حين ينكشف... دعاة!

تصغير
تكبير
العلماء الأجلاء اصحاب الثقافة الدينية والفقهية المتعمقة هم الأكثر توازنا واعتدالا وحبا للحياة وتماشيا مع روح العصر، لانهم فهموا بدقة جوهر الدين المبني على عمارة الأرض بالعدل والانتاج والقيم والمثل والأخلاق، وعمارة الأرض تستوجب ان يحيط الانسان بمختلف العلوم الحديثة وان «يجاهد» لتحصيلها وترجمتها بما يخدم أمته ومجتمعه انطلاقا من ان العلم عبادة والعمل عبادة.

وللاسف الشديد، فإن هؤلاء العلماء صاروا قلة داخل «الطوفان العلمائي» وخفتت اصواتهم في مقابل الصوت العالي لآخرين. كثرت العمائم وقل العلماء. تعددت القضايا المزيفة التي ترتدي لبوس الدين وضعفت القضايا الحقيقية التي تجيب عن اسئلة الدين والحياة، واختلطت المآرب السياسية بالثقافة الدينية فتم تطويع الثانية لخدمة الاولى... ومن يجرؤ في النهاية على الابتعاد والتمرد ما دام دماغه مغسولا بكل مساحيق الخوف.

غير رب العزة ورسله الكرام، فان العالم الحقيقي هو الذي يرفض اسباغ اي قدسية على اي شخص او رمز من الرموز مهما علت مكانته، لكننا اليوم نواجه ما هو اخطر من ذلك. نواجه كلاما عن «قدسية وكرامات» لهذا «الشيخ» او ذاك «المجاهد»، ونواجه محاذير الكلام عن هؤلاء ولو في إطار النقاش السياسي لطروحاتهم، والسبب ان ماكينة غسل الادمغة نجحت في الدمج بين الشخص والدين وبين حصانته كبشر وحصانة الحديث عما يطرحه من فقه.

علماء وعمائم من الصين شرقا حتى اميركا الجنوبية غربا. بعضهم نفتخر بهم ويفتخر الدين بهم رغم اختلاف مذاهبهم لانهم سفراء حقيقيون لرسالتهم، وبعضهم الآخر كرس نفسه للافتاء في ما هو مخالف لمنطق العصر او للدعوة الى «الجهاد» في غير مواضعه ومن دون موافقة ولي الامر. فتارة يكون الجهاد ضد الغربي وطورا ضد شقيقه في الدين ومرة ثالثة ضد السلطات التي تحمي أمنه. دعوات وخطب ومحاضرات وفتاوى عبر الانترنت ورسائل نصية وصوتية. تشجيع وتحريض ومساعدة يتبعها تأبين وتعزية و«بشرى» بأن «العريس» يعيش الآن في الجنة الحقيقية حتى لو كانت وفاته خطأ بتفجير قام به «زميله المجاهد» في المكان الخطأ. لكن اللافت في هؤلاء الدعاة انهم يرفضون ان يتأثر اولادهم بهذه المحاضرات ويحجبون عن اهل بيتهم مساحيق غسيل الادمغة... بل ويبلغون السلطات احيانا اذا لاحظوا ان ابناءهم يريدون مغادرة البلاد للالتحاق بركب «الجهاد» او يطلبون من اجهزة الأمن مراقبة اقرباء لهم يعقدون حلقات «تربية جهادية» في مخيم او منزل او كهف.

دعاة آخرون ألبسوا مشروعهم السياسي لبوسا دينيا وشرعيا وفقهيا وكرسوا انفسهم لاختلاق قضايا تحمل من المغالاة في الحديث عن الانقسامات بين المسلمين الشيء الكثير. والغريب في الامر ان هؤلاء كانوا يهاجمون بعض خصائص ومبادئ المذهب الذي ينتمون اليه ويمتدحون خصائص ومبادئ مذهب آخر مع ما يمثله رموز ذلك المذهب من حالة سياسية في المنطقة سواء على مستوى الدول او الاحزاب. بعضهم رأى في هؤلاء التجسيد الفعلي لمبدأ «خالف تعرف»، وبعضهم قال ان ذلك ضروري للتقريب بين المذاهب، وآخرون اعتبروا ان هؤلاء الدعاة انما يسيرون في ركب محور سياسي معروف في المنطقة... لكن المفاجأة بالنسبة لكل الذين أطلقوا الاحتمالات كانت في استدارة بعض هؤلاء الدعاة 380 درجة في اتجاه مهاجمة المذهب الذي طالما غالوا في مدحه، مستخدمين اسلحة محرمة دينيا من مثل التأليف والادعاء وتزوير مبادئ المذهب بطريقة اقل ما يقال فيها انها مثيرة للفتن وكان يمكن ان تؤدي الى تحارب وتقاتل... واذا عرف السبب بطل العجب، فهؤلاء اكتشفوا ان اولادهم تأثروا بالمذهب الذي طالما تحدثوا عنه بمبالغة مفرطة خدمة لمشروع سياسي فأرادوا ان «يلحقوا» ويعيدوهم الى ما كانوا عليه.

من كل المذاهب والطوائف تجد دعاة يتحدثون في العام وعينهم على الخاص. هذا يفتعل معركة فقهية وهدفه اموال الزكاة او الخُمس، وذاك يتحدث عن «مركز القرار» وهدفه السيطرة على القرار سياسيا وماديا... والناس المحبة للدين ولأحكامه لا تملك الا المبايعة اما عن اقتناع واما عن احباط بعد فشل مشاريع «مدنية» في تغيير الاحوال.

حين ينكشف دعاة لا بد من توثيق ذلك الانكشاف والتوقف عنده كونه يحد قليلا من مسلسل التحريض والتجييش وغسل الادمغة، اضافة الى انه يعيد وصل ما انقطع بين الدعاة الحقيقيين المعتدلين وبين المتلقين... وهو الوصل الذي قطعته الاجساد والسيارات والطائرات المفخخة.



جاسم بودي
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي