إلى قواعد الأحزاب اللبنانية: تمردوا على الحرب

تصغير
تكبير

تتكرر المآسي في لبنان. تتكرر صور التفجيرات والحرائق وقطع الطرق والاحتجاجات. تتكرر مواكب الموت ومسيرات النعوش وحشود الجنائز. تتكرر صيحات الغضب من هنا وهناك مهددة منددة منذرة... وكل ذلك التكرار في غياب آفاق الحلول السياسية يعبد طريقا واحدا: الحرب.
لم يعد الشأن اللبناني شأنا لبنانيا خالصا منذ زمن طويل، فالخبر اللبناني هو خبر محلي سواء هنا في الكويت او في الدول العربية الاخرى، نتيجة جملة امور اهمها خصوصية لبنان وحيويته وطبيعته وانفتاحه وتعدديته وخدماته، وكلها عوامل جاذبة للعلاقات الاجتماعية والسياسية والتجارية والاقتصادية، فمن منا لم يمر من «المعبر اللبناني» في مجالات مختلفة بدءا من التعليم وانتهاء بالسياحة مرورا بالتملك والاستثمار والطبابة وغيرها. ومن منا لا يضع يده على قلبه خوفا من انهيار هذا النموذج العربي «الجميل» الذي كتب عليه ان يدفع ثمن «بشاعة» الآخرين.
الغيوم تتجمع لتمطر حربا في ساحة مكشوفة على التدخلات الدولية والعربية. كلهم يريدون تصفية حساباتهم في ساحة لبنان، وكلهم يريدون تسوية حساباتهم في ساحة لبنان، وكلهم يريدون اعادة حساباتهم في ساحة لبنان، وكلهم يريدون لخبطة حسابات الآخرين في ساحة لبنان... واللبنانيون الذين يرفعون الصوت عاليا مهددين متوعدين سيستيقظون يوما – كما حصل في الامس القريب – ليكتشفوا انهم دمروا بلدهم واغتالوا انفسهم فيما غيرهم حصد الثمن.
كل القضايا التي يرفعها اللبنانيون من مختلف الاتجاهات محقة واساسية وضرورية، لكنها لا تستحق الوصول الى حافة الهاوية والتهديد بالحرب الاهلية وتمهيد الطريق لتلك الحرب بمواجهات وشهداء وجنازات. هي قضايا ومطالب موجودة في كل الدول بل موجود اكثر منها في بعض الدول، لكن الامن والاستقرار والسلم الاهلي خطوط حمر تتراجع عند اهتزازها كل المطالب الاخرى مهما بلغت اهميتها.
ثم ما الحرب؟
هل يعلم الجيل الجديد من اللبنانيين ما هي الحرب؟
كنا شهودا في لبنان على بدايات الحرب عام 1975، وكانت الاحتجاجات اعلى من التي تحصل اليوم وكذلك التظاهرات فالمواجهات. كان يسقط شهداء في الشوارع (كما يحصل اليوم) وكانت الدعوات تنطلق فورا لمعرفة من اطلق النار مصحوبة بخلاف سياسي على مستوى الطبقة الحاكمة وتوظيف حزبي وداخلي للازمات من اجل الانطلاق مما حصل الى مرحلة تصعيدية اكبر شعاراتها اكثر حماسة وعنفا.
لسنا هنا في مجال التأريخ والبحث لكننا نتذكر فقط كيف استقطبت الاحزاب مزيدا من الجماهير والمناصرين آنذاك، وانقسمت الساحات وتداخلت الشعارات وانفتحت الابواب للدول القريبة والبعيدة، ففصيل يتهم الآخرين بالعمالة للفلسطينيين ولاحقا للسوريين وفصيل يتهم الآخرين بالعمالة لاسرائيل واميركا، وغابت نهائيا القضايا المطلبية المعيشية التي ملأت الشوارع وحل التخوين والتشهير وشعارات المشاركة السياسية... وكان يكفي للانفجار الكبير حادثة واحدة أشعلت لبنان 17 عاما.
انخرط اللبنانيون في الحرب من مختلف الاتجاهات. بدأت على قاعدة الشعارات التي رفعت عام 1975 ثم قادت الحرب اللبنانيين الى مسارات مختلفة لانها لا تسمح سوى لشعار الموت بالسيادة.
كانت الاحزاب تقاتل ضد «سلطة طائفية» ودفاعا عن القضية الفلسطينية فأصبحت الاحزاب طائفية تقاتل بعضها وتقاتل الفلسطينيين.
كان «الشهداء» يسقطون في مواجهة اعداء «وحدة وعروبة وسيادة لبنان» فصاروا يسقطون بخلاف على اولوية المرور بين فصيلين حزبيين من الفصائل الكثيرة التي نبتت على هامش الحرب، والفاجعة ان هذين الفصيلين مثلا انقرضا قيادة وقاعدة واهدافا بعد سنوات ولم يعد ذوو الضحايا يعرفون اين «استشهد» اولادهم وفي مواجهة من ومن أجل ماذا.
 كان الشاب في اواخر سبعينات القرن الماضي اذا «استشهد» في صراعات الاحزاب بين بعضها مصدرا تمويليا لحزبه حيث توضع صورته على الجدران مع اسم حزبه وترسل بياناته الى هذا الفصيل الفلسطيني ليدفع او لتلك الدولة العربية لتدعم، وكم كانت المأساة كبيرة حين تجد صورة «الشهيد» على بوسترات حزبين معا، كل واحد منهما يدعي انه سقط من صفوفه من اجل «قضيته الكبيرة».
هل يعلم الجيل الجديد من اللبنانيين ما هي الحرب؟ ليراقب فقط كيف بدأت، بين يسار ويمين وخط عروبي وخط لا عروبي وانصار القضية الفلسطينية واعدائها، ثم صارت بين «غربية» و«شرقية» فبين مسيحيين ومسلمين ثم بين مسلمين ومسلمين ومسيحيين ومسيحيين ثم بين فصائل سنية – سنية واخرى شيعية – شيعية وبين احزاب ومناطق مسيحية ضد احزاب ومناطق مسيحية. بل كانت الحرب تحصل داخل الحزب الواحد احيانا وتصل الانشقاقات فيه الى مستوى المجزرة، دون ان ننسى انها دارت ايضا بين مسيحيين وفلسطينيين ثم بين سوريين ومسلمين وفلسطينيين ثم بين مسيحيين وسوريين ثم بين فلسطينيين ومسلمين... وكانت اسرائيل مستفيدة من كل ذلك، فنفذت مخططاتها في لبنان اجتياحا وتقسيما الى ان اذاقها المقاومون البواسل الشرفاء كأس الهزيمة رافعين رأس كل لبناني وكل عربي.
هل يعلم الجيل الجديد من اللبنانيين ما هي الحرب؟ هي ان تتهجر من مكان الى مكان. ان ترغب في الموت احيانا بدل مهانة افتراش الارض في مدرسة وذل الحاجة الى الملابس والطعام ومد اليد من اجل حليب للاطفال او حصة تموينية. ان ترسل ابنك مضطرا لهذه الجهة السياسية - العسكرية او تلك من اجل الحماية والمخصصات المالية فيضطر الى مواجهة شقيقه او قريبه او جار طفولته. ان تقف في طوابير الهجرة امام السفارات املا في تأشيرة تخولك السفر فتحشر كالاغنام في سفينة شحن الى بلاد اخرى ترضى بك عاملا في محطة وقود او تصرف لك مبلغا من المال نظير لجوئك الانساني. 
هل يعلم الجيل الجديد من اللبنانيين ما هي الحرب؟ هي ان تنقل طفلك المصاب بشظية او رصاصة الى مستشفى فيموت بين يديك لان الطبيب لم يستطع الوصول بسبب الطرقات المغلقة او لان المستشفى بلا كهرباء او اوكسيجين. هي ان تحمل والدك المسن على ظهرك متنقلا بين الانقاض والسدود والحواجز وبين مسلحين منزعجين من ألمه يستعجلون رحيلك كي يكملوا مهمتهم «النضالية». هي ان تنهار والدتك وتفقد الحياة او طعمها عندما ترى فلذة كبدها مقطع الاوصال في حضنها لانه ارتكب جريمة المغامرة لشراء ربطة خبز فسقطت قربه قذيفة هاون. هي ان ترى شقيقك المتحمس بشعارات قياداته الملتهبة يعود الى غرفته «شهيدا» او مصابا معاقا... او «منتصرا» لانه استطاع تحويل شريكه في الوطن الى «شهيد».
 هذا كله غيض من فيض ما حصل، فللحروب داخل الدول ثمن واحد فقط : الانتصار للموت... من يقتل شريكا في الوطن يقتل نفسه، ومن يقتل وطنه يقتل اولاده.
نعم، هي دعوة من كويتي عاش في لبنان وعاش لبنان فيه، الى قواعد الاحزاب والتيارات اللبنانية تحديدا وبمختلف انتماءاتها: مارسوا كل اشكال التعبير الحضارية والسلمية احتجاجا او دعما، انما تمردوا على الحرب الاهلية مهما كانت الشعارات المؤدية اليها فلبنان يستحق الحياة لا الموت، وانتم تستحقون مستقبلا زاهرا في المعاهد والجامعات والاعمال علامته شهادة تفوق... لا مستقبلا ينتهي بصور الغياب على الجدران او يتوارى في المقابر وعلامته شاهد الضريح.


جاسم بودي

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي