... عشرون

تصغير
تكبير
يقول اهل المشرق عن شهر اغسطس «آب اللهاب» لارتباط ايامه بالحرارة الشديدة. نحن في الكويت والخليج كان اغسطس بالنسبة الينا شهرا ملتهبا مناخيا وسياسيا ومن الصعوبة بمكان نسيان حرارته ولو تناسيناها.

عشرون عاما مرت على الغزو العراقي للكويت. على تلك المغامرة التي انهت مفهوم الامن القومي العربي وكشفت دولنا على الآخرين وجعلتنا جزءا من لعبة الامم. عشرون عاما لم نتعلم منها الكثير. تعلم غيرنا فينا وصارت دولنا جزءا من حقول اختبار، فالامن لا يحتمل الفراغ والفراغ ملأته قوى متعددة مختلفة منها الاجنبي ومنها الطائفي ومنها «القاعدي» ومنها الميليشيوي ومنها الاستخباري القريب والبعيد.

وبعيدا من الامن وارهاقه ومن المخاوف العسكرية (على مشروعيتها) يبدو ان الكثيرين في المنطقة لم يتعلموا الكثير مما حصل قبل عشرين عاما والدليل ان اللغة نفسها ما زلنا نسمعها سواء تجاه بعضنا بعضا او تجاه الاجنبي.

ما يهمنا اولا واخيرا هو الكويت، ولأن الكويت همنا يجب ان نبني مستقبلا مختلفا مع عراق ديموقراطي تعددي مسالم يحترم جيرانه ولا يتدخل في شؤونهم الداخلية. عراق يلتزم الاتفاقات التي يبرمها ولا يعتبر في كل مناسبة انها اتفاقات انتزعت بالقوة او بالامر الواقع لان هذه الحجج تتبعها سجالات وشواهد لا تنتهي، ويكفي ان يقال ان ما من أمر واقع مهما كانت تداعياته قاسية يمكن ان يقارن بغزو دولة وتشريد اهلها وتدمير مقدراتها.

نعلم ان العراقيين دفعوا الثمن مثل الكويتيين حين جرَّت سياسات نظام الرئيس السابق صدام حسين الويلات عليهم وعلينا، ولذلك لا نريد لهم ولنا اجترار الماضي الاليم بكل مفرداته وشعاراته والممارسات التي شابته. مصلحة الكويتيين والعراقيين تكمن في طي صفحة الماضي من خلال تنفيذ ما اتفق عليه ثنائيا او في اطار الامم المتحدة، لان اي سلوك آخر تكلفته اعلى وسيساهم في فتح صفحات جديدة حزينة لن تكون في مصلحة الطرفين على السواء.

عشرون عاما عبرنا خلالها اشواطا جبارة على طريق تجاوز ما حصل، خصوصا ان من وصل الى السلطة في العراق كانوا في خندق واحد مع الكويت. نحن جاهدنا بالغالي والنفيس لاستعادة بلدنا وسيادتنا وارضنا، وهم جاهدوا بالغالي والنفيس لاستعادة بلد عريق أكل نظامه ابناءه قبل ان يزج بما تبقى منهم في حروب مع جيرانه... وابناء المعاناة الواحدة يمكنهم بناء مستقبل مختلف قائم على التعاون لا التنافر، وعلى الاحترام لا الاحتراب، وعلى المحبة لا التباغض.

عشرون عاما، ومع ذلك نسمع بين الحين والآخر من يتحدث اللغة نفسها. عندنا وعندهم. وكأننا لم نتعلم شيئا مما جرى، او كأننا نقول لدول العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة اننا دول لا تستطيع التجاور والتعاون والاتفاق الا بوجود «محرم» اجنبي قوي قادر على تمرير مصالحه مقابل بيعنا الأمن.

من طرفنا، يتعامل بعضنا في شأن اقليمي حساس مثل موضوع العراق وكأنه يخوض معركة محلية شعبية انتخابية، ناسيا ان لكل مقام مقالا، وان دغدغة الشارع بالحديث عن اسقاط القروض تختلف عن الحديث عن دولة مجاورة بينها وبيننا تاريخ من الألم وامامنا وامامها مستقبل من التعاون... شاء من شاء وأبى من أبى.

ومن طرفهم، عدنا نسمع مفردات «بعثية» خلنا ان قادة العهد الجديد سيرفضونها قبل غيرهم، سواء تعلق الامر بالاتفاقات او الحدود... او حتى بالزعم ان الكويتيين يجوِّعون العراقيين. نعلم ان من يطلق هذه التصريحات قلة لكننا نعلم ايضا ان اطلاق التصريح المؤذي يشبه احيانا اطلاق النار على جهود التعاون والنيات المخلصة.

عشرون عاما لن تزيدنا يومياتها الا اصرارا على طي الصفحة المؤلمة وفتح صفحة جديدة. ولا نبالغ في القول ان شكل السلطة السياسية في العراق الذي سيتبلور بعد مخاض طويل افرزته العملية الانتخابية سيساهم الى حد كبير في اعادة العلاقات الكويتية - العراقية الى اطرها الدستورية وقنواتها الشرعية بين البلدين بدل ترك كرة «الوحل» تكبر في الاتجاهين.

هذا هو المسار. هذه هي البوصلة. هذا هو المراد... اما عكس ذلك فلن يحمل الا المزيد من الاجواء الساخنة والمزيد من اللهيب والمزيد من تشابه الاشهر كلها مع اغسطس.



جاسم بودي
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي