في هذا الزمن الذي كثرت فيه صور الانتقام، وقل فيه العفو، وأصبح المرء يبحث فيه عن أهل المروءات فقل أن يجد، والوفاء أصبح عملة نادرة بين الناس، في هذا الزمن الذي أصبح الصديق يخون صديقه، والقريب يطعن قريبه في ظهره، أهدي للقراء هذه الحادثة:
أتى شابّان إلى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان في المجلس وهما يقودان رجلاً من البادية فأوقفوه أمامه، فقال عمر: من هذا؟ قالوا: يا أمير المؤمنين، هذا الرجل قتل أبانا.
قال: أقتلت أباهم؟
قال: نعم قتلته.
قال: ولم؟
قال: دخل جملي في أرضه، فرماه بحجر فقتله، فحملت الحجر فرميته به فوقع على رأسه فمات.
فقال عمر: القصاص...
قال الرجل: يا أمير المؤمنين أسألك بالذي قامت به السماوات والأرض أن تتركني لأذهب إلى زوجتي وأطفالي في البادية، فأُخبِرُهم بأني مقتول ثم أعود إليك، ووالله ليس لهم عائل إلا الله ثم أنا.
قال عمر: من يكفلك؟
فسكت الناس جميعاً لأنهم لا يعرفون اسم الرجل، ولا داره ولا قبيلته فكيف يكفلونه. قال عمر: من يكفل هذا أيها الناس؟ فقام أبو ذر الغفاريّ وقال: أنا أكفله يا أمير المؤمنين. فأعطى عمر بن الخطاب الرجل ثلاث ليال على أن يعود قبل انتهائها، وأبو ذر يرجو أن يفي الرجل بوعده، فذهب الرجل فلما دخل وقت العصر من اليوم الثالث طلب عمر بن الخطاب أن ينادى في الناس وأن يؤتى بأبي ذر فقال أبو ذر اليوم ينتهي بغروب الشمس يا أمير المؤمنين، وقبل الغروب وإذ بالرجل يعود ليقف بين يدي عمر بن الخطاب، فقال عمر ما الذي جاء بك ولو لم تعد لما دل عليك أحد؟ فقال: خشيت أن يقال ذهب الوفاء بين الناس، فقال عمر لأبي ذر وما حملك أن تكفله وأنت لا تعرفه فقال: خشيت أن يقال ذهبت المروءة بين الناس، فلما رأى الشابان ذلك رق قلبهما وذرفت الدموع من عينيهما وقالا قد عفونا عنه يا أمير المؤمنين، قال: وما حملكما على ذلك؟ قالا: حتى لا يقال ذهب العفو من الناس.
وقفة: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله.
عبدالعزيز صباح الفضلي
كاتب كويتي
Alfadli-a@hotmail.com