ثورة على... الثورة!


هم شباب مصريون أتقنوا لغة العصر ممزوجة بحرص رائع على مستقبل أفضل لبلادهم. خاطبوا رفاقهم واصدقاءهم وأهلهم بطرق جديدة لم تعتد عليها الانظمة العربية. طالبوهم عبر الخطوط الإلكترونية و«عصافير الهواء» ومفاتيح الهواتف النقالة بأن يتجمعوا في الساحات تعبيرا لرفضهم الحاضر وتحفيزا على التغيير.
الاستجابة كانت مدهشة. متحضرة. مختلفة... عشرات الآلاف في الشوارع مع الإصلاح السياسي والتغيير الديموقراطي ووقف الفساد ومحاسبة المسؤولين عنه. أما ردود الفعل من السلطة فلم تكن مختلفة على الاطلاق. قمع ومواجهة واطلاق رصاص حي ومطاطي. الصورة نفسها لكن النتيجة غير.
عشرات الآلاف صاروا مئات الآلاف ثم ملايين. اختفى رجال الشرطة من الشارع وملأ البلطجية بعض الفراغات قبل أن ينتشر الجيش ويبدأ عملية استعادة الأمن والاستقرار. السلطة اعلنت إصلاحات لم تكن لتعلن بعضها لولا الضغط الشعبي. المعارضة حددت سقف مطالبها وأرادت المزيد... دخل من دخل على الخط المصري وبقي الجيش حاميا للناس وللنظام في انتظار ولادة جديدة.
مشهد مهيب. رائع. تاريخي. مشهد لم يحصل سابقا في مصر حيث كانت السلطة لملك ثم لثورة 23 يوليو عام 1952 التي قام بها عسكريون. هذه المرة المواطنون هم الذين تحدوا كل المحاذير وخرجوا الى الشارع. هي ثورة وان كان البعض يريد تحويلها إلى فوضى. هي دنيا جديدة تخرج من أم الدنيا... ومع ذلك فليتسع صدر الأخوة المصريين لبعض الهواجس والمخاوف.
ما حصل في مصر نريده ثورة، إنما ضد كل اشكال القمع المعلن والمستتر. ضد حصر السلطة والثروة في يد واحدة أو أياد معدودة. ضد الفساد وضد الافساد للحياة العامة بكل صورها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والادارية والقضائية والاعلامية. ضد الحزبية الضيقة والفئوية الاضيق. ضد الشعارات العاطفية التي تؤدي إلى الغوغاء لا الى السياسات العقلانية. نريدها ثورة لمزيد من الحريات والديموقراطية، ليس بمعنى أن تكتب الصحف ما تشاء وأن يفعل النظام ما يشاء، بل بمعنى الممارسة المسؤولة التي تنتج طبقة كبيرة تتقن مفردات الديموقراطية وتترجمها على صعد التمثيل الشعبي والرقابة والمحاسبة وتداول السلطة، إضافة الى توظيف الثروات العامة والمداخيل في تطوير ميادين التربية والصحة والاسكان والعمل والانتاج والمواصلات والاتصالات وكل ما له علاقة بحاجات المواطن المصري مباشرة وطموحاته وآماله.
نريدها ثورة لا تصنع تماثيل لزعماء وقادة «تاريخيين» بل تحترم نضالات وتضحيات الثائرين. ثورة لا يختزل من يتلو فيها البيان الرقم واحد مصر بشخصه وسلوكياته فاذا أخطأ نقول إن الشعب لم يرتق الى مستوى الوعي أو أن البطانة هي التي تخطئ وليس الزعيم. نريد ثورة تؤسس لمجتمع مدني يعيد القوات المسلحة الى ثكناتها ومهماتها ويعيد السياسيين المحنكين والاقتصاديين البارعين الى دوائر صنع القرار... ومصر من اكثر الدول التي تمتلك هذه النوعيات من القياديين.
