بحكم التجارة البرية والبحرية التي اعتمد عليها أهل الكويت طيلة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وما تبع ذلك من ازدهار كبير للبلاد أدى إلى هجرة آلاف البشر من المناطق المجاورة (بلاد فارس، بلاد الرافدين، الجزيرة العربية) إلى هذه الأرض الطيبة بهدف الاستيطان، حتى توافرت مقومات بناء كيان سياسي جديد وملامح تشكيل نواة الدولة المدنية الحديثة مطلع القرن الماضي، وتحديداً عام 1920م ومع الانتصار في معركة الجهراء وصد العدوان الخارجي وبناء السور الثالث، حين تحوّل فيها الولاء عند الناس من القبيلة، والعائلة، والعرق، والأصل، والدم، إلى الولاء للنظام، والدولة ذات السيادة على شعبها وأرضها وثرواتها، مما جعل المشرع الكويتي يعتمد عليها أصلاً في تمييز المواطن من غيره في قانون الجنسية عام 1959م.
تلك المكونات الرئيسية الثلاثة التي شكلت الغالبية العظمي من الشعب الكويتي هي اليوم تمثل المعادلة المتوازنة الأهم في ثقافة قبول الآخر مهما كان مذهبه سنياً أو شيعياً، ومهما كانت ثقافته من البادية أو الحاضرة، ومهما كان أصله من إيران أم العراق أم السعودية، فجميعهم انصهروا في مفهوم المواطنة أساساً للتعايش في ما بينهم دون أي تمييز بينهم، اللهم إلا العطاء والتضحية والفداء من أجل ضمان استقرار وحفظ أمن الكويت وأهلها.
ومع التسلسل التاريخي الذي أتى بمحطات عدة جديرة بالوقوف عندها والتدبر في انعكاساتها السلبية على تلك المعادلة السابقة، أهمها التبدل الديموغرافي الذي جاء به التجنيس السياسي في الستينات والسبعينات وحتى الثمانينات من القرن الماضي، والذي رجّح مكوّن محدّد على المكونين الآخرين من ناحية العدد، مما خلق خللا في المعادلة لم تظهر بوضوح إلى السطح كون المجتمع الكويتي يعيش حياة دستورية ضامنة لمبدأ العدل والمساواة وتكافؤ الفرص وغيرها من المفاهيم القيمية التي تأسس بضمان الضوابط القانونية التي ارتضاها الجميع، والتي وُضعت لتحكم العلاقة بين جميع المواطنين لا فرق بين منتم لمكون، أو منتم لمكون آخر.
هذا التجنيس السياسي الذي أراد من قام به أن يغيّر خارطة الانتخابات النيابية لصالح جناح الموالاة في مجلس الأمة، خاصة بعد أن نجحت التيارات التقدمية، من ليبراليين وناصريين وقوميين وطلائعيين وغيرهم، بقيادة دفة السلطة التشريعية باقتدار في مواجهة الحكومة منذ تشكيل المجلس الأول وحتى انتخابات 1967 التي اتهمت بالمزوّرة. فكان الجيل الأول من تلك الشريحة الجديدة موالياً للنظام، وحتى الجيل الثاني من الشريحة نفسها تواصلت معه الحكومات المتعاقبة بحذر شديد، وسعت إلى الاستفادة السياسية والاجتماعية ممن يمكن الاستفادة منهم. أما الجيل الثالث والحالي من تلك الشريحة، فكلنا يرى بأم عينه كيف انتقل إلى صفوف المعارضة، وبدأ يقودها متصدياً للحكومات المتعاقبة منذ خمسة أعوام تقريباً، ومتحدثاً بلغة لم يعتد عليها أهل الكويت حيث يراد للمكون الذي ينتسبون إليه أن يكون هو الأصل على حساب بقية المكونات الأخرى.
ومع استشراء فقه الكراهية الذي تولّد صدفة، ودون سابق إنذار، من خلال تبنّي بعض المنتمين لهذا المكون الذي طغى عدداً ليزداد تعصباً، وليبدأ بممارسة الفجور في الخصومة والتشهير والتنابز مع من لا ينتمي لأصله من أهل الكويت، إلى درجة بدأنا اخيراً نشم رائحة الإقصاء والإلغاء النتنة تخرج من ثنايا هذا الفقه الخطير. فـ «هذا من الشرق وعليه أن يسفّر إلى بلده الأصلي»، و«ذاك أتى سباحة من إيران»، وآخر «أتى من الشمال»، و«آخر أصله من العراق»، و«نحن أكثرية لنا السيادة وهم أقلية وجب عليهم الطاعة»! وغير ذلك من العبارات التي يعف اللسان عن ذكرها، وتخالف صراحة مبدأ المواطنة التي ساوت بين أهل الكويت. بمعنى آخر، كأنه سُبّة يُقذَف بها كل أهل الكويت من المكونين الآخرين لكونهم ذوات أصول إيرانية وعراقية! وأكثر من ذلك حين تأتي الدعوات علانية وبجرأة غير معهودة بمس السيادة ومحو الكويت من الخارطة وضمها للأصول التي جاء منها المكون الثالث، بتبرير أن دول الخليج متجانسة في ثقافاتها وعاداتها وتقاليدها!
لذا، وأمام تلك الحقيقة المُرّة أجد من المهم أن تعي الدولة خطورة استمرار ترك البلاد والعباد تحت رحمة هذا الطرح الخطير لتلك الحفنة المتعصبة، لأنه أشنع ما يمكن أن نتحدث عنه اليوم حين يتصدى البعض لهدم أواصر المجتمع ومبدأ العيش المشترك بين مكونات المجتمع الكويتي مستغلاً زيادة عدد مكوّن من مكونات المجتمع الكويتي على مكوّن آخر، في وقت ارتضى الجميع منذ عام 1962 أن يعيش تحت ظل قانون يساوي بين الحقوق والواجبات. /يتبع
د. سامي ناصر خليفة
أكاديمي كويتي
qalam_2009@yahoo.com