شجاعة فهد

تصغير
تكبير
أختلف مع النائب السابق وأحد رموز التيار السلفي في الكويت فهد الخنة في الفكر والتوجهات، لكنني لا املك إلا ان احترمه على شجاعته التي عبر عنها قبل ايام في اطار مراجعته النقدية الراقية لعلاقة التيارات الاسلامية بالسلطة ممارسة ومعارضة.

قال الخنة ان التيارات الاسلامية الراهنة لا تعطي النموذج الذي يؤتمن على مستقبل الامة، وان الاسلاميين عندما تسلموا السلطة لم يختلفوا كثيرا عن العلمانيين، معتبرا ان عدم منح قضية حقوق الانسان حقها هي القضية الفصل في الحكم العادل سواء كان متسلم السلطة اسلاميا ام ليبيراليا ومؤكدا ان ممارسة التيارات الاسلامية الآن «بكل صراحة لا تعطي أي أمل للأمة ولا تعطي أي نموذج يطمئن الأمة على أن يأتمنونا على مستقبلهم وحرماتهم». ويكمل عن ضيق سعة الصدر ورفض تقبل الآخر ليؤكد ان الاسلاميين والليبيراليين وغيرهم من التيارات هم ابناء امة واحدة لهم جميعا الحقوق ذاتها في التفكير والعمل والتحرك.

يحلو لمعارضي التيارات الاسلامية اطلاق توصيف «الانقلاب» على ما قاله الخنة لكن التسمية في عمقها وجوهرها هي «المراجعة النقدية الشفافة» لتجربة خاضها الرجل وما زال يخوضها ناشطا او مراقبا. ثم ان كلمة «انقلاب» تكشف ان بعض معارضي هذه التيارات يريدون نقل مراجعة الخنة من اطارها الحضاري الفكري الراقي الواضح الى الملعب السياسي وتكتيكاته السلبية المصلحية الملتبسة.

كذلك سيعتبر مؤيدو التيارات الاسلامية كلام الخنة «انقلابا» ايضا، وانه يعطي «جوائز مجانية» لليبيراليين، وسيؤكدون ان تحجر المواقف افضل للعقيدة من مرونة التفاصيل، وسيأتي عاجزون حاقدون يهمسون في اذنه بأن ابراز نشر كلامه بما يليق بمضمونه كان مقصودا للاساءة... وهؤلاء ايضا يريدون نقل المراجعة من اطارها الحضاري الى ملعب الصراع الدائم مع الآخرين للمقارعة واثبات الوجود وتعميم التزمت والتطرف في مختلف نواحي الحياة العامة.

لم نعتد كعرب ومسلمين على المراجعات النقدية الا بعد حلول الكوارث، فيما كانت هذه المراجعة سببا اساسيا في تقدم الامم والشعوب الاخرى وخروجها من دوائر العنف والحروب الى دوائر البناء والتعاون. ولم يعرف العرب والمسلمون مكاشفات يقوم بها صاحب القرار او رموز التيارات وهم ناشطون فيها. جل ما كنا نراه انتقادات يقوم بها معارضون او رموز تيارات مستقيلة او مطاح بها... ثم ينسى هؤلاء كل ما كانوا يقولونه عند تسلمهم السلطة او عودتهم الى مراكز القرار.

«نعم، انا اخطأت... نعم، مشروعي لن يصل الى مكان آمن والافضل ان تتفق الامة بكل اطيافها على مشروع بديل... نعم، هزمت وسياستنا ادت الى هزيمة أمة توليت مقاليد سلطتها واضع نفسي تحت المحاسبة... نعم، اعتذر لانني اسأت التصرف وظلمت واضطهدت وسجنت من دون وجه حق وسمحت بالتعذيب والقمع... نعم، اعترف بأنني واعضاء السلطة ساهمنا عن قصد او غيره في التخلف الاقتصادي والاجتماعي بينما كان الاولى ان نستفيد من الثروات في مشاريع منتجة لا مغامرات خارجية او مقامرات سياسية... نعم، اقر بأن ما اعتقدته فكرا جامعا كان في الحقيقة فكرا انقساميا ضرب الوحدة المجتمعية وشرذم البلاد وادخلها في اتون خلافات طاحنة... ونعم، اطلب السماح لانني سمحت لنفسي بأن انتهك اقدس ما اعطته الحياة للانسان اي حرية المعتقد والتفكير والتصرف».

هذه العبارات كلها قيلت في المجتمعات التي كانت شراذم وتحولت أمة ولم نسمعها وربما لن نسمعها هنا حيث كنا مجتمعات وفي طريقنا الى ان نتحول شراذم، والقاسم المشترك بينها كلها هو غياب الانسان وحقوقه وكرامته وقيمته عن مراكز القرار. غياب الدساتير او حضورها الصوري. غياب القوانين او حضورها تحت مظلة الانتهاك والتجاوز... فلو كانت جميع اطياف الأمة مشاركة بشكل ديموقراطي سليم في صنع القرار سواء كانت مع السلطة او في المعارضة لتراجع كثيرا عدد النكبات والخيبات والنكسات والهزائم والتخلف الاقتصادي.

مراجعة الخنة تستحق ان تصنف في خانة «التمنيات المعدية»، اي ان تنتقل من انسان الى آخر ومن فكر الى آخر ومن تيار سياسي الى آخر، بالنقاش بالحوار بالجدال بالتواصل بالسمع بالنظر بالمصافحة بحب الخشوم... تستحق ان تكون برنامج ورشات عمل على المستوى الوطني ليقدم كل طرف مراجعته النقدية أملا في الخروج من خيارين ديكتاتوريين: سلطة متطرفة تحت ستار الدين واخرى متعسفة تحت ستار القومية والليبيرالية... نخرج منهما الى نظام المجتمع المدني. نظام الدستور والقانون والمؤسسات. نظام الديموقراطية والحرية وحقوق الانسان. نظام التنمية الشاملة والتطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.

فهد الخنة رمى بشجاعة حجرا كبيرا في بحيرة راكدة وتزداد ركودا... فهل يقابله الآخرون في منتصف الطريق؟

الاجابة تحدد درجات الرقي الفكري والسياسي لدينا... وبالاحرى وجوده او عدم وجوده.



جاسم بودي
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي