«الراي» سألت عن مراجعة ستة أعوام في السلطة «ثورة الأرز»... أين أخطأت وأين أصابت؟
جوزف أبو خليل
زياد ماجد
سمير فرنجية
| بيروت - من ريتا فرج |
قبل ستة أعوام وإثر «زلزال» اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري انفجرت «ثورة الارز» في بيروت، وسرعان ما تسلمت حركة «14 مارس» السلطة، وبعد ستة أعوام من «الكر والفر» من خصومها داخل السلطة عينها، اقصيت «14 مارس» عن الحكم إثر قلب المعادلة السياسية في البلاد بقوة النفوذ المستعاد لسورية.
تحولات كثيرة حصلت على مدى هذه «الستة أعوام». فبعد الولادة المخضبة بالدم لـ «14 مارس»، ومن ثم خروج «التيار الوطني الحر» بزعامة العماد ميشال عون من «ثورة الارز» إلى أحضان محور «الممانعة»، فالانعطافة «التراجيدية» للزعيم الدرزي وليد جنبلاط، محطات جوهرية تستولد الكثير من الأسئلة عن المستقبل.
وعلى وقع النقاط التي يسجلها كل فريق ضد آخر داخل «البانوراما» السياسية المأزومة في بيروت، تتلاحق التطورات في ظل مجريات طارئة كثيرة قلبت المعطيات من دون أن تؤدي إلى قلب الأهداف. ففي مقابل الانجازات السياسية التي حققتها «قوى 14 مارس» أقله على مستوى العمل الحثيث لتحقيق التبادل الديبلوماسي بين سورية ولبنان وقيام المحكمة الدولية، لا بد من طرح ملف آخر عنوانه «أين أخطأت قوى 14 مارس وأين أصابت؟».
خمسة أمور استطاعت هذه القوى تحقيقها طوال الأعوام الستة الماضية، أولها إجراء أول انتخابات برلمانية في غياب القبضة السورية، ثانيها تدشين التبادل الديبلوماسي بين سورية ولبنان، ثالثها إنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، رابعها اضطرار سعد الحريري إلى تشكيل حكومة ثلثها المعطل بيد المعارضة تبعاً لـ «اتفاق الدوحة»، وخامسها إدخال لبنان في صيغة اتفاق شبيه باتفاق الهدنة بفعل القرار الدولي 1701.
وعلى الجبهة الأخرى حققت «قوى 8 مارس» الأمور الآتية: الحصول على «الثلث الضامن أو المعطل» في «اتفاق الدوحة»، عودة النفوذ السوري بعد استراحة موقتة، محاولة الايحاء أن مشروع «14 مارس» يصب في خانة الأهداف الأميركية في المنطقة، إعادة الزعيم الدرزي وليد جنبلاط إلى ما يسمى خط الممانعة، السعي إلى اقناع جزء من الرأي العام اللبناني بأن المحكمة الدولية لن تؤدي إلاّ الى الفتنة المذهبية.
واليوم عشية اكمال «قوى 14 مارس» عامها السادس، وبصرف النظر عن «الانشقاق» الجنبلاطي الأخير الذي أكسب الأقلية النيابية غالبية شبه متوازنة مع الأكثرية السابقة، يطرح السؤال: أين اخطأت «14 مارس» وأين أصابت في ما يتعلق بالملفات الداخلية وامتداداتها الإقليمية؟ هذا الملف حملته «الراي» الى كل من عضو الامانة العامة لـ «14 مارس» النائب السابق سمير فرنجية وأستاذ الدراسات الشرق الأوسطية في الجامعة الأميركية في باريس زياد ماجد، والقيادي المخضرم في حزب الكتائب جوزف أبو خليل.
سمير فرنجية: أكبر أخطائنا
محاولة استيعاب «حزب الله» وطاولة الحوار
سمير فرنجية، القيادي الأكثر تأثيراً في أدبيات «14 مارس» وثورتها كما يقول عنه البعض، يحاورك بهدوء، ويدرك أن «ثورة الأرز» التي جبهت منذ يومها الأول لم تكتمل بعد. «ثمة أخطاء ارتكبت تستدعي المراجعة، وثمة انجازات سياسية تحققت لابد من متابعتها»، بهذه العبارة يوجز فرنجية تجربة الأعوام الستة الماضية، ولعل الأهم عنده أن هذه الثورة التي «قضمت» النظام الأمني اللبناني ـ السوري شكلت الانطلاقة الأولى للثورات التي يشهدها العالم العربي والإسلامي، بدءاً بإيران وصولاً إلى ثورة «ميدان التحرير» في مصر.
• أين أخطات «قوى 14 مارس» وأين أصابت طوال الأعوام الستة الماضية؟
لا شك أن «14 مارس» تمكنت من تحقيق أمور أساسية منها: إخراج الجيش السوري من لبنان، واستعادة الاستقلال، وكسر القيود التي كانت مفروضة على الحريات، وإعادة الاعتبار إلى الديموقراطية اللبنانية عبر إجراء أول انتخابات نيابية العام 2005 ثم العام 2009، وإعادة لبنان الى المسرح العربي والدولي. طبعاً هناك أخطاء وقعت، والخطأ الأكبر المحاولات التي بذلت مع فريق «حزب الله» بغية استيعابه في الدولة بعد سقوط النظام الأمني السوري ـ اللبناني، وقُدمت في هذا السبيل عدد من التنازلات منها ما سمي «التحالف الرباعي» في انتخابات 2005، والقبول بالجلوس على طاولة الحوار العام 2006، وإلغاء دور المجلس النيابي. هذه التنازلات وغيرها أدت إلى تهميش التيارات الديموقراطية والإصلاحية في الطائفة الشيعية، الأمر الذي سمح لـ «حزب الله» بوضع يده على كامل الطائفة. الجزء الثاني من الأخطاء ارتكب بعد انتخابات العام 2009 عندما حاولت «قوى 14 مارس» مدّ يدها إلى سورية، فكانت زيارة الرئيس سعد الحريري لدمشق في نظرنا محاولة تهدف إلى طيّ صفحة الخلاف بين سورية ولبنان منذ الاستقلال، لكن القيادة السورية تعاملت مع هذه الخطوة كما كان نهجها قبل العام 2005، ما أحدث صدمة لدى جمهور «14 مارس» الذي حمّل مسؤولية ما جرى لقادته، علماً بأن المسؤول الأساسي هو النظام السوري. أما اليوم فهناك وعي لدى «قوى 14 مارس» للأخطاء السابقة وبدأت المراجعة لاستخلاص الدروس من التجربة الماضية.
• «قوى 14 مارس» سجلت نقاطا ايجابية ووقعت في أخطاء كما أشرت. ولكن ما أبرز النقاط التي سجلتها «قوى 8 مارس» كمعطيات سياسية معاكسة لكم؟
أهم نقطة سجلتها «8 مارس» هي إعادة العلاقات بين اللبنانيين الى ما كانت عليه أيام الحرب الأهلية، بمعنى أنها نجحت في ترسيخ الانقسام الطائفي الحاد، وقامت بتوظيف الدين في الصراع السياسي، وربط لبنان بمعادلات إقليمية عبر تحويله ساحة. والأخطر من كل ذلك هو الفرز الذي أدخله «حزب الله» بين المواطنين، فأصبح في لبنان مواطنون درجة أولى ومواطنون درجة ثانية. الفريق الأول يحق له حمل السلاح بحجة أنه يدافع عن لبنان، والفريق الثاني لا يحق له حمل السلاح وهو تحت القانون. هذا الأمر أدى إلى انقسام في الطبيعة الثقافية، وهذا عامل خطير، لأن الانقسام السياسي أمر طبيعي في أي مجتمع، أما الانقسام الطائفي والثقافي القائم على تمجيد العنف والفصل بين الناس فخطير وأكاد أقول خطير جداً. هذه الثقافة جديدة على التجربة اللبنانية، والمشكلة أن فريق «8 مارس» لا يريد أخذ الدروس من تجربة الحرب الماضية والأخطاء السياسية التي ارتكبت قبل نشوبها والتي أدت الى تفجير الوضع الأمني.
• هل تملك «قوى 8 مارس» رؤية استراتيجية أكثر قدرة على تكريس النفوذ الداخلي مقارنة بـ «قوى 14 مارس»؟
لا أعتقد أن «قوى 8 مارس» تملك رؤية استراتيجية. انها تندرج في إطار معكسر الممانعة والمقاومة المنتمي إلى فترة تاريخية انتهت، وبالتالي لدى «قوى 8 مارس» مشروع لا يهدف إلاّ إلى منع تقدم لبنان نحو بناء الدولة، وما يقوله النائب ميشال عون حول الاصلاح والتغيير كلام سخيف، يحاول عبره تبرير تحالفه الحالي. لا تملك «قوى 8 مارس» رؤية لمستقبل لبنان، وليس لديها خطاب سياسي تتوجه به إلى كل فئات المجتمع اللبناني. هناك محاولات مستمرة لإثارة النعرات الطائفية والمذهبية، كما حدث في 7 مايو 2008، بدليل انه في انتخابات 2009 رفض اللبنانيون هذا المنطق وهزموا «قوى 8 مارس» وخصوصاً بعد الخطاب الذي ألقاه الأمين العام لـ «حزب الله» حين وصف 7 مايو بانه يوم مجيد في تاريخ المقاومة.
• هل تشعر «14 مارس» بأن ثورتها التي انطلقت العام 2005 تراجعت اليوم، وأين هي من بناء الدولة؟
«ثورة الأرز» تمّت محاصرتها منذ اليوم الأول، ويجب ألا ننسى أن حملة الاغتيالات التي وقعت جعلتها لفترة طويلة غير قادرة على أن تنظم اجتماعاً في ما بينها. الى ذلك فإن «قوى 8 مارس» أفشلت تجربة الحكومة، وأغلقت المجلس النيابي وعطلت المؤسسات منذ لحظة قيام الثورة حتى انتخابات العام 2009. لقد استعملت ضد «ثورة الأرز» عمليات ترهيب، وقد شهدنا محاولات لقلب النظام بالقوة، واحتلال الساحات العامة في بيروت، وتنظيم الاضطرابات وقطع الطرق، وفتح معركة الإسلاميين في نهر البارد، وما كدنا ننتهي حتى قام «حزب الله» باحتلال بيروت عسكرياً. نحن لم يعط لنا المدى الزمني المطلوب لكي نقوم ببناء الدولة، ولكن ثورتنا أنجزت الكثير، وأول انجازاتها هو ما حصل في ايران في الانتخابات الأخيرة العام 2009، وما حصل من تعبير ديموقراطي عظيم في تونس ومصر، ووضع الأنظمة الاستبدادية في موضع الدفاع عن النفس. وما نشهده من قمع في إيران وسورية خير دليل على ذلك. على المستوى الداخلي، الظروف التي أحاطت بنا كانت صعبة، والتسويات أدت دوراً لم يكن لمصلحتنا.
• «ثورة الأرز» استطاعت لفترة محددة كسر الانقسام الطائفي بين اللبنانيين. هل تشعرون اليوم بأنكم اجبرتم على اعتماد الخطاب الطائفي بعدما كان خطابكم وطنياً؟
نحن لم نعتمد الخطاب الطائفي ونرفض ذلك، في حين أن الفريق الآخر وتحديداً «حزب الله» هو الذي يقوم بتوظيف الدين لمصلحة الأهداف السياسية. الخطأ الأساسي الذي ارتكبته «قوى 14 مارس» هو المحاولة الفاشلة للتوصل الى تسوية مع «حزب الله»، وهي تجربة دفع ثمنها الاتجاه الاصلاحي والديموقراطي في الوسط الشيعي. «قوى 14 مارس» خاضت معركة للحافظ على طابعها الإسلامي ـ المسيحي، وتعتبر أن هذا اللقاء هو الأساس، والكل يتذكر الكلام الذي أدلى به الرئيس سعد الحريري حين قال لحلفائه «الموت وحده يفصلني عنكم»، وكان يتكلم والضغوط تمارس عليه لفكّ ارتباطه مع «القوات اللبنانية» و«حزب الكتائب» والمستقلين المسيحيين.
زياد ماجد: ما جرى بعد 14 مارس
استسلام للتسويات الموقتة
رأى زياد ماجد أن «قوى 14 مارس» تدرجت نحو التسويات السياسية ما أدى الى خسارتها في عدد من الملفات، مؤكداً أن هدف هذه القوى وغيرها من الاستقلاليين فكّ ارتباط لبنان بـ «السياسة الإقليمية السورية». ولفت إلى أهمية قيام «14 مارس» بمراجعة نقدية لخطابها السياسي أولاً وللقواعد الاصلاحية لبناء الدولة ثانياً.
• أين أخطأت «قوى 14 مارس» في إدارة العلاقات الداخلية طوال الأعوام السابقة، وهل يمكن القول إنها قامت بنصف ثورة؟
يمكن القول إن لحظة 14 مارس 2005 كانت لحظة انتفاضة شعبية كبرى في وجه الهيمنة السورية وفي وجه القتل والاغتيال السياسي وفي وجه دفاع «حزب الله» عن نظام دمشق. لكن اللحظة تلك لم تكن منطلقاً لثورة. فما جرى بعد 14 مارس كان عودة الى ممارسة السياسية داخلياً في طريقة معهودة ومحافِظة، وكان استسلاماً لمنطق البحث عن تسويات موقتة من دون قاعدة صلبة يمكن أن توفّر تأسيساً جدّياً للحل. كما أتى من دون تجديد في الخطاب السياسي المتعلّق بإعادة بناء الدولة وإصلاح مؤسساتها، ومن دون تجديد في النخب السياسية وفي الممارسة العامة.
يضاف إلى ذلك أن طبيعة النظام الطوائفية والتوافقية والتكوين الاجتماعي المذهبي لمعظم القوى اللبنانية الكبرى يدفعان دوماً إلى تشكيل انقسامات عمودية تضفي الطابع المذهبي على المواجهات ما يحول دون بلورة قواعد للعبة السياسية تتخطى القدرة التعبوية للجماعات الأهلية.
وما عقّد الأمور داخلياً أكثر أن بدء موجة الاغتيالات المستهدفة عدداً من صانعي الانتفاضة وقادتها، ثم تبدّل التحالفات، والهجوم المضاد من جانب حلفاء النظام السوري بهدف إسقاط حكومة الشراكة التي امتلكوا فيها أقلية، جعلت الواقع السياسي واقع صراعات محمومة يظهر هشاشة الإجماعات الوطنية ويظهر أيضاً صعوبة إدارة الأمور في ظل الضغط الأمني والاحتقان الطائفي والمذهبي. ولم تأت الحرب مع اسرائيل العام 2006 سوى لتزيد الطين بلة.
• العلاقات مع سورية شكلت أحد أهم ملفات «قوى 14 مارس». هل ثمة مكتسبات حققتها في هذا المجال، ولماذا تسعى دمشق إلى تطويع هذه القوى، وهل نجحت في ذلك بعد إقصاء سعد الحريري عن رئاسة مجلس الوزراء؟
أعتقد أن الصراع من أجل حرية لبنان مع النظام السوري وليس مع سورية ـ كان وسيبقى مركزياً بالنسبة إلى الاستقلاليين اللبنانيين، إن كانوا في «14 مارس» بتشكيلها الحالي أو خارجها. فالنظام السوري ينظر إلى لبنان بوصفه ساحة لما يسمّى الحروب بالواسطة («البروكسي»)، والسياسة الإقليمية السورية قامت وتقوم على تجميع أكبر قدر من الأوراق والإمساك بساحات التوتر في المنطقة من أجل المقايضة عليها وصوغ علاقات مع الولايات المتحدة الأميركية والغرب قائمة على طلب التفويض الدائم لإدارة الملفات ذات الصلة بالأوراق وساحات التوتر المذكورة. لذا، يعتبر نظام دمشق أن خسارته لبنان هي خسارة كبرى يصعب البقاء في موقع إقليمي مركزي من دون تعويضها واستعادة القدرة على التحكم في الساحة اللبنانية مجدداً. ويا للأسف، يوفّر «حزب الله» أرضية للنظام السوري نتيجة التحالف الإيراني السوري، للتعويض والعودة والارتكاز إلى مركز قوة لفرض الشروط.
«14 مارس» صمدت في وجه النظام السوري وهجماته لفترة طويلة، وليس مصادفة أن توقّف الاغتيالات التي تعرّضت لها جرى بعد 7 مايو 2008 وتحقيق دمشق عودة كبيرة إلى المشهد اللبناني وانتزاع حلفائها للثلث الضامن في الحكومة وللغطاء الحكومي لسلاحهم. وراهن النظام السوري بعد ذلك على أن مصالحة فرنسا والسعودية له كفيلة تأمين تطبيع مع سعد الحريري لتبرئته من دم والده، والتأسيس بالتالي رغم خسارة حلفائه الانتخابات العام 2009 لصفحة جديدة يغطّي فيها الحريري المتصالح مع بشار الأسد قرار التراجع عن المحكمة الدولية، ما يجعل العودة السياسية الى لبنان رسمياً، أي من باب شراكة الحكومة اللبنانية، واقعاً. وكادت أن تنجح دمشق في الأمر لولا تدخلات دولية ـ أميركية خصوصاً من ناحية، ولولا مغالاتها وحلفاءها في رفع الشروط ورفض «التنازلات» المقابلة ومحاولة إظهار الآخر مستسلماً من ناحية اخرى. فكان عندها الخيار الثاني، عبر الضغط على وليد جنبلاط والتهديد بالفتنة وبالحرب، لإسقاط الأكثرية «الـ 14 مارسية» وإزاحة سعد الحريري والدخول في سيناريو بديل، هو سيناريو مواجهة عبر تسلم السلطة اللبنانية مباشرة وعنوة، بالاتكاء على فائض قوة «حزب الله» وعلى الارتباك السعودي والغربي بهدف تعطيل المحكمة.
لكن الأمور معقدة، وقد تظهر الأسابيع المقبلة التي تفصلنا عن صدور القرار الظني أننا أمام مسار متعرج لن تهدأ التبدلات في خطه.
في المحصلة، يمكن القول إن النقاط التي أحرزتها «قوى 14 مارس» بين العامين 2005 و 2007 أي بين لحظة إخراج الجيش السوري من لبنان ولحظة إقرار المحكمة الدولية وما تخلّل الفترة من قتل وحملات، عادت وخسرت جزءاً كبيراً منها بعد العام 2008 نتيجة سلاح «حزب الله»، ونتيجة التطبيع الجزئي العربي والغربي مع نظام دمشق. ونحن اليوم أمام مرحلة جديدة ستتداخل فيها عوامل كثيرة لإنتاج مشهد جديد ليس واضح المعالم تماماً بعد.
• بعد انعطافة وليد جنبلاط كيف يمكن لـ «قوى 14 مارس» تخطي الانقلاب الجنبلاطي؟
خسارة وليد جنبلاط هي خسارة كبيرة نتيجة استثنائية موقعه في المعادلتين الطائفية واللبنانية. وهي خسارة مرتبطة بتوازن قوى داخلي ضاغط لم يتمكّن جنبلاط من تعديله، ومن توازن قوى إقليمي ضاغط أيضاً يعتبر جنبلاط أن الالتحاق به أفضل من مواجهته. لكن توازن القوى هو في تعريفه «ديناميكي» ويمكن أن يتبدّل تبعاً لتبدل الظروف والمناخات وبروز عناصر قد لا تكون على الدوام متوقعة. لذلك لا أعتقد أن هذه الخسارة نهائية. كما لا أعتقد أن جنبلاط، رغم كل قدرات التكيّف و«رشاقة الحركة» التي يتمتع بها، هو في موقع يسرّه أو يُحسد عليه.
• يرى البعض ان التحولات العربية الراهنة تصب في مصلحة محور الممانعة. إلى أي مدى يؤثر هذا التحول في خيارات «14 مارس» لجهة المتغيرات الإقليمية المتوقعة؟
التحولات التي تجري انطلاقاً من تونس، ومن بعدها مصر، الدولة العربية الأكثر تأثيراً ومركز الثقل الاستراتيجي في المنطقة، هي تحوّلات تاريخية رائعة أكبر من الاصطفافات اللبنانية وقراءاتها لها، وأكبر مما يسمّى محور الممانعة أو محور الاعتدال أو أي محور آخر. وهي أساساً منطلقة من القضايا الداخلية في كل من البلدين، وليس من تقويم الناس للسياسات الخارجية. ما يجري، وبمعزل عن المسارات السياسية الآنية التي قد يفضي إليها، والتي لن تكون سهلة ولا زهرية، هو بدء نهاية الاستبداد، وبدء استعادة الناس، ولا سيما الشباب وهم يشكلون أكثر من ثلثي سكان المنطقة، لجزء من حقوقهم في المساءلة والضغط في الشارع بلا خوف رفضاً لتمادي الانتهاك لكراماتهم ولعقولهم ودفاعاً عن حريتهم ولقمة عيشهم. وهذا تحوّل هائل في موازين القوى داخل كل بلد. وقد رأينا حال الخوف التي أصابت معظم حكّام المنطقة، وغيّرت ولو لفظياً من مواقفهم الرافضة سابقاً لكل إصلاح ومحاولة تأبيد السلطة. فإذ بالعديد منهم يعترف بالحاجة الى التغيير ويتعهّد عدم الترشح من جديد، ويطلب إعطاءه فرصة جديدة ويعد بتعديل قوانين الطوارئ. وحتى لو أن رهانهم هو على محاولة استيعاب الدينامية الجديدة لهضمها، فإن الرهان هذا ستسبقه التطورات ولن تتيح له الصمود طويلاً إن لم تتحقّق الوعود. وكل قراءة للحدث بوصفه تقدّما لهذا الطرف أو ذاك هي قراءة مجتزأة وموقتة جداً، وخصوصا أن عودة مصر على المديين المتوسّط والبعيد إلى احتلال الموقع الذي يفترض بها احتلاله في المنطقة، سيعني تحويل أدوار قوى استفادت من حال الفراغ القائم عربياً، وتحديداً إيران، أدوارا شبه طفيلية.
ثانياً، من قال إن ما يسمى دول الممانعة هي في منأى من خضات كبرى؟ لا ننسى أن إيران حصل فيها قبل عامين ما يشبه الثورة الشعبية المصرية اليوم. لكن آلة القمع الإيرانية كانت أشدّ فتكاً من مثيلتها المصرية والقوى الأمنية أكثر تماسكاً وولاءً للنظام، فنجا محمود أحمدي نجاد. لكن إعادة الكرة قد لا تحمل النتائج نفسها. أما سورية، التي يعتدي أمن نظامها أسبوعياً على المعتصمين مع تونس ومع مصر، فحالها يبدو داخلياً أكثر ضبطاً لأن النظام هشّم على مدى عقود مجتمعه على نحو أكثر عنفاً من كل الحالات الأخرى إذا ما استثنينا العراق. لكنه يدري أيضاً أن الأمور ليست مستتبة الى الأبد وأن كسب الوقت عبر التوازنات الخارجية التي تبقيه مقبولاً غربياً، ومُفضّلاً على الفوضى أو المجهول كما يكرر المسؤولون الاسرائيليون، ليس مضموناً في كل الظروف. لذلك، فان الأمور أكثر تعقيدا من قضية انهيار حكم يعدّه الممانعون مواجهاً لهم.
ثالثاً، من رياء بعض جوانب الحياة السياسية اللبنانية أن يحتفل بالثورات الشعبية في مصر وتونس من احتفل بزهق أرواح ثورات إيران ومثقفي سورية. ومن الجهل والخفة في المقابل أن يصاب ببعض الأحباط من يتغنى بـ «انتفاضة الاستقلال» اللبنانية ومن يتحدث عن الاستبداد في سورية. فازدواجية المعايير هذه سقوط أخلاقي وسياسي معطوفة على حسابات محدودة في فهم السياسة وتبدل التوازنات فيها.
في أي حال، وللإجابة المباشرة عن السؤال، أقول إن توازن القوى اليوم بين «14 مارس» من جهة و»حزب الله» وسورية من جهة أخرى هو توازن محكوم بأمرين: سلاح الحزب، والتطبيع الغربي غير المشروط مع سورية، وطبعاً أوضاع إيران والسعودية لعلاقاتهما العضوية بأكبر كتلتين لبنانيتين متواجهتين... أما التحوّلات الأخرى الكبرى والصغرى، فتأثيرها في هذا التوازن ثانوي.
جوزف أبو خليل: خسرنا جولة في معركة استقلال القرار
دعا جوزف ابو خليل «قوى 14 مارس» إلى اجراء «مراجعة شاملة»، منوهاً بأهمية المبادرات الطيبة التي قام بها سعد الحريري حيال دمشق، ومؤكداً أن مشروع الدولة الذي تتبناه هذه القوى لا يمكن تحقيقه في ظل وجود السلاح.
• بعد مرور ستة أعوام على قيامها، أين أخطأت «14 مارس» وماذا حققت من نتائج؟
لا أعلم إذا كانت تسمى أخطاء، هذه المسألة نسبية، «قوى 14 مارس» تحالف عريض بين قوى سياسية متعددة التقت على خيارات أساسية، ولكن لا يمكن أن نطلق عليها تسمية تنظيم متماسك، ومن الصعب أن تكون كذلك لأسباب عديدة، وهذا الأمر أدى إلى اضعاف مواقف «14 مارس»، فهي لا تمتلك خطة استراتيجية بالمعنى الشامل تسمح لها بالتعاطي مع أي مستجدات طارئة، لذا فإن عملها عادي جداً لفقدان التنظيم وغياب الرؤية السياسية، وفي رأيي ان ذلك يعود الى التعددية داخل الحركة. ولكن «قوى 14 مارس» حققت انجازات عديدة، وهي في الدرجة الأولى تسعى إلى بناء الدولة وتطبيق الديموقراطية، ولكن الأهم أن التظاهرة المليونية التي حدثت العام 2005 كان لها تأثير في العالم العربي، وهذا ما نلاحظه في مصر وتونس ودول أخرى. هذه التظاهرة كانت تظاهرة شبابية لا علاقة لها بالصراع السياسي، وهدف هؤلاء الشباب كان الرهان على المستقبل عبر تحرير لبنان من النظام الأمني واستعادة الديموقراطية، وهذا في ذاته إنجاز ضخم لا يمكن الاستهانة به. حركة «14 مارس» حركة احتجاجية ضد الوصاية السورية، وقد حصدت نتائج مهمة بعد خروج الجيش السوري من لبنان. عبرت الحركة عن ديموقراطية حقيقية فلم تواجه العمل المسلح بعمل مسلح، وتمسكت بالأصول الدستورية والاعتماد على المؤسسات وعلى الدولة، والرهان على العمل السياسي انجاز مهم رغم التهديد بالفتنة والترهيب بالسلاح.
• ماذا حققت «14 مارس» على مستوى العلاقات مع سورية؟
مساعي «قوى 14 مارس» لتحسين العلاقات السورية ـ اللبنانية كانت صادقة، لكن النظام السوري لم يعترف بالتغيير الذي عرفه لبنان منذ العام 2005 لذا تعاطى مع قادة «14 مارس» بالاسلوب الذي كان مسيطراً على لبنان منذ أكثر من ثلاثين عاماً. طبعاً، أتت زيارات الرئيس سعد الحريري لدمشق كي تعبر عن النيات الطيبة، لكن الذهنية السورية السائدة في التعاطي مع لبنان أفشلت كل المحاولات والمبادرات الإيجابية، وأدت إلى هذه الأزمة. «14 مارس» عملت على مخاطبة السوريين من موقع خطاب دولة مع دولة أخرى، لكن النظام السوري لا يريد الاعتراف باستقلال القرار السياسي في لبنان ولا حتى بسيادة لبنان، ويريد أن يجعل من البلاد ورقة إقليمية ودولية تصب دائمة في مصلحته، ومن هنا ليس من مصلحة دمشق قيام دولة لها قرارها وسيادتها على كل أراضيها. ورغم مبادرة سعد الحريري وإعلانه أن اتهام سورية باغتيال والده كان اتهاماً سياسيا تراجع عنه، فإن ذلك لم يرضِ السوريين، فهم يتعاملون مع لبنان كما يتعاملون مع شؤونهم الداخلية.
• هل ترى أن «قوى 14 مارس» تشهد تراجعاً نسبياً لمشروعها السياسي وخصوصاً ما يتعلق باستقلال القرار اللبناني؟
نعم خسرت في هذا المجال لأن الفريق الآخر استعمل وسائل مختلفة لربط لبنان بالمشروع الإقليمي السوري ـ الإيراني، وقد استعمل وسائل غير سياسية وغير ديموقراطية، وبدأ معركته بالاعتصام الذي استمر عامين، ومارس كل أدوات التعطيل، واستعمل السلاح في 8 مايو 2008. وفي رأيي انهم ربحوا جولة، وخصوصاً بعد الاستشارات النيابية الأخيرة، وفي هذا المعنى فإن انتصارهم جزئي، لأن الغالبية الكبرى في البلاد هي مع توجهات «قوى 14 مارس»، ولا أعتقد أن الاستشارات النيابية الأخيرة التي أوصلت الرئيس نجيب ميقاتي إلى تشكيل الحكومة انتصار مهم بالنسبة إليهم، فقد رجحوا الكفة لمصلحتهم بفارق بسيط مع العلم بأنهم مارسوا خطاب التهديد والوعيد. «قوى 14 مارس» كما أشرت هدفها العبور إلى الدولة وتحييد لبنان عن الصراع العربي ـ الإسرائيلي وتحقيق الديموقراطية وبناء المؤسسات، وهذه المبادئ يريدها نصف الشعب اللبناني إذا لم نقل أكثر.
• تراهن «14 مارس» على بناء الدولة. ما الذي حققته على هذا الصعيد، وهل هي قادرة على تخطي الانقسام المذهبي الراهن؟
لا يمكن أن تتأسس الدولة ما دامت هناك تنظيمات مسلحة تعرقل بسط سلطة الدولة على كامل أراضيها. سلاح «حزب الله» والسلاح الفلسطيني يمنعان قيام الدولة، ومن أولى مهمات الدولة ضبط الأمن، فكيف يمكن قيام دولة يرفع ضدها السلاح لاعتبارات لا علاقة لها بأمن لبنان؟ لولا السلاح لما كان كان البلد منقسماً، ومقاومة إسرائيل من لبنان انتهت عبر القرار الدولي 1701 الذي أقفل خط الحدود وأعادنا إلى خط الهدنة الذي أقره «الطائف»، ولا شك أن هذا القرار هو انتاج النضال السياسي الذي حققته «قوى 14 مارس»، ولكني أريد أن اسأل: إلى متى سيبقى لبنان ساحة للحروب الاقليمية؟ سلاح «حزب الله» هو سلاح اقليمي، وما دام لم يتم الاتفاق على استراتيجية دفاعية قادرة على احتواء هذا السلاح ستبقى الدولة رغم مؤسساتها الضعيفة رهينة للصراع الإقليمي.
• هل عدم تجديد الخطة السياسية عند «قوى 14 مارس» شكل نقطة ضعف في بنيتها، وأين دور النخبة؟
لا شك أن هذه القوى في حاجة إلى مراجعة نقدية على المستوى التنظيمي رغم تعدد أطرافها، لكن الثوابت عندها لا تتغير، وهي بناء الدولة والمحكمة الدولية والسلاح غير الشرعي. لكن المشكلة بصرف النظر عن أي مراجعة نقدية محتملة، تكمن في محاولة «قوى 8 مارس» استعمال كل وسائل السيطرة على السلطة، داخل المجلس النيابي وفي مجلس الوزراء. ثمة انقلاب تدريجي يفتقر الى «بيان رقم واحد». ما جرى في الأعوام الستة الماضية يقتضي بالضرورة إجراء مراجعة تأخذ في الاعتبار التحولات الداخلية التي طرأت على لبنان وخصوصاً بعد انعطافة وليد جنبلاط، والخلل في موازين القوى. «14 مارس» لا تفتقد النخب الفكرية، فماذا سيفعل الفكر في وجه السلاح؟ لقد بدأوا باغتيال قادة «14 مارس»، ثم حولوا بالتهديد الأكثرية أقلية.
• يرى البعض أن «ثورة الارز» شكلت نموذجاً للثورات الشعبية التي تحصل في أكثر من بلد عربي. ما رأيك، وما صحة الحديث عن أن ما يجري يصب في خانة المحور السوري ـ الايراني؟
أجندة المحور السوري ـ الايراني تختلف في شكل جذري عن حركة التحرر في مصر وتونس، فالاحتجاجات الشعبية التي حصلت في هذين البلدين لا علاقة لهما بالمشروع الديني الذي تتبناه إيران من جهة ولا بمحاولة دمشق امتلاك الأوراق الإقليمية الأقوى في المنطقة من جهة أخرى. ما جرى ثورة ضد الأنظمة الأمنية وضد الاستبداد والفقر والجهل، ونلاحظ أن السواد الأعظم من الجمهور الذي نزل الشارع في مصر وتونس هو من الشباب، وفي هذا المعنى فإن ثورتهم تشبه إلى حد كبير «ثورة الأرز». هناك حِراك مهم يجري في المنطقة ضد الانظمة الاستبدادية قد يصل إلى سورية وإلى إيران بعكس ما يتداوله البعض، والتظاهرات في مصر تشبه تظاهرة «ثورة الارز» من حيث نوعية المتظاهرين الذين بينهم العنصر الشبابي ورجال الفكر. وفي رأيي أن ما حصل في «ميدان التحرير» هو نسخة طبق الأصل من «ثورة الارز».
قبل ستة أعوام وإثر «زلزال» اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري انفجرت «ثورة الارز» في بيروت، وسرعان ما تسلمت حركة «14 مارس» السلطة، وبعد ستة أعوام من «الكر والفر» من خصومها داخل السلطة عينها، اقصيت «14 مارس» عن الحكم إثر قلب المعادلة السياسية في البلاد بقوة النفوذ المستعاد لسورية.
تحولات كثيرة حصلت على مدى هذه «الستة أعوام». فبعد الولادة المخضبة بالدم لـ «14 مارس»، ومن ثم خروج «التيار الوطني الحر» بزعامة العماد ميشال عون من «ثورة الارز» إلى أحضان محور «الممانعة»، فالانعطافة «التراجيدية» للزعيم الدرزي وليد جنبلاط، محطات جوهرية تستولد الكثير من الأسئلة عن المستقبل.
وعلى وقع النقاط التي يسجلها كل فريق ضد آخر داخل «البانوراما» السياسية المأزومة في بيروت، تتلاحق التطورات في ظل مجريات طارئة كثيرة قلبت المعطيات من دون أن تؤدي إلى قلب الأهداف. ففي مقابل الانجازات السياسية التي حققتها «قوى 14 مارس» أقله على مستوى العمل الحثيث لتحقيق التبادل الديبلوماسي بين سورية ولبنان وقيام المحكمة الدولية، لا بد من طرح ملف آخر عنوانه «أين أخطأت قوى 14 مارس وأين أصابت؟».
خمسة أمور استطاعت هذه القوى تحقيقها طوال الأعوام الستة الماضية، أولها إجراء أول انتخابات برلمانية في غياب القبضة السورية، ثانيها تدشين التبادل الديبلوماسي بين سورية ولبنان، ثالثها إنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، رابعها اضطرار سعد الحريري إلى تشكيل حكومة ثلثها المعطل بيد المعارضة تبعاً لـ «اتفاق الدوحة»، وخامسها إدخال لبنان في صيغة اتفاق شبيه باتفاق الهدنة بفعل القرار الدولي 1701.
وعلى الجبهة الأخرى حققت «قوى 8 مارس» الأمور الآتية: الحصول على «الثلث الضامن أو المعطل» في «اتفاق الدوحة»، عودة النفوذ السوري بعد استراحة موقتة، محاولة الايحاء أن مشروع «14 مارس» يصب في خانة الأهداف الأميركية في المنطقة، إعادة الزعيم الدرزي وليد جنبلاط إلى ما يسمى خط الممانعة، السعي إلى اقناع جزء من الرأي العام اللبناني بأن المحكمة الدولية لن تؤدي إلاّ الى الفتنة المذهبية.
واليوم عشية اكمال «قوى 14 مارس» عامها السادس، وبصرف النظر عن «الانشقاق» الجنبلاطي الأخير الذي أكسب الأقلية النيابية غالبية شبه متوازنة مع الأكثرية السابقة، يطرح السؤال: أين اخطأت «14 مارس» وأين أصابت في ما يتعلق بالملفات الداخلية وامتداداتها الإقليمية؟ هذا الملف حملته «الراي» الى كل من عضو الامانة العامة لـ «14 مارس» النائب السابق سمير فرنجية وأستاذ الدراسات الشرق الأوسطية في الجامعة الأميركية في باريس زياد ماجد، والقيادي المخضرم في حزب الكتائب جوزف أبو خليل.
سمير فرنجية: أكبر أخطائنا
محاولة استيعاب «حزب الله» وطاولة الحوار
سمير فرنجية، القيادي الأكثر تأثيراً في أدبيات «14 مارس» وثورتها كما يقول عنه البعض، يحاورك بهدوء، ويدرك أن «ثورة الأرز» التي جبهت منذ يومها الأول لم تكتمل بعد. «ثمة أخطاء ارتكبت تستدعي المراجعة، وثمة انجازات سياسية تحققت لابد من متابعتها»، بهذه العبارة يوجز فرنجية تجربة الأعوام الستة الماضية، ولعل الأهم عنده أن هذه الثورة التي «قضمت» النظام الأمني اللبناني ـ السوري شكلت الانطلاقة الأولى للثورات التي يشهدها العالم العربي والإسلامي، بدءاً بإيران وصولاً إلى ثورة «ميدان التحرير» في مصر.
• أين أخطات «قوى 14 مارس» وأين أصابت طوال الأعوام الستة الماضية؟
لا شك أن «14 مارس» تمكنت من تحقيق أمور أساسية منها: إخراج الجيش السوري من لبنان، واستعادة الاستقلال، وكسر القيود التي كانت مفروضة على الحريات، وإعادة الاعتبار إلى الديموقراطية اللبنانية عبر إجراء أول انتخابات نيابية العام 2005 ثم العام 2009، وإعادة لبنان الى المسرح العربي والدولي. طبعاً هناك أخطاء وقعت، والخطأ الأكبر المحاولات التي بذلت مع فريق «حزب الله» بغية استيعابه في الدولة بعد سقوط النظام الأمني السوري ـ اللبناني، وقُدمت في هذا السبيل عدد من التنازلات منها ما سمي «التحالف الرباعي» في انتخابات 2005، والقبول بالجلوس على طاولة الحوار العام 2006، وإلغاء دور المجلس النيابي. هذه التنازلات وغيرها أدت إلى تهميش التيارات الديموقراطية والإصلاحية في الطائفة الشيعية، الأمر الذي سمح لـ «حزب الله» بوضع يده على كامل الطائفة. الجزء الثاني من الأخطاء ارتكب بعد انتخابات العام 2009 عندما حاولت «قوى 14 مارس» مدّ يدها إلى سورية، فكانت زيارة الرئيس سعد الحريري لدمشق في نظرنا محاولة تهدف إلى طيّ صفحة الخلاف بين سورية ولبنان منذ الاستقلال، لكن القيادة السورية تعاملت مع هذه الخطوة كما كان نهجها قبل العام 2005، ما أحدث صدمة لدى جمهور «14 مارس» الذي حمّل مسؤولية ما جرى لقادته، علماً بأن المسؤول الأساسي هو النظام السوري. أما اليوم فهناك وعي لدى «قوى 14 مارس» للأخطاء السابقة وبدأت المراجعة لاستخلاص الدروس من التجربة الماضية.
• «قوى 14 مارس» سجلت نقاطا ايجابية ووقعت في أخطاء كما أشرت. ولكن ما أبرز النقاط التي سجلتها «قوى 8 مارس» كمعطيات سياسية معاكسة لكم؟
أهم نقطة سجلتها «8 مارس» هي إعادة العلاقات بين اللبنانيين الى ما كانت عليه أيام الحرب الأهلية، بمعنى أنها نجحت في ترسيخ الانقسام الطائفي الحاد، وقامت بتوظيف الدين في الصراع السياسي، وربط لبنان بمعادلات إقليمية عبر تحويله ساحة. والأخطر من كل ذلك هو الفرز الذي أدخله «حزب الله» بين المواطنين، فأصبح في لبنان مواطنون درجة أولى ومواطنون درجة ثانية. الفريق الأول يحق له حمل السلاح بحجة أنه يدافع عن لبنان، والفريق الثاني لا يحق له حمل السلاح وهو تحت القانون. هذا الأمر أدى إلى انقسام في الطبيعة الثقافية، وهذا عامل خطير، لأن الانقسام السياسي أمر طبيعي في أي مجتمع، أما الانقسام الطائفي والثقافي القائم على تمجيد العنف والفصل بين الناس فخطير وأكاد أقول خطير جداً. هذه الثقافة جديدة على التجربة اللبنانية، والمشكلة أن فريق «8 مارس» لا يريد أخذ الدروس من تجربة الحرب الماضية والأخطاء السياسية التي ارتكبت قبل نشوبها والتي أدت الى تفجير الوضع الأمني.
• هل تملك «قوى 8 مارس» رؤية استراتيجية أكثر قدرة على تكريس النفوذ الداخلي مقارنة بـ «قوى 14 مارس»؟
لا أعتقد أن «قوى 8 مارس» تملك رؤية استراتيجية. انها تندرج في إطار معكسر الممانعة والمقاومة المنتمي إلى فترة تاريخية انتهت، وبالتالي لدى «قوى 8 مارس» مشروع لا يهدف إلاّ إلى منع تقدم لبنان نحو بناء الدولة، وما يقوله النائب ميشال عون حول الاصلاح والتغيير كلام سخيف، يحاول عبره تبرير تحالفه الحالي. لا تملك «قوى 8 مارس» رؤية لمستقبل لبنان، وليس لديها خطاب سياسي تتوجه به إلى كل فئات المجتمع اللبناني. هناك محاولات مستمرة لإثارة النعرات الطائفية والمذهبية، كما حدث في 7 مايو 2008، بدليل انه في انتخابات 2009 رفض اللبنانيون هذا المنطق وهزموا «قوى 8 مارس» وخصوصاً بعد الخطاب الذي ألقاه الأمين العام لـ «حزب الله» حين وصف 7 مايو بانه يوم مجيد في تاريخ المقاومة.
• هل تشعر «14 مارس» بأن ثورتها التي انطلقت العام 2005 تراجعت اليوم، وأين هي من بناء الدولة؟
«ثورة الأرز» تمّت محاصرتها منذ اليوم الأول، ويجب ألا ننسى أن حملة الاغتيالات التي وقعت جعلتها لفترة طويلة غير قادرة على أن تنظم اجتماعاً في ما بينها. الى ذلك فإن «قوى 8 مارس» أفشلت تجربة الحكومة، وأغلقت المجلس النيابي وعطلت المؤسسات منذ لحظة قيام الثورة حتى انتخابات العام 2009. لقد استعملت ضد «ثورة الأرز» عمليات ترهيب، وقد شهدنا محاولات لقلب النظام بالقوة، واحتلال الساحات العامة في بيروت، وتنظيم الاضطرابات وقطع الطرق، وفتح معركة الإسلاميين في نهر البارد، وما كدنا ننتهي حتى قام «حزب الله» باحتلال بيروت عسكرياً. نحن لم يعط لنا المدى الزمني المطلوب لكي نقوم ببناء الدولة، ولكن ثورتنا أنجزت الكثير، وأول انجازاتها هو ما حصل في ايران في الانتخابات الأخيرة العام 2009، وما حصل من تعبير ديموقراطي عظيم في تونس ومصر، ووضع الأنظمة الاستبدادية في موضع الدفاع عن النفس. وما نشهده من قمع في إيران وسورية خير دليل على ذلك. على المستوى الداخلي، الظروف التي أحاطت بنا كانت صعبة، والتسويات أدت دوراً لم يكن لمصلحتنا.
• «ثورة الأرز» استطاعت لفترة محددة كسر الانقسام الطائفي بين اللبنانيين. هل تشعرون اليوم بأنكم اجبرتم على اعتماد الخطاب الطائفي بعدما كان خطابكم وطنياً؟
نحن لم نعتمد الخطاب الطائفي ونرفض ذلك، في حين أن الفريق الآخر وتحديداً «حزب الله» هو الذي يقوم بتوظيف الدين لمصلحة الأهداف السياسية. الخطأ الأساسي الذي ارتكبته «قوى 14 مارس» هو المحاولة الفاشلة للتوصل الى تسوية مع «حزب الله»، وهي تجربة دفع ثمنها الاتجاه الاصلاحي والديموقراطي في الوسط الشيعي. «قوى 14 مارس» خاضت معركة للحافظ على طابعها الإسلامي ـ المسيحي، وتعتبر أن هذا اللقاء هو الأساس، والكل يتذكر الكلام الذي أدلى به الرئيس سعد الحريري حين قال لحلفائه «الموت وحده يفصلني عنكم»، وكان يتكلم والضغوط تمارس عليه لفكّ ارتباطه مع «القوات اللبنانية» و«حزب الكتائب» والمستقلين المسيحيين.
زياد ماجد: ما جرى بعد 14 مارس
استسلام للتسويات الموقتة
رأى زياد ماجد أن «قوى 14 مارس» تدرجت نحو التسويات السياسية ما أدى الى خسارتها في عدد من الملفات، مؤكداً أن هدف هذه القوى وغيرها من الاستقلاليين فكّ ارتباط لبنان بـ «السياسة الإقليمية السورية». ولفت إلى أهمية قيام «14 مارس» بمراجعة نقدية لخطابها السياسي أولاً وللقواعد الاصلاحية لبناء الدولة ثانياً.
• أين أخطأت «قوى 14 مارس» في إدارة العلاقات الداخلية طوال الأعوام السابقة، وهل يمكن القول إنها قامت بنصف ثورة؟
يمكن القول إن لحظة 14 مارس 2005 كانت لحظة انتفاضة شعبية كبرى في وجه الهيمنة السورية وفي وجه القتل والاغتيال السياسي وفي وجه دفاع «حزب الله» عن نظام دمشق. لكن اللحظة تلك لم تكن منطلقاً لثورة. فما جرى بعد 14 مارس كان عودة الى ممارسة السياسية داخلياً في طريقة معهودة ومحافِظة، وكان استسلاماً لمنطق البحث عن تسويات موقتة من دون قاعدة صلبة يمكن أن توفّر تأسيساً جدّياً للحل. كما أتى من دون تجديد في الخطاب السياسي المتعلّق بإعادة بناء الدولة وإصلاح مؤسساتها، ومن دون تجديد في النخب السياسية وفي الممارسة العامة.
يضاف إلى ذلك أن طبيعة النظام الطوائفية والتوافقية والتكوين الاجتماعي المذهبي لمعظم القوى اللبنانية الكبرى يدفعان دوماً إلى تشكيل انقسامات عمودية تضفي الطابع المذهبي على المواجهات ما يحول دون بلورة قواعد للعبة السياسية تتخطى القدرة التعبوية للجماعات الأهلية.
وما عقّد الأمور داخلياً أكثر أن بدء موجة الاغتيالات المستهدفة عدداً من صانعي الانتفاضة وقادتها، ثم تبدّل التحالفات، والهجوم المضاد من جانب حلفاء النظام السوري بهدف إسقاط حكومة الشراكة التي امتلكوا فيها أقلية، جعلت الواقع السياسي واقع صراعات محمومة يظهر هشاشة الإجماعات الوطنية ويظهر أيضاً صعوبة إدارة الأمور في ظل الضغط الأمني والاحتقان الطائفي والمذهبي. ولم تأت الحرب مع اسرائيل العام 2006 سوى لتزيد الطين بلة.
• العلاقات مع سورية شكلت أحد أهم ملفات «قوى 14 مارس». هل ثمة مكتسبات حققتها في هذا المجال، ولماذا تسعى دمشق إلى تطويع هذه القوى، وهل نجحت في ذلك بعد إقصاء سعد الحريري عن رئاسة مجلس الوزراء؟
أعتقد أن الصراع من أجل حرية لبنان مع النظام السوري وليس مع سورية ـ كان وسيبقى مركزياً بالنسبة إلى الاستقلاليين اللبنانيين، إن كانوا في «14 مارس» بتشكيلها الحالي أو خارجها. فالنظام السوري ينظر إلى لبنان بوصفه ساحة لما يسمّى الحروب بالواسطة («البروكسي»)، والسياسة الإقليمية السورية قامت وتقوم على تجميع أكبر قدر من الأوراق والإمساك بساحات التوتر في المنطقة من أجل المقايضة عليها وصوغ علاقات مع الولايات المتحدة الأميركية والغرب قائمة على طلب التفويض الدائم لإدارة الملفات ذات الصلة بالأوراق وساحات التوتر المذكورة. لذا، يعتبر نظام دمشق أن خسارته لبنان هي خسارة كبرى يصعب البقاء في موقع إقليمي مركزي من دون تعويضها واستعادة القدرة على التحكم في الساحة اللبنانية مجدداً. ويا للأسف، يوفّر «حزب الله» أرضية للنظام السوري نتيجة التحالف الإيراني السوري، للتعويض والعودة والارتكاز إلى مركز قوة لفرض الشروط.
