«يوسف القرضاوي: الإسلام والحداثة»... نظرة تحليلية بعيون إسرائيلية
غلاف الكتاب
| إعداد عبدالعليم الحجار |
«يوسف القرضاوي: الاسلام والحداثة»... للوهلة الاولى يثير هذا العنوان الاستغراب اذ انه من غير المألوف ان يتم الربط بين الاسلام والحداثة على اعتبار ان غالبية المتشددين الاسلاميين يعتبرون الحداثة مرادفة للبدعة... «وكل بدعة ضلالة... وكل ضلالة في النار».**
ويزداد الاستغراب اذا علمنا ان الكتاب الذي يحمل العنوان المذكور آنفا صادر عن «مركز موشيه ديان للدراسات الشرق أوسطية والافريقية»، وهذا المركز هو جزء من «كلية سالي اينتن للعلوم الانسانية» التابعة لجامعة تل ابيب الاسرائيلية، والواقع ان سبب الاستغراب هنا يكمن في ان الكتاب يصور توجهات وافكار القرضاوي باعتبارها نموذجا مثاليا وايجابيا لما ينبغي ان يكون عليه الاسلام المعاصر.
مؤلف الكتاب هو «صامويل هيلفونت» الذي يعمل استاذا للغات الاجنبية والدراسات الاقليمية في قسم دراسات الشرق الادنى بجامعة برينستون الاميركية.
ويسلط الكتاب الضوء التحليلي على جوانب فكرية تبين كيف ان مفاهيم الحداثة قد اسهمت في صياغة وتشكيل وجهات النظر المعاصرة التي يتبناها المفكر الاسلامي البارز يوسف القرضاوي.
ويعتقد مؤلف الكتاب أن هذا العمل «يرسي الأساس اللازم لإطلاق مناقشة حول الحداثة من خلال مراجعة أفكار فلاسفة بارزين، أمثال كانط وهيغل بالإضافة إلى أفكار علماء اجتماع معاصرين مثل هابرماس، واستناداً إلى فهم هؤلاء للحداثة، فإن هذا العمل يوضح كيف أسهم تزايد التعليم، ووسائل الاتصال والهجرة، في تغيير الطريقة التي ينظر بها المسلمون إلى دينهم».
ويضع هذا العمل القرضاوي في منظور تاريخي من خلال مراجعة تطور مفهوم الحداثة في العالم الإسلامي على مدى الـ 200 عام الفائتة. ويعقب ذلك استعراض تحليل لوجهات نظر القرضاوي حول القضايا ذات الصلة بذلك المفهوم، بما في ذلك العلم ووسائل الاتصال الجماهيرية، والجهاد، والعلاقات الدولية، والديموقراطية، بالإضافة إلى قضايا المرأة.
الاستنتاجات، التي خلص إليها هذا العمل، تقوم على أساس مئات من الفتاوى والخطب الدينية والمقابلات التي تم بثها للقرضاوي عبر وسائل إعلام عربية، كما أنها تقوم على أساس مصادر ثانوية أخرى ذات صلة، سواء بالانكليزية أو العربية.
ولم يسبق أن تم نشر اي عمل بهذا القدر من التعمق، أو الاسهاب حول الدكتور القرضاوي باللغة الانكليزية.
يقول هيلفونت في مقدمة دراسته التحليلية: «على الرغم من أن هناك عدداً من العلماء المسلمين الذين يمكن تعريفهم بأنهم يتمتعون بقدر استثنائي من النفوذ، فإن أي بحث حول مسألة الحداثة سيفضي دون شك إلى اسم واحد أكثر من كل الأسماء الأخرى، ألا وهو اسم يوسف القرضاوي. فالقرضاوي كان القوة الدافعة وراء تشكيل «الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين»، كما أنه يشغل منصب رئيس «المجلس الاوروبي للافتاء والأبحاث».
وتشير الدراسة إلى أن «غيليس كيبل يؤكد على أن القرضاوي هو الذي «يضبط نغمة لغة الخطاب الديني السني في شتى أرجاء العالم» كما أن «المجلس الإسلامي البريطاني يرى أنه (القرضاوي) هو «العالم الإسلامي الأكثر هيمنة على مستوى العالم حالياً».
