الواطي


لا علاقة لهذا الموضوع مباشرة بما جرى في دول عربية من اقتحامات لمقار الأمن وإخراج وثائق وكشف انتهاكات. هو محاولة لاقتحام مقار نفسية لكشف أحط ما فيها في عالم يشك كثيرون بقدرته على التغير الحقيقي.
في «الوجيز» و«الوسيط» لا تفسير لكلمة «الواطي» التي دأب العامة على ترديدها، إنما في الصفحة 1540 من «المنجد» اتضح أن لها سندا بالفصحى، فـ«وطي» أتت بمعنى توطية أي خفض وحط، و«واطٍ» هو المنخفض، والرجل «الواطي» هو الدنيء الحقير.
وبين دفتي الدناءة والحقارة تجتمع كل الصفات السيئة التي يمكن أن يتخيلها إنسان، فـ«الواطي» هو الشخص الذي لا يمكن أن يؤتمن على أرض وعرض وشرف ومال وأبناء وسر وأمانات وعمل وصداقة. هو قذارة متنقلة مهما كان ثمن البدلة التي تغلفها غاليا أو لبوس البراءة والعفة والتقوى التي يضعها على وجهه مقنعا... إنه بمنزلة أحط من الحيوانات مهما كانت مفترسة لأنها لا تخدع ولا تطعن في الظهر ويمكن اتقاء شرها بالحيطة والحذر.
كاتب التقارير لأجهزة أمن الدولة بزملائه وأصدقائه وأفراد عائلته وأبناء محيطه هو الإنسان «الواطي»، وممارس التعذيب على الأفراد في أقبية التحقيق هو الإنسان «الواطي»، والمستغل لمنصبه الأمني من أجل تصفية حسابات خاصة وتلبيس التهم لهذا وذاك هو أيضا الإنسان «الواطي»، والملاحق للشباب والناشطين لتجنيدهم بالترهيب والترغيب هو «الواطي»، ومن أدمن الظلام وحاك المؤامرات وخاف من نور الشمس وتهرب من المواجهات الى منطقة «فلان قال وفلان فعل» هو الإنسان «الواطي».
و«الواطي» موجود في كل الدول، المتقدمة والمتأخرة، لكنه يعشعش أكثر في العالم الثالث حيث الأنظمة لا تفهم شعبها ولا تعرف ما يدور في بلدها وفي العالم إلا من خلال التقارير الأمنية واعتمادا على أجهزة ثبت عند أول منعطف أنها لا تحمي أسيادها أولا قبل أن نقول إنها فرطت بأمن البلد. «الواطي» ينتعش اكثر في الدول المركزية الضعيفة ديموقراطيا، فيتجسس على زملائه في العمل والإدارات حتى لو كانوا من أنصار الحاكم بغية إبعادهم أكثر والاقتراب أكثر طالما أن الولاء والتزلف والطاعة هي عناصر الترقي لا الكفاءة. وقد يكون مستشارا أعماه الحقد وأسرته العقد الشخصية وحفزته مصالحه المالية فيوغر صدر صاحب القرار على هذا وذاك تبريرا للفشل وخوفا من أن يطوله سيف المحاسبة، وقد يكون ممن يكتبون التقارير في رفاقهم وخصوصا في المجال الاعلامي حيث يمكن للصحافي أن يدعي النقاش الموضوعي فيستدرج زميلا او مسؤولا إلى مواقف معينة في جلسات خاصة ويقنعه بمبدئيته وإنسانيته ثم «يطعنه» بمحضر مذيّل بملاحظات وتوصيات إلى أجهزة الأمن كي «يوديه» وراء الشمس في الحد الأقصى أو يقطع لقمة عيشه في الحد الأدنى.
والمشكلة ان بعض مسؤولي الأمن في عالمنا العربي امتهنوا «الوطاوة» فخلطوا بين الأمن وبين السلطة أو الحزب، فإذا كانوا بخير وقيادات الدولة بخير فالأمن بخير وهذا خطأ أساسي لأن الأمن أمن المواطن والوطن أولا. عذبوا وجندوا وحشدوا ومارسوا الفرقة بين أبناء المجتمع وقمعوا وهددوا وتدخلوا في الخصوصيات وتباهوا عبر وسائل الإعلام بقدراتهم على تأديب خلق الله، ثم اكتشفوا أن كل البناء الذي رفعوه كان من ورق أو قش، إذ سرعان ما انهار ووجدوا أنفسهم أمام ضحاياهم وجها لوجه في محاكمات التاريخ والثورات والانتفاضات.
الحرية المسؤولة ليست خطرا بل القمع وتكميم الأفواه هو الخطر. التحوط واجب... والتعذيب جريمة. المعلومات حق... وفبركتها أو استخدامها في الأمور الشخصية والمصلحية خطيئة. التعبير عن حبك للقائد أو النظام أو الحكم خيارك... ومنع الناس من التعبير عن رفضها وانتقادها واعتراضها انتحار. الانتباه ضرورة... والتجسس خسة. المواجهة شرف... وكتابة التقارير قرف.
كثيرون سيفكرون بعدما حصل ما حصل وما سيحصل بالطريق الذي كانوا يسيرون فيه. مسؤولون في الأجهزة الأمنية العربية سيتحسسون رقابهم. زوار الفجر ربما ساعدتهم الظروف على الالتحاق بعائل في بلاد غير معروفة لأن الانتربول سيلاحقهم في الأنظمة المحترمة ويعيدهم إلى بلادهم لغسل ما تبقى من عمرهم في زنزانة صغيرة، كل من عذب أو قتل معتقلا سيتوقع العار له ولأفراد عائلته... وكل من ربح نفسه وإن خسر الوظيفة لرفضه القمع وانتهاك حقوق البشر ومخالفة الشرع والدين والضمير والقانون هو إنسان منتصر ومنصور.
ما يحصل في العالم العربي اليوم وتحديدا في مصر وتونس وليبيا (عجّل الله فرجها) سيشهد انحسارا في مستوى «الوطاوة» مع انكشاف الوثائق ويؤسس لمرحلة أخرى تنتشر فيها تدريجيا عدوى احترام أجهزة أمن الدولة لحقوق الإنسان وتفرغها لمواجهة المخاطر الحقيقية... اللهم إلا إذا كان مرض «الوطاوة» لدى البعض من النوع المستفحل المنتشر الذي يصعب الشفاء منه.
جاسم بودي
في «الوجيز» و«الوسيط» لا تفسير لكلمة «الواطي» التي دأب العامة على ترديدها، إنما في الصفحة 1540 من «المنجد» اتضح أن لها سندا بالفصحى، فـ«وطي» أتت بمعنى توطية أي خفض وحط، و«واطٍ» هو المنخفض، والرجل «الواطي» هو الدنيء الحقير.
وبين دفتي الدناءة والحقارة تجتمع كل الصفات السيئة التي يمكن أن يتخيلها إنسان، فـ«الواطي» هو الشخص الذي لا يمكن أن يؤتمن على أرض وعرض وشرف ومال وأبناء وسر وأمانات وعمل وصداقة. هو قذارة متنقلة مهما كان ثمن البدلة التي تغلفها غاليا أو لبوس البراءة والعفة والتقوى التي يضعها على وجهه مقنعا... إنه بمنزلة أحط من الحيوانات مهما كانت مفترسة لأنها لا تخدع ولا تطعن في الظهر ويمكن اتقاء شرها بالحيطة والحذر.
كاتب التقارير لأجهزة أمن الدولة بزملائه وأصدقائه وأفراد عائلته وأبناء محيطه هو الإنسان «الواطي»، وممارس التعذيب على الأفراد في أقبية التحقيق هو الإنسان «الواطي»، والمستغل لمنصبه الأمني من أجل تصفية حسابات خاصة وتلبيس التهم لهذا وذاك هو أيضا الإنسان «الواطي»، والملاحق للشباب والناشطين لتجنيدهم بالترهيب والترغيب هو «الواطي»، ومن أدمن الظلام وحاك المؤامرات وخاف من نور الشمس وتهرب من المواجهات الى منطقة «فلان قال وفلان فعل» هو الإنسان «الواطي».
و«الواطي» موجود في كل الدول، المتقدمة والمتأخرة، لكنه يعشعش أكثر في العالم الثالث حيث الأنظمة لا تفهم شعبها ولا تعرف ما يدور في بلدها وفي العالم إلا من خلال التقارير الأمنية واعتمادا على أجهزة ثبت عند أول منعطف أنها لا تحمي أسيادها أولا قبل أن نقول إنها فرطت بأمن البلد. «الواطي» ينتعش اكثر في الدول المركزية الضعيفة ديموقراطيا، فيتجسس على زملائه في العمل والإدارات حتى لو كانوا من أنصار الحاكم بغية إبعادهم أكثر والاقتراب أكثر طالما أن الولاء والتزلف والطاعة هي عناصر الترقي لا الكفاءة. وقد يكون مستشارا أعماه الحقد وأسرته العقد الشخصية وحفزته مصالحه المالية فيوغر صدر صاحب القرار على هذا وذاك تبريرا للفشل وخوفا من أن يطوله سيف المحاسبة، وقد يكون ممن يكتبون التقارير في رفاقهم وخصوصا في المجال الاعلامي حيث يمكن للصحافي أن يدعي النقاش الموضوعي فيستدرج زميلا او مسؤولا إلى مواقف معينة في جلسات خاصة ويقنعه بمبدئيته وإنسانيته ثم «يطعنه» بمحضر مذيّل بملاحظات وتوصيات إلى أجهزة الأمن كي «يوديه» وراء الشمس في الحد الأقصى أو يقطع لقمة عيشه في الحد الأدنى.
والمشكلة ان بعض مسؤولي الأمن في عالمنا العربي امتهنوا «الوطاوة» فخلطوا بين الأمن وبين السلطة أو الحزب، فإذا كانوا بخير وقيادات الدولة بخير فالأمن بخير وهذا خطأ أساسي لأن الأمن أمن المواطن والوطن أولا. عذبوا وجندوا وحشدوا ومارسوا الفرقة بين أبناء المجتمع وقمعوا وهددوا وتدخلوا في الخصوصيات وتباهوا عبر وسائل الإعلام بقدراتهم على تأديب خلق الله، ثم اكتشفوا أن كل البناء الذي رفعوه كان من ورق أو قش، إذ سرعان ما انهار ووجدوا أنفسهم أمام ضحاياهم وجها لوجه في محاكمات التاريخ والثورات والانتفاضات.
الحرية المسؤولة ليست خطرا بل القمع وتكميم الأفواه هو الخطر. التحوط واجب... والتعذيب جريمة. المعلومات حق... وفبركتها أو استخدامها في الأمور الشخصية والمصلحية خطيئة. التعبير عن حبك للقائد أو النظام أو الحكم خيارك... ومنع الناس من التعبير عن رفضها وانتقادها واعتراضها انتحار. الانتباه ضرورة... والتجسس خسة. المواجهة شرف... وكتابة التقارير قرف.
كثيرون سيفكرون بعدما حصل ما حصل وما سيحصل بالطريق الذي كانوا يسيرون فيه. مسؤولون في الأجهزة الأمنية العربية سيتحسسون رقابهم. زوار الفجر ربما ساعدتهم الظروف على الالتحاق بعائل في بلاد غير معروفة لأن الانتربول سيلاحقهم في الأنظمة المحترمة ويعيدهم إلى بلادهم لغسل ما تبقى من عمرهم في زنزانة صغيرة، كل من عذب أو قتل معتقلا سيتوقع العار له ولأفراد عائلته... وكل من ربح نفسه وإن خسر الوظيفة لرفضه القمع وانتهاك حقوق البشر ومخالفة الشرع والدين والضمير والقانون هو إنسان منتصر ومنصور.
ما يحصل في العالم العربي اليوم وتحديدا في مصر وتونس وليبيا (عجّل الله فرجها) سيشهد انحسارا في مستوى «الوطاوة» مع انكشاف الوثائق ويؤسس لمرحلة أخرى تنتشر فيها تدريجيا عدوى احترام أجهزة أمن الدولة لحقوق الإنسان وتفرغها لمواجهة المخاطر الحقيقية... اللهم إلا إذا كان مرض «الوطاوة» لدى البعض من النوع المستفحل المنتشر الذي يصعب الشفاء منه.
جاسم بودي