أثناء الأداء النيابي في الأشهر السابقة، لفتت الأنظار طبيعة معالجة بعض نواب التأزيم السياسي من المتشددين لبعض الاختلافات السياسية والاجتماعية والعقدية بروح الإلغاء والإقصاء، وبصورة فجة لا تنتمي إلى الذوق العام بأي صلة، مستغلين منطق الأقلية والأغلبية لفرض اعتقادات معينة على شرائح المجتمع كافة بصورة مستنكرة وغير مقبولة، وتخالف الهدف من سيادة المناخ الديموقراطي الذي بُنِيَ عليه نظام الحكم في الكويت حيث حماية الأقليات من جور واستكبار وطغيان الأكثريات. وتلك هي الحكمة الحقيقية والهدف الأسمى من التزام الدول المتقدمة بالمنهج الديموقراطي في الحكم سبيلاً لضمان توفير العيش الآمن والمستقر والمطمئن لشعوبها.
ولكن عند هذا البعض من النواب في الكويت، فإن الوضع مختلف تماماً، حيث إذا فقد هذا البعض الأغلبية في بعض المواقع السياسية المتعلقة في التصويت بمجلس الأمة تمرّد وتجبّر، وأعلن سعيه لتخريب الحياة الديموقراطية عبر النزول إلى الشارع من خلال الاعتصامات والاضرابات واتباع أساليب تصعيدية لا تدل على أنه قبل بالنتائج، ليصل به الأمر إلى عرقلة أداء الحكومة من جانب، وتعطيل أعمال مجلس الأمة سعياً وراء حله غير عابئ بالنتائج وتداعياتها. فقط لأنه لم يملك الأغلبية في التصويت حين طرح مشاريعه أو حين تفعيل أدواته الرقابية.
بمعنى آخر لا تجد هذا البعض من نواب التأزيم السياسي يؤمن بمنطق الأغلبية والأقلية إذا كان هو الطرف المتضرر في الأمر، في وقت نجده يتغنى بضرورة رضوخ الأقلية لطغيان الأغلبية في حال كان الأمر لصالحهم، ولا أدل على ذلك من طريقة معالجة هذا البعض التأزيمي لما أثير اخيراً من أسئلة «استفزازية» لبعض الطلبة، والتي جاءت في الامتحانات النهائية للصف التاسع، حين تحدثوا بلغة يشم منها رائحة الإقصاء والإلغاء للأقليات، ومذكرين الأقلية بضرورة احترام رأي الأغلبية مهما كان! وتلك مفردة غاية في الخطورة، وتخالف صراحة الثقافة الاجتماعية التي جبل عليها أهل الكويت منذ القدم.
فالشعب الكويتي منذ تأسس قبل ثلاثمئة عام، وقد تجذرت ثقافة قبول الآخر والتعايش معه بتوافق مهما كان حجم الاختلاف وماهيته، ابتداء من الأسفار البرية والبحرية من وإلى الكويت في القرن الثامن عشر، ومروراً بالمهن التجارية التي تتطلب الاحتكاك بالثقافات الأخرى لدول الجوار الإقليمي في القرن التاسع عشر، وانتهاء باحتضان عشرات الجنسيات من الوافدين والتعايش معهم تحت مظلة وسقف المصلحة المشتركة ومبدأ الاعتماد المشترك في القرن العشرين. فلا يعقل لمن طرأ على البلاد في العقود الأخيرة، ولحق بركب المجتمع متأخراً أن يستسلم أهل الكويت لطريقته في هدم مبادئ فطرية استشرت في أهل الكويت لتصبح جزءاً مهماً من ثقافتهم الاجتماعية.
تلك الطريقة الجديدة لهذا البعض التأزيمي، التي لا تعي أهمية تعزيز مبدأ التوافق حين الاختلاف، وتفعيل المشتركات وإهمال المختلفات قدر الإمكان، والتعامل ضمن مبدأ الدستور الذي كفل حق الجميع بممارسة شعائرهم الدينية وضمان حقهم في التعبير عن معتقدات بحرية كاملة ودون مساس، أو تجريح، أو إجبار، هي من أسس اليوم لانطلاقة القرن الواحد والعشرين وجعلها بداية خطيرة تدق ناقوس الخطر، وتنذر بهدم كل تلك الثقافة الفطرية الأصيلة في المجتمع الكويتي.
إنها مسألة خطيرة لابد للدولة إدراك تداعياتها الكارثية على السلم الأهلي بين فئات المجتمع وشرائحه، ولابد لعقلاء المنهج الوسطي أن يعينوا الدولة على مواجهة هذا المد الإقصائي الإلغائي الخطير الذي ينضح به أداء بعض نواب التأزيم السياسي، والسعي لمواجهته بروح من المسؤولية الجماعية، خدمة لأجيالنا القادمة التي كتب القدر لها أن تعيش في بلد واحد وتحت ظل نظام سياسي واحد، وعلينا تحمل مسؤولية نقل الأمانة التاريخية في توفير مقومات العيش المشترك بينهم من الأجداد والآباء للأبناء وأبناء الأبناء. والله تعالى ثم حب الوطن وأهله من وراء القصد.
نعي فضل اللهنعزي الأمة الإسلامية بفقدانها عالماً مجاهداً هو السيد محمد حسين فضل الله، الذي نذر حياته في سبيل جمع كلمة المسلمين وتوحيد كلمتهم، فهجر الراحة إلى ميادين العلم والجهاد والفضيلة. فكان بحق نبراس هداية من خلال نظرياته الفلسفية وآرائه الفكرية ومنهجه التوحيدي. إنا لله وإنا إليه راجعون.
د. سامي ناصر خليفة
أكاديمي كويتي
qalam_2009@yahoo.com