ووفقاً للمؤلف فإنه «بسبب المكانة التي يتمتع بها القرضاوي كواحد من أهم العلماء المسلمين على مستوى العالم، فإنه اجتذب إليه أعداداً كبيرة من المؤيدين والمنتقدين على حد سواء، فبينما يصفه مفكرون غربيون بارزون بأنه «معتدل» و«إصلاحي» هناك آخرون يصفونه بأنه عكس ذلك تماماً، ففي العام 2004، على سبيل المثال، وقع أكثر من 2500 مفكر مسلم من 23 دولة على التماس دعا الأمم المتحدة إلى انشاء محكمة لمحاكمة من سموهم بـ «منظري الإرهاب»، وذكر ذلك الالتماس القرضاوي بالاسم، كما وصفه أنه أحد «شيوخ الموت».
ويرى هيلفونت أنه «من الواضح أن هناك خلافات ملموسة في الآراء بين مؤيدي القرضاوي ومنتقديه... لكن عند مقارنته بعلماء مسلمين آخرين فإنه يبدو أكثر اعتدالاً بكثير من مفكرين غربيين كثر».
ويمضي هيلفونت قائلاً إن «معظم تلك الخلافات تركز على ما إذا كان ينبغي الحكم على القرضاوي من منظور المعايير الإسلامية أو الغربية»، مشيراً إلى أن هذه الدراسة اختارت ألا تحكم عليه من منظور إسلامي أو غربي. ويضيف المؤلف موضحاً: «انني أحاول من خلال هذه الدراسة أن أفهم القرضاوي باعتباره عالماً إسلامياً في إطار مفهوم الحداثة، فكتابات القرضاوي مليئة بمفاهيم حداثية وعصرية مثل الديموقراطية والدفاع عن حقوق المرأة، بالإضافة إلى حقيقة أن العلاقة بين هذه المفاهيم وبين الإسلام هي الجانب الأبرز في أفكاره».
وبعد الاستفاضة في إلقاء الضوء على النظريات والدراسات المتعلقة بمفاهيم الحداثة عبر التاريخ، يخلص المؤلف في ختام مقدمة دراسته إلى القول إن «محور التركيز الرئيسي الخاص بهذه الدراسة هو تحديد كيف أثرت مفاهيم الحداثة على الفكر الإسلامي وعلى فكر القرضاوي تحديداً. لكنه من المهم أيضاً أن نفهم كيف أثرت تلك المفاهيم، التي انطلقت من الغرب، على منطقة الشرق الأوسط».
وتتألف الدراسة من خمسة فصول يسلط كل فصل منها الضوء والتحليل على محور من محاور الخط الفكري الذي ينتهجه الدكتور القرضاوي. فالفصل الأول يندرج تحت عنوان «الحداثة في منطقة الشرق الأوسط»، والثاني تحت عنوان «منهج القرضاوي ازاء الحداثة» أما الثالث والرابع والخامس والسادس فتندرج على التوالي تحت عناوين «الجهاد» و«العلاقات مع غير المسلمين» و«الديموقراطية» و«المرأة».
ونلقي الضوء هنا على الفصل الثاني تحديداً الذي يتناول مفهوم الحداثة في فكر القرضاوي.
منهج القرضاوي ازاء الحداثة
الفصل الثاني من الدراسة يتناول بالتحليل النهج الذي يتبناه القرضاوي ازاء مفاهيم الحداثة وعلاقتها بتطور الفكر الإسلامي.
وفي هذا السياق، يشير المؤلف إلى أن «العلم والتكنولوجيا والتنمية ووسائل الاتصال الجماهيري قد أسهمت بشكل كبير في الترويج لمفاهيم الحداثة والعصرنة. ومن هذا المنطلق فإنه لا عجب أن القرضاوي يتعامل مع تلك الموضوعات في مناسبات كثيرة».
ويضيف المؤلف موضحاً أن القرضاوي يعالج تلك القضايا من منطلق كونه معروفاً بانتهاج «الوسطية الإسلامية» التي يتميز بها فكره العام. ويرى المؤلف أن «للقرضاوي إسهامات مهمة كثيرة في مجال الفكر الإسلامي، لكنه ربما يشتهر أكثر بكونه مؤسس ما يعرف بالمدرسة الوسطية في الفكر الإسلامي».