نريدها ثورة لا تعيد رفع صور كالتي رأيناها مع المتظاهرين، ولا ترفع شعارات غوغائية عفى عليها الزمن، فلا صوت يعلو فوق صوت التنمية لا المعركة، ولا مشهد أجمل من مشهد الحياة لان المصريين يريدون ثقافة الحياة لا ثقافة الموت. نريدها ثورة تخلع عن مصر زيها الكاكي واتحاداتها الاشتراكية وهيئات قوى الشعب العامل وطوابير العاطلين عن العمل وحاملي ورقة «التوصية» من مدير الاستخبارات الفلاني للتوظيف. نريدها ثورة لا تعلن حربا على القطاع الخاص لان مجموعة من اليساريين والاشتراكيين والشيوعيين يعجزون عن ايجاد اجابات اقتصادية خارج حدود تفكيرهم، ونريدها ثورة لا تعلن حربا على المجتمع بحجة اسلمته لان مجموعة من المتأسلمين السياسيين يعجزون عن ايجاد اجابات اجتماعية خارج حدود تفكيرهم.
عهد جمال عبد الناصر سيطر على السلطة والثروة من خلال التأميم والقمع وبرر ذلك بالحروب التي كانت مصر تخوضها من اسرائيل الى... اليمن. اعتمد على أهل الثقة لا اهل الخبرة بالحجة نفسها. وعهد انور السادات سيطر على السلطة والثروة من خلال القبضة الحديد في الداخل والانفتاح الذي قادته «مجموعة القطط السمان» القريبة منه بحجة الجنوح الى السلم بعد حرب اكتوبر والتحول التدريجي من الانغلاق الى الانفتاح. والعهد الحالي، وعلى رغم كل المظاهر الانفتاحية الديموقراطية التي قام بها ورغم كل النقلات الاقتصادية التي حصلت في مصر، الا انه احتفظ ايضا بالسلطة والثروة عن طريق القاعدة العسكرية والامنية التي شكلت مرجعية النظام، وعن طريق التحديات الانتقالية والامنية التي خاضها النظام، وعن طريق التسهيلات الاقتصادية والمالية التي اعطيت لرجال اعمال قريبين من رموز السلطة... عهود ثلاثة مرت على مصر بعد ثورة 1952 لكنها بقيت اسيرة شعارات تلك الثورة.
ما يحصل في مصر اليوم يجب ان يؤدي الى مشاركة حقيقية للشعب في السلطة والثروة. يجب ان يترجم ما بدأه الشباب الذين اطلقوا شرارة التحرك ولا يترجم اجندات من ركبوا الموجة ورفعوا صورا وشعارات معروفة. ما يحصل يجب ان يكون «ثورة على الثورة»... والا فسيترحم المصريون على ما كانوا عليه.
جاسم بودي
الاستجابة كانت مدهشة. متحضرة. مختلفة... عشرات الآلاف في الشوارع مع الإصلاح السياسي والتغيير الديموقراطي ووقف الفساد ومحاسبة المسؤولين عنه. أما ردود الفعل من السلطة فلم تكن مختلفة على الاطلاق. قمع ومواجهة واطلاق رصاص حي ومطاطي. الصورة نفسها لكن النتيجة غير.
عشرات الآلاف صاروا مئات الآلاف ثم ملايين. اختفى رجال الشرطة من الشارع وملأ البلطجية بعض الفراغات قبل أن ينتشر الجيش ويبدأ عملية استعادة الأمن والاستقرار. السلطة اعلنت إصلاحات لم تكن لتعلن بعضها لولا الضغط الشعبي. المعارضة حددت سقف مطالبها وأرادت المزيد... دخل من دخل على الخط المصري وبقي الجيش حاميا للناس وللنظام في انتظار ولادة جديدة.
مشهد مهيب. رائع. تاريخي. مشهد لم يحصل سابقا في مصر حيث كانت السلطة لملك ثم لثورة 23 يوليو عام 1952 التي قام بها عسكريون. هذه المرة المواطنون هم الذين تحدوا كل المحاذير وخرجوا الى الشارع. هي ثورة وان كان البعض يريد تحويلها إلى فوضى. هي دنيا جديدة تخرج من أم الدنيا... ومع ذلك فليتسع صدر الأخوة المصريين لبعض الهواجس والمخاوف.
ما حصل في مصر نريده ثورة، إنما ضد كل اشكال القمع المعلن والمستتر. ضد حصر السلطة والثروة في يد واحدة أو أياد معدودة. ضد الفساد وضد الافساد للحياة العامة بكل صورها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والادارية والقضائية والاعلامية. ضد الحزبية الضيقة والفئوية الاضيق. ضد الشعارات العاطفية التي تؤدي إلى الغوغاء لا الى السياسات العقلانية. نريدها ثورة لمزيد من الحريات والديموقراطية، ليس بمعنى أن تكتب الصحف ما تشاء وأن يفعل النظام ما يشاء، بل بمعنى الممارسة المسؤولة التي تنتج طبقة كبيرة تتقن مفردات الديموقراطية وتترجمها على صعد التمثيل الشعبي والرقابة والمحاسبة وتداول السلطة، إضافة الى توظيف الثروات العامة والمداخيل في تطوير ميادين التربية والصحة والاسكان والعمل والانتاج والمواصلات والاتصالات وكل ما له علاقة بحاجات المواطن المصري مباشرة وطموحاته وآماله.
نريدها ثورة لا تصنع تماثيل لزعماء وقادة «تاريخيين» بل تحترم نضالات وتضحيات الثائرين. ثورة لا يختزل من يتلو فيها البيان الرقم واحد مصر بشخصه وسلوكياته فاذا أخطأ نقول إن الشعب لم يرتق الى مستوى الوعي أو أن البطانة هي التي تخطئ وليس الزعيم. نريد ثورة تؤسس لمجتمع مدني يعيد القوات المسلحة الى ثكناتها ومهماتها ويعيد السياسيين المحنكين والاقتصاديين البارعين الى دوائر صنع القرار... ومصر من اكثر الدول التي تمتلك هذه النوعيات من القياديين.
نريدها ثورة لا تعيد رفع صور كالتي رأيناها مع المتظاهرين، ولا ترفع شعارات غوغائية عفى عليها الزمن، فلا صوت يعلو فوق صوت التنمية لا المعركة، ولا مشهد أجمل من مشهد الحياة لان المصريين يريدون ثقافة الحياة لا ثقافة الموت. نريدها ثورة تخلع عن مصر زيها الكاكي واتحاداتها الاشتراكية وهيئات قوى الشعب العامل وطوابير العاطلين عن العمل وحاملي ورقة «التوصية» من مدير الاستخبارات الفلاني للتوظيف. نريدها ثورة لا تعلن حربا على القطاع الخاص لان مجموعة من اليساريين والاشتراكيين والشيوعيين يعجزون عن ايجاد اجابات اقتصادية خارج حدود تفكيرهم، ونريدها ثورة لا تعلن حربا على المجتمع بحجة اسلمته لان مجموعة من المتأسلمين السياسيين يعجزون عن ايجاد اجابات اجتماعية خارج حدود تفكيرهم.
عهد جمال عبد الناصر سيطر على السلطة والثروة من خلال التأميم والقمع وبرر ذلك بالحروب التي كانت مصر تخوضها من اسرائيل الى... اليمن. اعتمد على أهل الثقة لا اهل الخبرة بالحجة نفسها. وعهد انور السادات سيطر على السلطة والثروة من خلال القبضة الحديد في الداخل والانفتاح الذي قادته «مجموعة القطط السمان» القريبة منه بحجة الجنوح الى السلم بعد حرب اكتوبر والتحول التدريجي من الانغلاق الى الانفتاح. والعهد الحالي، وعلى رغم كل المظاهر الانفتاحية الديموقراطية التي قام بها ورغم كل النقلات الاقتصادية التي حصلت في مصر، الا انه احتفظ ايضا بالسلطة والثروة عن طريق القاعدة العسكرية والامنية التي شكلت مرجعية النظام، وعن طريق التحديات الانتقالية والامنية التي خاضها النظام، وعن طريق التسهيلات الاقتصادية والمالية التي اعطيت لرجال اعمال قريبين من رموز السلطة... عهود ثلاثة مرت على مصر بعد ثورة 1952 لكنها بقيت اسيرة شعارات تلك الثورة.
ما يحصل في مصر اليوم يجب ان يؤدي الى مشاركة حقيقية للشعب في السلطة والثروة. يجب ان يترجم ما بدأه الشباب الذين اطلقوا شرارة التحرك ولا يترجم اجندات من ركبوا الموجة ورفعوا صورا وشعارات معروفة. ما يحصل يجب ان يكون «ثورة على الثورة»... والا فسيترحم المصريون على ما كانوا عليه.
جاسم بودي