| علي الرز |
من يستمع الى تصريحات القذافي وابنه سيف الاسلام يدرك ان النظرية العالمية الثالثة انما هي في الواقع ستارة وهمية واهية لقبضة حديدية من التعالي والقمع والقتل والسوقية في الوقت نفسه. فليبيا «عزبة» للأب والابن والحاشية، وكل خروج او اعتراض يواجه بالرصاص، اما اذا قاوم المعترض وصمد وهدم حاجز الخوف فسيواجه بحقيقة مشاعر «عمدة العزبة» تجاهه بعد 42 عاما... فـ «الشعب العظيم» ليس بعرف العقيد سوى مجموعة من الكلاب الضالة والجرذان والقطط والفئران، ليضيف اليها المهندس سيف الاسلام، او «خنجر الجاهلية» كما يحلو لمناوئيه مناداته، مصطلحات جديدة وردت في معلقته في «الشرق الاوسط» اذ وصف الثوار بـ «الزبالة» قائلا ان التعامل معهم سيتم بـ «الجزمة».
عمليا، كانت النظرية العالمية الثالثة هي نظرية «الجزمة» منذ اليوم الاول لحكم القذافي المسكون بالمؤامرات. كان الرجل يستمع الى رفاقه العسكريين وهم يقولون ان الحكم يجب ان يسلم الى سلطة مدنية. يناقش بهدوء ويؤيد ويدعم هذه الفكرة او تلك ثم يختفي من كان يتناقش بحجة انه كان يحضر لانقلاب مضاد وينتشي الزعيم عندما يسأل بعد اشهر من الانقلاب عن وزيري الدفاع احمد احواز والداخلية موسى احمد فيجيب: «بالجزمة».
واستمرت نظرية «الجزمة» بالتفاعل عام 1970 عندما اعلن القذافي احباط محاولتين للتمرد على حكمه، الاولى خطط لها عسكريون في الابيار جنوب بنغازي والثانية في سبها وضمت مدنيين وعسكريين. بعدهما بفترة حصلت محاولة ثالثة في فزان. ولم يجد «القائد» بدا من تغيير اتجاهات السلطة كونه لا يستطيع ان يدير ظهره لاقرب المقربين اليه في المؤسسة العسكرية ولذلك لجأ الى ابتكار بدائل عشائرية وقبلية بالدرجة الاولى اضافة الى مجموعة من «المستفيدين الثوريين» عبر اللجان الشعبية بالدرجة الثانية، فكان خطاب زوارة عام 1973 الذي اعلن «اطاحة العناصر غير الثورية» من السلطة من خلال زحف الجماهير وعبر نقاط خمس: تعليق القوانين، والقضاء على المرضى والمنحرفين الحزبيين، اعلان الثورة الثقافية، القضاء على البيروقراطية، الثورة الشعبية... اما العنوان العريض فكان «من تحزب خان».
اذا، لا قوانين ولا «مرضى ومنحرفين» ولا حزبيين، بل مجموعة مختارة من الناس زحفت على مواقع السلطة بـ «الجزمة» واطاحت كل رموزها.
بعد ذلك بسنتين حاولت مجموعة من العسكريين بقيادة الرائد عمر المحيشي عضو مجلس قيادة الثورة تصحيح المسار الا ان المحاولة فشلت وتم اعدام 22 ضابطا اما المحيشي فهرب الى مصر فالمغرب ثم تم تسليمه في اطار مقايضات القذافي المعهودة حيث قيل انه اطلق عليه الرصاص بنفسه في المطار.
«الجزمة» هذه المرة تحولت الى الطلاب الذين منعوا في الجامعات من التعبير عن رأيهم وطلب منهم ان يلتزموا فقط بالنظرية العالمية. من 1975 الى 1977 حصلت مواجهات اختفى على اثرها طلاب وقتل آخرون، ثم حسم عبد السلام جلود الامر بان دخل الحرم الجامعي مفوضا من القذافي ليبلغ الجميع «تجريم» العمل الطلابي ومنع النشاطات، لتتوالى مشاهد القمع والقهر على كل المستويات في الداخل والخارج... ومن يستطيع ان ينسى شريط فيديو عملية الاعدام الشهيرة لطلاب في احد الملاعب حين اجبر القذافي اقرباء للمعدمين بأن ينزلوا اليهم ويضربوهم بـ «الجزم» بعد شنقهم فيما تولى العشرات سحلهم وهم يهتفون للقائد.
تخلص العقيد من رفاق الدرب بـ «الجزمة»، ومن الحزبيين والطلاب والطبقة السياسية المحترمة والديبلوماسيين في الخارج. بقي الجيش. ارسله الى مغامرات مجنونة من تشاد الى كل مكان وادخله مقامرات فككته وعطلته، لكن البديل جاهز، «مثابات» امنية حارسة في الداخل وتخريبية في الخارج تولت قتل المعارضين وتفجير الملاهي والطائرات. اضافة الى كتائب صغيرة حديثة التسليح باسماء ابنائه الذين شبوا في العزبة وتسلموا السلطة بدون صفة.
المجزرتان اللتان ارتكبهما النظام بعد انتفاضة ابو الوليد في 1993 وفي سجن ابو سليم قبل اعوام اقفلتا الموسم القذافي قبل ان تبدأ ثورة 17 فبراير وما يرافقها من عمليات ابادة يتشدق بها النظام ويقول لشعبه انه سيعاملهم بالجزمة وسيحول ليبيا الى ارض محروقة...
ثورة ليبيا ستحرق «الجزمة العالمية الثالثة».
alirooz@hotmail.com