وفي موضع آخر يرى المؤلف أن «ما يميز فكر القرضاوي هو أنه لا يسمح فقط بدمج المعارف والعلوم الغربية المعاصرة في نسيج الإسلام، بل يعتبر ذلك أمراً واجباً من الناحية الشرعية». لكن المؤلف يستدرك قائلاً أنه على الرغم من أنه من الواضح أن القرضاوي منفتح على الأفكار الآتية من الغرب، فإنه لا ينبغي أن نفترض أن ذلك يعني أنه (القرضاوي) يدعو إلى أن يذوب الفكر الإسلامي في غمار الفكر الغربي.
ويمضي المؤلف موضحاً: «انطلاقاً من فهم القرضاوي للمدرسة الوسطية، يمكن القول أنه من الواضح أنه يدعو إلى بلورة وتطور شكل عصري جداً من الإسلام. وعلى الرغم من أنه (القرضاوي) ينظر إلى الماضي طلباً للإلهام، فإنه يحاول في الوقت ذاته أن يجعل الإسلام أكثر ارتباطاً وتفاعلاً مع العصر الراهن، وأكثر تطلعاً إلى المستقبل. وهذه الايديولوجية الوسطية كانت وما زالت لها تأثير واضح جداً على فكر القرضاوي طوال حياته، كما أنها أثرت دون شك على الكيفية التي ينظر بها إلى الدور الذي ينبغي أن تلعبه وسائل الإعلام في نشر أفكار الوسطية الإسلامية».
القرضاوي ودور وسائل الإعلام
يشير المؤلف إلى أن القرضاوي يؤمن بشدة بأهمية الدور الذي يمكن لوسائل الإعلام أن تلعبه في سبيل نشر أفكار الوسطية الإسلامية. وفي هذا الصدد، يذكر المؤلف أن القرضاوي «يتعامل بحذر وحرص مع ذلك الأمر، لكنه وعلى عكس علماء الدين الراديكاليين في السعودية، وفي حركة طالبان مثلاً، يعلن بوضوح أن وسائل الإعلام ليست «شريرة» في المطلق، وأنها من الممكن استخدامها من أجل الصالح العام، وتوظيفها كأداة لنشر رسالة الدين الإسلامي إلى كل الأمم حول العالم».
العلم والتكنولوجيا
لا يجد المؤلف أي شك في أن القرضاوي يولي القضايا المتعلقة بالعلم والتكنولوجيا المعاصرة أهمية قصوى إلى درجة أنه يؤكد دائماً على أنه لا يمكن لأي دعوة تجديدية إسلامية أن تتجاهل العلم والتكنولوجيا، وذلك على الرغم من أن مبادئ الفكر العلمي والتكنولوجي (الآتية من الغرب) تفرض إشكالية أمام المسلمين الذين يؤمنون بأن نصوص القرآن تنطوي على الحقائق المطلقة التي ينبغي رفض أي شيء يتعارض معها.
وتشير الدراسة إلى أن القرضاوي أعلن في أكثر من مناسبة إلى تضامنه وتأييده لدعوات مفكرين إسلاميين إلى اطلاق مبادرات تنويرية إسلامية تهدف إلى إعادة تقييم الأفكار الأصولية الإسلامية ازاء مبادئ البحث والتفكير العلمي. كما أيد القرضاوي أصواتاً دعت إلى «أسلمة» مناهج البحث العلمي المعاصرة، وذلك على أساس أنه لا يوجد أي تعارض أو تناقض بين الوحي الرباني (المتمثل في القرآن الكريم) وبين مبادئ العلم.
ولتوضيح تلك الفكرة، يوضح المؤلف أن فهم القرضاوي للعلم الحديث من منظور إسلامي يتجلى من خلال تفسيره للآية القرآنية التي تقول «والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة، ويخلق ما لا تعلمون» النحل آية 8. ففي تفسيره لهذه الآية القرآنية، يرى القرضاوي أن عبارة «ويخلق ما لا تعلمون» هي إشارة ربانية إلى «السيارات والقطارات والطائرات والمركبات الفضائية، علاوة على كل مظاهر التقدم العلمي الأخرى».
وينوه المؤلف إلى أن ما يميز فكر القرضاوي هو أنه لا يتوقف عند النص الحرفي للآيات القرآنية، بل يتجاوز ذلك وصولاً إلى المبادئ. فعلى سبيل المثال، تقول الآية القرآنية «واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم» الانفال الآية 60. وفي سياق تفسيره لهذه الآية يقول القرضاوي أن الخيول كانت بمثابة المركبات العسكرية في وقت نزول تلك الآية، لكن الأحوال تغيرت الآن ولم تعد الخيول تستخدم في الحروب، ولذلك فإن «خيول» الحروب المعاصرة هي الدبابات والمركبات المدرعة، وغير ذلك من الأسلحة الحديثة التي يتم استخدامها في عصرنا الراهن. ومن هذا المنطلق فإنه تفسير النص القرآني ينبغي ان يكون في ضوء المعطيات العصرية وفقاً لما يراه القرضاوي.
ويختتم المؤلف دراسته بالقول ان القرضاوي لا يختلف عن غيره من المفكرين الحداثيين، سواء كانوا إسلاميين أو غربيين، في انه «يناضل باستمرار» في سبيل التوصل إلى تعريف واضح لمفهوم الحداثة، كما أنه يسعى دائماً إلى رسم حد فاصل واضح بين الحداثة الإسلامية والحداثة الغربية.
ووفقاً للدراسة فإن القرضاوي يرى أن الحداثة الإسلامية لن تقبل سوى ما يعتبرها جوانب إيجابية للتطور العلمي المعاصر الآتي من الغرب، وذلك من خلال تطبيق المبادئ والأخلاقيات القرآنية بهدف استبعاد الجوانب غير المرغوبة إسلامياً.
ووفقاً لما يراه المؤلف فإن القرضاوي يؤمن بأنه يستطيع أن يسهم في إيجاد بديل حداثي للحضارة الغربية، وهو البديل الذي يأمل القرضاوي أنه سيصبح في المستقبل أكثر جاذبية وقبولاً في نظر المسلمين وغير المسلمين على حد سواء».
وتخلص الدراسة إلى استنتاج تحليلي مفاده أنه «على الرغم من أن القرضاوي بذل جهداً شاقاً في سبيل تحويل رؤيته تلك إلى واقع ملموس، فإن مسألة انفتاح العالم الإسلامي امام مفاهيم الحداثة ما زالت تواجه تحديات إضافية». فوسائل الإعلام العصرية ومناهج التعليم الحديثة ما زالت تجلب معها أفكاراً جديدة تجد مقاومة ومعارضة من جانب الفكر الديني الإسلامي التقليدي
«يوسف القرضاوي: الاسلام والحداثة»... للوهلة الاولى يثير هذا العنوان الاستغراب اذ انه من غير المألوف ان يتم الربط بين الاسلام والحداثة على اعتبار ان غالبية المتشددين الاسلاميين يعتبرون الحداثة مرادفة للبدعة... «وكل بدعة ضلالة... وكل ضلالة في النار».**
ويزداد الاستغراب اذا علمنا ان الكتاب الذي يحمل العنوان المذكور آنفا صادر عن «مركز موشيه ديان للدراسات الشرق أوسطية والافريقية»، وهذا المركز هو جزء من «كلية سالي اينتن للعلوم الانسانية» التابعة لجامعة تل ابيب الاسرائيلية، والواقع ان سبب الاستغراب هنا يكمن في ان الكتاب يصور توجهات وافكار القرضاوي باعتبارها نموذجا مثاليا وايجابيا لما ينبغي ان يكون عليه الاسلام المعاصر.
مؤلف الكتاب هو «صامويل هيلفونت» الذي يعمل استاذا للغات الاجنبية والدراسات الاقليمية في قسم دراسات الشرق الادنى بجامعة برينستون الاميركية.
ويسلط الكتاب الضوء التحليلي على جوانب فكرية تبين كيف ان مفاهيم الحداثة قد اسهمت في صياغة وتشكيل وجهات النظر المعاصرة التي يتبناها المفكر الاسلامي البارز يوسف القرضاوي.
ويعتقد مؤلف الكتاب أن هذا العمل «يرسي الأساس اللازم لإطلاق مناقشة حول الحداثة من خلال مراجعة أفكار فلاسفة بارزين، أمثال كانط وهيغل بالإضافة إلى أفكار علماء اجتماع معاصرين مثل هابرماس، واستناداً إلى فهم هؤلاء للحداثة، فإن هذا العمل يوضح كيف أسهم تزايد التعليم، ووسائل الاتصال والهجرة، في تغيير الطريقة التي ينظر بها المسلمون إلى دينهم».
ويضع هذا العمل القرضاوي في منظور تاريخي من خلال مراجعة تطور مفهوم الحداثة في العالم الإسلامي على مدى الـ 200 عام الفائتة. ويعقب ذلك استعراض تحليل لوجهات نظر القرضاوي حول القضايا ذات الصلة بذلك المفهوم، بما في ذلك العلم ووسائل الاتصال الجماهيرية، والجهاد، والعلاقات الدولية، والديموقراطية، بالإضافة إلى قضايا المرأة.
الاستنتاجات، التي خلص إليها هذا العمل، تقوم على أساس مئات من الفتاوى والخطب الدينية والمقابلات التي تم بثها للقرضاوي عبر وسائل إعلام عربية، كما أنها تقوم على أساس مصادر ثانوية أخرى ذات صلة، سواء بالانكليزية أو العربية.
ولم يسبق أن تم نشر اي عمل بهذا القدر من التعمق، أو الاسهاب حول الدكتور القرضاوي باللغة الانكليزية.
يقول هيلفونت في مقدمة دراسته التحليلية: «على الرغم من أن هناك عدداً من العلماء المسلمين الذين يمكن تعريفهم بأنهم يتمتعون بقدر استثنائي من النفوذ، فإن أي بحث حول مسألة الحداثة سيفضي دون شك إلى اسم واحد أكثر من كل الأسماء الأخرى، ألا وهو اسم يوسف القرضاوي. فالقرضاوي كان القوة الدافعة وراء تشكيل «الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين»، كما أنه يشغل منصب رئيس «المجلس الاوروبي للافتاء والأبحاث».
وتشير الدراسة إلى أن «غيليس كيبل يؤكد على أن القرضاوي هو الذي «يضبط نغمة لغة الخطاب الديني السني في شتى أرجاء العالم» كما أن «المجلس الإسلامي البريطاني يرى أنه (القرضاوي) هو «العالم الإسلامي الأكثر هيمنة على مستوى العالم حالياً».
ووفقاً للمؤلف فإنه «بسبب المكانة التي يتمتع بها القرضاوي كواحد من أهم العلماء المسلمين على مستوى العالم، فإنه اجتذب إليه أعداداً كبيرة من المؤيدين والمنتقدين على حد سواء، فبينما يصفه مفكرون غربيون بارزون بأنه «معتدل» و«إصلاحي» هناك آخرون يصفونه بأنه عكس ذلك تماماً، ففي العام 2004، على سبيل المثال، وقع أكثر من 2500 مفكر مسلم من 23 دولة على التماس دعا الأمم المتحدة إلى انشاء محكمة لمحاكمة من سموهم بـ «منظري الإرهاب»، وذكر ذلك الالتماس القرضاوي بالاسم، كما وصفه أنه أحد «شيوخ الموت».
ويرى هيلفونت أنه «من الواضح أن هناك خلافات ملموسة في الآراء بين مؤيدي القرضاوي ومنتقديه... لكن عند مقارنته بعلماء مسلمين آخرين فإنه يبدو أكثر اعتدالاً بكثير من مفكرين غربيين كثر».
ويمضي هيلفونت قائلاً إن «معظم تلك الخلافات تركز على ما إذا كان ينبغي الحكم على القرضاوي من منظور المعايير الإسلامية أو الغربية»، مشيراً إلى أن هذه الدراسة اختارت ألا تحكم عليه من منظور إسلامي أو غربي. ويضيف المؤلف موضحاً: «انني أحاول من خلال هذه الدراسة أن أفهم القرضاوي باعتباره عالماً إسلامياً في إطار مفهوم الحداثة، فكتابات القرضاوي مليئة بمفاهيم حداثية وعصرية مثل الديموقراطية والدفاع عن حقوق المرأة، بالإضافة إلى حقيقة أن العلاقة بين هذه المفاهيم وبين الإسلام هي الجانب الأبرز في أفكاره».
وبعد الاستفاضة في إلقاء الضوء على النظريات والدراسات المتعلقة بمفاهيم الحداثة عبر التاريخ، يخلص المؤلف في ختام مقدمة دراسته إلى القول إن «محور التركيز الرئيسي الخاص بهذه الدراسة هو تحديد كيف أثرت مفاهيم الحداثة على الفكر الإسلامي وعلى فكر القرضاوي تحديداً. لكنه من المهم أيضاً أن نفهم كيف أثرت تلك المفاهيم، التي انطلقت من الغرب، على منطقة الشرق الأوسط».
وتتألف الدراسة من خمسة فصول يسلط كل فصل منها الضوء والتحليل على محور من محاور الخط الفكري الذي ينتهجه الدكتور القرضاوي. فالفصل الأول يندرج تحت عنوان «الحداثة في منطقة الشرق الأوسط»، والثاني تحت عنوان «منهج القرضاوي ازاء الحداثة» أما الثالث والرابع والخامس والسادس فتندرج على التوالي تحت عناوين «الجهاد» و«العلاقات مع غير المسلمين» و«الديموقراطية» و«المرأة».
ونلقي الضوء هنا على الفصل الثاني تحديداً الذي يتناول مفهوم الحداثة في فكر القرضاوي.
منهج القرضاوي ازاء الحداثة
الفصل الثاني من الدراسة يتناول بالتحليل النهج الذي يتبناه القرضاوي ازاء مفاهيم الحداثة وعلاقتها بتطور الفكر الإسلامي.
وفي هذا السياق، يشير المؤلف إلى أن «العلم والتكنولوجيا والتنمية ووسائل الاتصال الجماهيري قد أسهمت بشكل كبير في الترويج لمفاهيم الحداثة والعصرنة. ومن هذا المنطلق فإنه لا عجب أن القرضاوي يتعامل مع تلك الموضوعات في مناسبات كثيرة».
ويضيف المؤلف موضحاً أن القرضاوي يعالج تلك القضايا من منطلق كونه معروفاً بانتهاج «الوسطية الإسلامية» التي يتميز بها فكره العام. ويرى المؤلف أن «للقرضاوي إسهامات مهمة كثيرة في مجال الفكر الإسلامي، لكنه ربما يشتهر أكثر بكونه مؤسس ما يعرف بالمدرسة الوسطية في الفكر الإسلامي».
وفي موضع آخر يرى المؤلف أن «ما يميز فكر القرضاوي هو أنه لا يسمح فقط بدمج المعارف والعلوم الغربية المعاصرة في نسيج الإسلام، بل يعتبر ذلك أمراً واجباً من الناحية الشرعية». لكن المؤلف يستدرك قائلاً أنه على الرغم من أنه من الواضح أن القرضاوي منفتح على الأفكار الآتية من الغرب، فإنه لا ينبغي أن نفترض أن ذلك يعني أنه (القرضاوي) يدعو إلى أن يذوب الفكر الإسلامي في غمار الفكر الغربي.
ويمضي المؤلف موضحاً: «انطلاقاً من فهم القرضاوي للمدرسة الوسطية، يمكن القول أنه من الواضح أنه يدعو إلى بلورة وتطور شكل عصري جداً من الإسلام. وعلى الرغم من أنه (القرضاوي) ينظر إلى الماضي طلباً للإلهام، فإنه يحاول في الوقت ذاته أن يجعل الإسلام أكثر ارتباطاً وتفاعلاً مع العصر الراهن، وأكثر تطلعاً إلى المستقبل. وهذه الايديولوجية الوسطية كانت وما زالت لها تأثير واضح جداً على فكر القرضاوي طوال حياته، كما أنها أثرت دون شك على الكيفية التي ينظر بها إلى الدور الذي ينبغي أن تلعبه وسائل الإعلام في نشر أفكار الوسطية الإسلامية».
القرضاوي ودور وسائل الإعلام
يشير المؤلف إلى أن القرضاوي يؤمن بشدة بأهمية الدور الذي يمكن لوسائل الإعلام أن تلعبه في سبيل نشر أفكار الوسطية الإسلامية. وفي هذا الصدد، يذكر المؤلف أن القرضاوي «يتعامل بحذر وحرص مع ذلك الأمر، لكنه وعلى عكس علماء الدين الراديكاليين في السعودية، وفي حركة طالبان مثلاً، يعلن بوضوح أن وسائل الإعلام ليست «شريرة» في المطلق، وأنها من الممكن استخدامها من أجل الصالح العام، وتوظيفها كأداة لنشر رسالة الدين الإسلامي إلى كل الأمم حول العالم».
العلم والتكنولوجيا
لا يجد المؤلف أي شك في أن القرضاوي يولي القضايا المتعلقة بالعلم والتكنولوجيا المعاصرة أهمية قصوى إلى درجة أنه يؤكد دائماً على أنه لا يمكن لأي دعوة تجديدية إسلامية أن تتجاهل العلم والتكنولوجيا، وذلك على الرغم من أن مبادئ الفكر العلمي والتكنولوجي (الآتية من الغرب) تفرض إشكالية أمام المسلمين الذين يؤمنون بأن نصوص القرآن تنطوي على الحقائق المطلقة التي ينبغي رفض أي شيء يتعارض معها.
وتشير الدراسة إلى أن القرضاوي أعلن في أكثر من مناسبة إلى تضامنه وتأييده لدعوات مفكرين إسلاميين إلى اطلاق مبادرات تنويرية إسلامية تهدف إلى إعادة تقييم الأفكار الأصولية الإسلامية ازاء مبادئ البحث والتفكير العلمي. كما أيد القرضاوي أصواتاً دعت إلى «أسلمة» مناهج البحث العلمي المعاصرة، وذلك على أساس أنه لا يوجد أي تعارض أو تناقض بين الوحي الرباني (المتمثل في القرآن الكريم) وبين مبادئ العلم.
ولتوضيح تلك الفكرة، يوضح المؤلف أن فهم القرضاوي للعلم الحديث من منظور إسلامي يتجلى من خلال تفسيره للآية القرآنية التي تقول «والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة، ويخلق ما لا تعلمون» النحل آية 8. ففي تفسيره لهذه الآية القرآنية، يرى القرضاوي أن عبارة «ويخلق ما لا تعلمون» هي إشارة ربانية إلى «السيارات والقطارات والطائرات والمركبات الفضائية، علاوة على كل مظاهر التقدم العلمي الأخرى».
وينوه المؤلف إلى أن ما يميز فكر القرضاوي هو أنه لا يتوقف عند النص الحرفي للآيات القرآنية، بل يتجاوز ذلك وصولاً إلى المبادئ. فعلى سبيل المثال، تقول الآية القرآنية «واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم» الانفال الآية 60. وفي سياق تفسيره لهذه الآية يقول القرضاوي أن الخيول كانت بمثابة المركبات العسكرية في وقت نزول تلك الآية، لكن الأحوال تغيرت الآن ولم تعد الخيول تستخدم في الحروب، ولذلك فإن «خيول» الحروب المعاصرة هي الدبابات والمركبات المدرعة، وغير ذلك من الأسلحة الحديثة التي يتم استخدامها في عصرنا الراهن. ومن هذا المنطلق فإنه تفسير النص القرآني ينبغي ان يكون في ضوء المعطيات العصرية وفقاً لما يراه القرضاوي.
ويختتم المؤلف دراسته بالقول ان القرضاوي لا يختلف عن غيره من المفكرين الحداثيين، سواء كانوا إسلاميين أو غربيين، في انه «يناضل باستمرار» في سبيل التوصل إلى تعريف واضح لمفهوم الحداثة، كما أنه يسعى دائماً إلى رسم حد فاصل واضح بين الحداثة الإسلامية والحداثة الغربية.
ووفقاً للدراسة فإن القرضاوي يرى أن الحداثة الإسلامية لن تقبل سوى ما يعتبرها جوانب إيجابية للتطور العلمي المعاصر الآتي من الغرب، وذلك من خلال تطبيق المبادئ والأخلاقيات القرآنية بهدف استبعاد الجوانب غير المرغوبة إسلامياً.
ووفقاً لما يراه المؤلف فإن القرضاوي يؤمن بأنه يستطيع أن يسهم في إيجاد بديل حداثي للحضارة الغربية، وهو البديل الذي يأمل القرضاوي أنه سيصبح في المستقبل أكثر جاذبية وقبولاً في نظر المسلمين وغير المسلمين على حد سواء».
وتخلص الدراسة إلى استنتاج تحليلي مفاده أنه «على الرغم من أن القرضاوي بذل جهداً شاقاً في سبيل تحويل رؤيته تلك إلى واقع ملموس، فإن مسألة انفتاح العالم الإسلامي امام مفاهيم الحداثة ما زالت تواجه تحديات إضافية». فوسائل الإعلام العصرية ومناهج التعليم الحديثة ما زالت تجلب معها أفكاراً جديدة تجد مقاومة ومعارضة من جانب الفكر الديني الإسلامي التقليدي