاجئا حتى لأهل بيته. بعضهم قرأ بعينه التي يغطيها الرمد وتصرف بمنطق الانتقام من شعب كان يعتبره جزءا من «مزرعته»، فزاد على تاريخه المليء بالمجازر... مجازر. بعضهم انتبه مبكرا إلى وجوب عدم الركون للجيش كونه جزءا من نسيج الشارع فحيده وأنشأ على جانبيه قوات النخبة والحــــــرس والكتائب الخاصة وفرق الموت المسماة فرق الأمن. بعضهم يفاوض وبعضهم يناور وبعضهم لا يريد أن يصدق أنه ليس التاريخ ولا الوطن.
ودائما دائما تحضر «المؤامرة» في الشارع المعارض للسلطة وتغيب في الشارع الموالي لها. يصبح المتظاهرون «متآمرين» أو في أفضل الأحوال «جهلة» أما من يتولى التصدي «للمتآمرين والخونة» فهم أيضا نسيج غريب عجيب، ومن يتمعن مليا في ممارسات فرق الأمن الخاصة والعامة التي تتولى تعذيب المعتقلين أو قتلهم والتمثيل بجثثهم كما نشاهد في بعض ما يبث على الفضائيات، يشك للحظة في أنهم من بني آدم بل ويعتقد أنهم كانوا ربما في «أقفاص» أو أماكن معزولة عن التمدن والتدين، وأن إبقاء هؤلاء في جوع دائم الى العلم والثقافة والتحضر والقيم جزء من أهداف النظام في تكوين جيش من الأميين لا تستقبل أدمغتهم سوى تعاليم الغاب.
هذه الصورة العامة توصل الى أمرين:
الأول أن حركة الشارع العربي لن تتوقف خصوصا تلك المنادية بالحرية والكرامة والمعتمدة على مبدأ السلمية، وأن على الأنظمة تخفيف الخسائر الوطنية بتغيير النهج القمعي وملاقاة الشارع في رغبة الإصلاح.
والثاني أن حركة الشارع في الدول العربية التي تعيش في ظل دولة دستور ومؤسسات وقوانين وديموقراطية وحريات ومجالس منتخبة وإعلام حر وتملك كل الأدوات الدستورية للرقابة والمحاسبة... يجب أن تكون حركة واضحة الأهداف والشعارات والمعالم توصل رأي الشارع إلى المؤسسات ولا تأخذ المؤسسات إلى الشارع.
جاسم بودي