«14 مارس» صمدت في وجه النظام السوري وهجماته لفترة طويلة، وليس مصادفة أن توقّف الاغتيالات التي تعرّضت لها جرى بعد 7 مايو 2008 وتحقيق دمشق عودة كبيرة إلى المشهد اللبناني وانتزاع حلفائها للثلث الضامن في الحكومة وللغطاء الحكومي لسلاحهم. وراهن النظام السوري بعد ذلك على أن مصالحة فرنسا والسعودية له كفيلة تأمين تطبيع مع سعد الحريري لتبرئته من دم والده، والتأسيس بالتالي رغم خسارة حلفائه الانتخابات العام 2009 لصفحة جديدة يغطّي فيها الحريري المتصالح مع بشار الأسد قرار التراجع عن المحكمة الدولية، ما يجعل العودة السياسية الى لبنان رسمياً، أي من باب شراكة الحكومة اللبنانية، واقعاً. وكادت أن تنجح دمشق في الأمر لولا تدخلات دولية ـ أميركية خصوصاً من ناحية، ولولا مغالاتها وحلفاءها في رفع الشروط ورفض «التنازلات» المقابلة ومحاولة إظهار الآخر مستسلماً من ناحية اخرى. فكان عندها الخيار الثاني، عبر الضغط على وليد جنبلاط والتهديد بالفتنة وبالحرب، لإسقاط الأكثرية «الـ 14 مارسية» وإزاحة سعد الحريري والدخول في سيناريو بديل، هو سيناريو مواجهة عبر تسلم السلطة اللبنانية مباشرة وعنوة، بالاتكاء على فائض قوة «حزب الله» وعلى الارتباك السعودي والغربي بهدف تعطيل المحكمة.
لكن الأمور معقدة، وقد تظهر الأسابيع المقبلة التي تفصلنا عن صدور القرار الظني أننا أمام مسار متعرج لن تهدأ التبدلات في خطه.
في المحصلة، يمكن القول إن النقاط التي أحرزتها «قوى 14 مارس» بين العامين 2005 و 2007 أي بين لحظة إخراج الجيش السوري من لبنان ولحظة إقرار المحكمة الدولية وما تخلّل الفترة من قتل وحملات، عادت وخسرت جزءاً كبيراً منها بعد العام 2008 نتيجة سلاح «حزب الله»، ونتيجة التطبيع الجزئي العربي والغربي مع نظام دمشق. ونحن اليوم أمام مرحلة جديدة ستتداخل فيها عوامل كثيرة لإنتاج مشهد جديد ليس واضح المعالم تماماً بعد.
• بعد انعطافة وليد جنبلاط كيف يمكن لـ «قوى 14 مارس» تخطي الانقلاب الجنبلاطي؟
خسارة وليد جنبلاط هي خسارة كبيرة نتيجة استثنائية موقعه في المعادلتين الطائفية واللبنانية. وهي خسارة مرتبطة بتوازن قوى داخلي ضاغط لم يتمكّن جنبلاط من تعديله، ومن توازن قوى إقليمي ضاغط أيضاً يعتبر جنبلاط أن الالتحاق به أفضل من مواجهته. لكن توازن القوى هو في تعريفه «ديناميكي» ويمكن أن يتبدّل تبعاً لتبدل الظروف والمناخات وبروز عناصر قد لا تكون على الدوام متوقعة. لذلك لا أعتقد أن هذه الخسارة نهائية. كما لا أعتقد أن جنبلاط، رغم كل قدرات التكيّف و«رشاقة الحركة» التي يتمتع بها، هو في موقع يسرّه أو يُحسد عليه.
• يرى البعض ان التحولات العربية الراهنة تصب في مصلحة محور الممانعة. إلى أي مدى يؤثر هذا التحول في خيارات «14 مارس» لجهة المتغيرات الإقليمية المتوقعة؟
التحولات التي تجري انطلاقاً من تونس، ومن بعدها مصر، الدولة العربية الأكثر تأثيراً ومركز الثقل الاستراتيجي في المنطقة، هي تحوّلات تاريخية رائعة أكبر من الاصطفافات اللبنانية وقراءاتها لها، وأكبر مما يسمّى محور الممانعة أو محور الاعتدال أو أي محور آخر. وهي أساساً منطلقة من القضايا الداخلية في كل من البلدين، وليس من تقويم الناس للسياسات الخارجية. ما يجري، وبمعزل عن المسارات السياسية الآنية التي قد يفضي إليها، والتي لن تكون سهلة ولا زهرية، هو بدء نهاية الاستبداد، وبدء استعادة الناس، ولا سيما الشباب وهم يشكلون أكثر من ثلثي سكان المنطقة، لجزء من حقوقهم في المساءلة والضغط في الشارع بلا خوف رفضاً لتمادي الانتهاك لكراماتهم ولعقولهم ودفاعاً عن حريتهم ولقمة عيشهم. وهذا تحوّل هائل في موازين القوى داخل كل بلد. وقد رأينا حال الخوف التي أصابت معظم حكّام المنطقة، وغيّرت ولو لفظياً من مواقفهم الرافضة سابقاً لكل إصلاح ومحاولة تأبيد السلطة. فإذ بالعديد منهم يعترف بالحاجة الى التغيير ويتعهّد عدم الترشح من جديد، ويطلب إعطاءه فرصة جديدة ويعد بتعديل قوانين الطوارئ. وحتى لو أن رهانهم هو على محاولة استيعاب الدينامية الجديدة لهضمها، فإن الرهان هذا ستسبقه التطورات ولن تتيح له الصمود طويلاً إن لم تتحقّق الوعود. وكل قراءة للحدث بوصفه تقدّما لهذا الطرف أو ذاك هي قراءة مجتزأة وموقتة جداً، وخصوصا أن عودة مصر على المديين المتوسّط والبعيد إلى احتلال الموقع الذي يفترض بها احتلاله في المنطقة، سيعني تحويل أدوار قوى استفادت من حال الفراغ القائم عربياً، وتحديداً إيران، أدوارا شبه طفيلية.
ثانياً، من قال إن ما يسمى دول الممانعة هي في منأى من خضات كبرى؟ لا ننسى أن إيران حصل فيها قبل عامين ما يشبه الثورة الشعبية المصرية اليوم. لكن آلة القمع الإيرانية كانت أشدّ فتكاً من مثيلتها المصرية والقوى الأمنية أكثر تماسكاً وولاءً للنظام، فنجا محمود أحمدي نجاد. لكن إعادة الكرة قد لا تحمل النتائج نفسها. أما سورية، التي يعتدي أمن نظامها أسبوعياً على المعتصمين مع تونس ومع مصر، فحالها يبدو داخلياً أكثر ضبطاً لأن النظام هشّم على مدى عقود مجتمعه على نحو أكثر عنفاً من كل الحالات الأخرى إذا ما استثنينا العراق. لكنه يدري أيضاً أن الأمور ليست مستتبة الى الأبد وأن كسب الوقت عبر التوازنات الخارجية التي تبقيه مقبولاً غربياً، ومُفضّلاً على الفوضى أو المجهول كما يكرر المسؤولون الاسرائيليون، ليس مضموناً في كل الظروف. لذلك، فان الأمور أكثر تعقيدا من قضية انهيار حكم يعدّه الممانعون مواجهاً لهم.
ثالثاً، من رياء بعض جوانب الحياة السياسية اللبنانية أن يحتفل بالثورات الشعبية في مصر وتونس من احتفل بزهق أرواح ثورات إيران ومثقفي سورية. ومن الجهل والخفة في المقابل أن يصاب ببعض الأحباط من يتغنى بـ «انتفاضة الاستقلال» اللبنانية ومن يتحدث عن الاستبداد في سورية. فازدواجية المعايير هذه سقوط أخلاقي وسياسي معطوفة على حسابات محدودة في فهم السياسة وتبدل التوازنات فيها.
في أي حال، وللإجابة المباشرة عن السؤال، أقول إن توازن القوى اليوم بين «14 مارس» من جهة و»حزب الله» وسورية من جهة أخرى هو توازن محكوم بأمرين: سلاح الحزب، والتطبيع الغربي غير المشروط مع سورية، وطبعاً أوضاع إيران والسعودية لعلاقاتهما العضوية بأكبر كتلتين لبنانيتين متواجهتين... أما التحوّلات الأخرى الكبرى والصغرى، فتأثيرها في هذا التوازن ثانوي.
جوزف أبو خليل: خسرنا جولة في معركة استقلال القرار
دعا جوزف ابو خليل «قوى 14 مارس» إلى اجراء «مراجعة شاملة»، منوهاً بأهمية المبادرات الطيبة التي قام بها سعد الحريري حيال دمشق، ومؤكداً أن مشروع الدولة الذي تتبناه هذه القوى لا يمكن تحقيقه في ظل وجود السلاح.
