| علي الرز |
ابشع ما في صورة القتل الجماعي للمصري المتهم بجريمة في بلدة كترمايا اللبنانية كان خارج الصورة. فكل قتل او اجرام او طعنة او ضربة او عنف او تمثيل بالجثة كان يحمل معه قتلا للقانون وهيبته، واجراما بحجم وطن، وطعنا لكل القيم الانسانية، وضربة لمفهوم العدالة، وعنفا في التعبير عن غياب النظام... وتمثيلا بجثة دولة لا يتذكرها اهلها الا اذا ارادوا راتبا اكبر او خدمات افضل.
ظهرت الهمجية والبربرية في اقذر صورها علنا امام وسائل الاعلام، وظهر القبح كله خارج الصورة. هل هذا هو المجتمع المدني اللبناني الذي يتباهى ابناؤه بانهم السباقون اليه في المنطقة؟ الجواب بالطبع في الصورة الاخرى... صورة اغتيال المجتمع والمدنية... صورة اجتياح «أهلي» للاسف الشديد للمساحات الحضارية التي تجاهد كي تبقى تحت الشمس.
شاب يعاني اضطرابات نفسية وانحرافات عقلية يقدم على جريمة بشعة. والجريمة جريمة سواء طالت كهلا ام رجلا ام طفلا لانها انعكاس لنزعات غير سوية في النفس البشرية. يحضر رجال الأمن المتهم الى مسرح الجريمة لتمثيل ما اقترفت يداه فتحضر شرائع الغاب كلها من خلال انتزاع المتهم من يد «السلطة» الرسمية وتسليمه الى سلطة الجماعات الغرائزية، وبدل تمثيل الجريمة يرتكب «الغاضبون» جريمة اخرى ويمثلون بجثة القتيل سائرين امامه في موكب انتحار القيم حتى بدا انه «من جماعتهم».
أخطر ما افرزته الحروب اللبنانية كان انهيار البشر وليس الحجر، فكل شيء قابل لإعادة الإعمار إلا الإنسان. صارت مرجعية الناس زعيم البلدة مرة وطائفتهم مرة اخرى والميليشيا مرة ثالثة والحزب رابعة حتى الغضب والانتقام والثأر تحولت مرجعيات. توزعت السلطات كتوزع قتلة المتهم المصري حتى يضيع دمه بين القبائل.
ضاعت هيبة السلطة بين تعدد مرجعيات... انسحب الانسان من الانسان وظهرت صورة الفضيحة في «كترمايا».
نجح قتلة المتهم المصري في تحميض صورة لبنانية اخرى قريبة من صور «المحاسبة» في قندهار وتورا بورا. من السحل في الصومال. من حرق رجال اعمال اجانب في بعقوبة على اعمدة الانارة... صورة ناصعة السواد لبلد لا يتعب من مشاهد الرعب ولا ينتشي الا بأعراس الدم.
واذا كانت صورة ما حدث في مجزرة بلدة كترمايا شديدة القبح، فإن الاقبح منها هو التأسيس لصورة اخرى من التوتر والكراهية عبر محاولات «تصدير الفورة» الى العلاقات المصرية اللبنانية. فالمصري الذي ارتكب جريمته ضد كهلين وطفلين لم يفعل ذلك لانه مصري بل لانه منحرف نفسيا وانسانيا، والهجوم عليه لم يكن هجوما «لبنانيا» بل هو هجوم بربري لا هوية له سوى الوحشية ولا عنوان له سوى خروج الجماعة على النظام، ولو كان القاتل او المتهم سويسريا (كما عبر القتلة) لفعلوا الشيء نفسه.
تظهير المشهد البربري على انه ازمة لبنانية مصرية صورة اخرى من صور الجريمة يجري تحميضها في مختبرات التخلف عبر النفخ في الكير وشحن النفوس. صورة اعلاميين عاجزين عن الخروج من حبر الفتنة وعناوين التأزيم ومقالات التعبئة. صورة راغبين في تعميم الانتقام واستحضار الثأر بدعاوى الانتصار للكرامة، متناسين ان كرامتنا جميعا كلبنانيين اهدرت في مسرح الانتقام، وان انسانيتنا جميعا اصيبت في مقتل عند قتل القاتل بهذه الطريقة، وان شرائعنا جميعا اهتزت غضبا لدى التمثيل الجماعي بالجثة.
بداية الصحوة ان تحاكم السلطات اللبنانية قتلة المتهم كي تستعيد جزءا من هيبة ضاعت، وان تحاسب أفراد الأمن الذين سمحوا للاهالي بانتزاعه وتطبيق «عدالتهم» الخاصة، اما ما عدا ذلك فعملية تحويل «مسرح الدم» الى مسلسل دم... مخرجوه معروفون وممثلوه كثر ومشاهدوه يتحولون شيئا فشيئا الى «أبطال».
alirooz@hotmail.com