• بعد مرور ستة أعوام على قيامها، أين أخطأت «14 مارس» وماذا حققت من نتائج؟
لا أعلم إذا كانت تسمى أخطاء، هذه المسألة نسبية، «قوى 14 مارس» تحالف عريض بين قوى سياسية متعددة التقت على خيارات أساسية، ولكن لا يمكن أن نطلق عليها تسمية تنظيم متماسك، ومن الصعب أن تكون كذلك لأسباب عديدة، وهذا الأمر أدى إلى اضعاف مواقف «14 مارس»، فهي لا تمتلك خطة استراتيجية بالمعنى الشامل تسمح لها بالتعاطي مع أي مستجدات طارئة، لذا فإن عملها عادي جداً لفقدان التنظيم وغياب الرؤية السياسية، وفي رأيي ان ذلك يعود الى التعددية داخل الحركة. ولكن «قوى 14 مارس» حققت انجازات عديدة، وهي في الدرجة الأولى تسعى إلى بناء الدولة وتطبيق الديموقراطية، ولكن الأهم أن التظاهرة المليونية التي حدثت العام 2005 كان لها تأثير في العالم العربي، وهذا ما نلاحظه في مصر وتونس ودول أخرى. هذه التظاهرة كانت تظاهرة شبابية لا علاقة لها بالصراع السياسي، وهدف هؤلاء الشباب كان الرهان على المستقبل عبر تحرير لبنان من النظام الأمني واستعادة الديموقراطية، وهذا في ذاته إنجاز ضخم لا يمكن الاستهانة به. حركة «14 مارس» حركة احتجاجية ضد الوصاية السورية، وقد حصدت نتائج مهمة بعد خروج الجيش السوري من لبنان. عبرت الحركة عن ديموقراطية حقيقية فلم تواجه العمل المسلح بعمل مسلح، وتمسكت بالأصول الدستورية والاعتماد على المؤسسات وعلى الدولة، والرهان على العمل السياسي انجاز مهم رغم التهديد بالفتنة والترهيب بالسلاح.
• ماذا حققت «14 مارس» على مستوى العلاقات مع سورية؟
مساعي «قوى 14 مارس» لتحسين العلاقات السورية ـ اللبنانية كانت صادقة، لكن النظام السوري لم يعترف بالتغيير الذي عرفه لبنان منذ العام 2005 لذا تعاطى مع قادة «14 مارس» بالاسلوب الذي كان مسيطراً على لبنان منذ أكثر من ثلاثين عاماً. طبعاً، أتت زيارات الرئيس سعد الحريري لدمشق كي تعبر عن النيات الطيبة، لكن الذهنية السورية السائدة في التعاطي مع لبنان أفشلت كل المحاولات والمبادرات الإيجابية، وأدت إلى هذه الأزمة. «14 مارس» عملت على مخاطبة السوريين من موقع خطاب دولة مع دولة أخرى، لكن النظام السوري لا يريد الاعتراف باستقلال القرار السياسي في لبنان ولا حتى بسيادة لبنان، ويريد أن يجعل من البلاد ورقة إقليمية ودولية تصب دائمة في مصلحته، ومن هنا ليس من مصلحة دمشق قيام دولة لها قرارها وسيادتها على كل أراضيها. ورغم مبادرة سعد الحريري وإعلانه أن اتهام سورية باغتيال والده كان اتهاماً سياسيا تراجع عنه، فإن ذلك لم يرضِ السوريين، فهم يتعاملون مع لبنان كما يتعاملون مع شؤونهم الداخلية.
• هل ترى أن «قوى 14 مارس» تشهد تراجعاً نسبياً لمشروعها السياسي وخصوصاً ما يتعلق باستقلال القرار اللبناني؟
نعم خسرت في هذا المجال لأن الفريق الآخر استعمل وسائل مختلفة لربط لبنان بالمشروع الإقليمي السوري ـ الإيراني، وقد استعمل وسائل غير سياسية وغير ديموقراطية، وبدأ معركته بالاعتصام الذي استمر عامين، ومارس كل أدوات التعطيل، واستعمل السلاح في 8 مايو 2008. وفي رأيي انهم ربحوا جولة، وخصوصاً بعد الاستشارات النيابية الأخيرة، وفي هذا المعنى فإن انتصارهم جزئي، لأن الغالبية الكبرى في البلاد هي مع توجهات «قوى 14 مارس»، ولا أعتقد أن الاستشارات النيابية الأخيرة التي أوصلت الرئيس نجيب ميقاتي إلى تشكيل الحكومة انتصار مهم بالنسبة إليهم، فقد رجحوا الكفة لمصلحتهم بفارق بسيط مع العلم بأنهم مارسوا خطاب التهديد والوعيد. «قوى 14 مارس» كما أشرت هدفها العبور إلى الدولة وتحييد لبنان عن الصراع العربي ـ الإسرائيلي وتحقيق الديموقراطية وبناء المؤسسات، وهذه المبادئ يريدها نصف الشعب اللبناني إذا لم نقل أكثر.
• تراهن «14 مارس» على بناء الدولة. ما الذي حققته على هذا الصعيد، وهل هي قادرة على تخطي الانقسام المذهبي الراهن؟
لا يمكن أن تتأسس الدولة ما دامت هناك تنظيمات مسلحة تعرقل بسط سلطة الدولة على كامل أراضيها. سلاح «حزب الله» والسلاح الفلسطيني يمنعان قيام الدولة، ومن أولى مهمات الدولة ضبط الأمن، فكيف يمكن قيام دولة يرفع ضدها السلاح لاعتبارات لا علاقة لها بأمن لبنان؟ لولا السلاح لما كان كان البلد منقسماً، ومقاومة إسرائيل من لبنان انتهت عبر القرار الدولي 1701 الذي أقفل خط الحدود وأعادنا إلى خط الهدنة الذي أقره «الطائف»، ولا شك أن هذا القرار هو انتاج النضال السياسي الذي حققته «قوى 14 مارس»، ولكني أريد أن اسأل: إلى متى سيبقى لبنان ساحة للحروب الاقليمية؟ سلاح «حزب الله» هو سلاح اقليمي، وما دام لم يتم الاتفاق على استراتيجية دفاعية قادرة على احتواء هذا السلاح ستبقى الدولة رغم مؤسساتها الضعيفة رهينة للصراع الإقليمي.
• هل عدم تجديد الخطة السياسية عند «قوى 14 مارس» شكل نقطة ضعف في بنيتها، وأين دور النخبة؟
لا شك أن هذه القوى في حاجة إلى مراجعة نقدية على المستوى التنظيمي رغم تعدد أطرافها، لكن الثوابت عندها لا تتغير، وهي بناء الدولة والمحكمة الدولية والسلاح غير الشرعي. لكن المشكلة بصرف النظر عن أي مراجعة نقدية محتملة، تكمن في محاولة «قوى 8 مارس» استعمال كل وسائل السيطرة على السلطة، داخل المجلس النيابي وفي مجلس الوزراء. ثمة انقلاب تدريجي يفتقر الى «بيان رقم واحد». ما جرى في الأعوام الستة الماضية يقتضي بالضرورة إجراء مراجعة تأخذ في الاعتبار التحولات الداخلية التي طرأت على لبنان وخصوصاً بعد انعطافة وليد جنبلاط، والخلل في موازين القوى. «14 مارس» لا تفتقد النخب الفكرية، فماذا سيفعل الفكر في وجه السلاح؟ لقد بدأوا باغتيال قادة «14 مارس»، ثم حولوا بالتهديد الأكثرية أقلية.
• يرى البعض أن «ثورة الارز» شكلت نموذجاً للثورات الشعبية التي تحصل في أكثر من بلد عربي. ما رأيك، وما صحة الحديث عن أن ما يجري يصب في خانة المحور السوري ـ الايراني؟
أجندة المحور السوري ـ الايراني تختلف في شكل جذري عن حركة التحرر في مصر وتونس، فالاحتجاجات الشعبية التي حصلت في هذين البلدين لا علاقة لهما بالمشروع الديني الذي تتبناه إيران من جهة ولا بمحاولة دمشق امتلاك الأوراق الإقليمية الأقوى في المنطقة من جهة أخرى. ما جرى ثورة ضد الأنظمة الأمنية وضد الاستبداد والفقر والجهل، ونلاحظ أن السواد الأعظم من الجمهور الذي نزل الشارع في مصر وتونس هو من الشباب، وفي هذا المعنى فإن ثورتهم تشبه إلى حد كبير «ثورة الأرز». هناك حِراك مهم يجري في المنطقة ضد الانظمة الاستبدادية قد يصل إلى سورية وإلى إيران بعكس ما يتداوله البعض، والتظاهرات في مصر تشبه تظاهرة «ثورة الارز» من حيث نوعية المتظاهرين الذين بينهم العنصر الشبابي ورجال الفكر. وفي رأيي أن ما حصل في «ميدان التحرير» هو نسخة طبق الأصل من «ثورة الارز».