الحروب التجارية... معارك التكنولوجيا والجمود الإستراتيجي ... «نماذج» تشي بـ «محدودية» الهيمنة الأميركية المطلقة

سفينة حاويات صينية في طريقها إلى الولايات المتحدة
سفينة حاويات صينية في طريقها إلى الولايات المتحدة
تصغير
تكبير

- لا توجد إمبراطورية أبدية وكل قوة مهيمنة لا بد أن تستسلم في النهاية
- في هذا العالم لن يأتي البقاء من الهيمنة... بل من التوازن

لم تقتصر الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة في عهد إدارة الرئيس دونالد ترامب على تعطيل سلاسل التوريد أو زعزعة الأسواق المالية فحسب، بل كشفت عن تحول عالمي أعمق.

ما بدأ كمعركة جمركية عالية المخاطر تستهدف السلع الصينية، شكل حالة من عدم اليقين في السوق العالمية، ثم تطور سريعاً إلى مواجهة حول الهيمنة التكنولوجية، والوصول إلى المعادن الأرضية النادرة، ومستقبل القيادة الاقتصادية العالمية... لكن موجات الصدمة لم تتوقف عند المحيط الهادئ.

أوروبا كشفت عن اعتمادها المتوتر على القيادة الأميركية. فعلى الرغم من تظاهر الاتحاد الأوروبي بأنه جبهة موحدة، إلا أنه كافح لتأكيد موقف مستقل.

وكشفت سياساته الداخلية المجزأة وافتقاره إلى التماسك الإستراتيجي عن نقطة ضعف تجلت في الخضوع للنفوذ الأميركي، لا سيما في مسائل الأمن والسياسة الخارجية والاقتصادية.

ومع ذلك، كانت المقاومة الأوروبية الفاترة كافية لإحباط خطة ترامب الأوسع نطاقاً لإخضاع أوكرانيا من خلال إنهاء الصراع تفاوضياً، خطة كانت ستسمح للولايات المتحدة بالتحول إستراتيجياً واقتصادياً بعيداً عن الاعتماد على المعادن الصينية... بدلاً من ذلك، فشل ترامب في دفع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى وقف إطلاق النار نهائياً على الرغم من اعتماد كييف كلياً على الدعم الأميركي (والأوروبي بدرجة أقل).

في غضون ذلك، شجعت تداعيات الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين تحالفات مثل مجموعة البريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون على تعميق الجهود نحو الاستقلال والتنويع.

كان المنطق واضحاً وهو يقوم على تقليل التعرض لواشنطن وعقوباتها، وبناء شراكات مرنة، وإنشاء نظام عالمي لا يخضع لقواعد قوة واحدة. في عالم لم تعد فيه هيمنة الولايات المتحدة ضمانة، أصبح التنوع في التحالفات إستراتيجية للبقاء ضرورياً لأن الولايات المتحدة، رغم قوتها، لم تعد تقف وحيدةً في القمة.

بايدن وروسيا... ترامب والصين وحدود القوة

وضع الرئيس الأميركي السابق جو بايدن، نصب أعينه عزل موسكو وإضعافها لدفعها إلى الخضوع وكسر شوكة النفوذ الروسي من خلال العقوبات والدبلوماسية والدعم العسكري غير المسبوق لأوكرانيا. إلا أن روسيا تكيّفت وامتص اقتصادها الصدمة، وأعادت توجيه نفسها نحو الشرق والجنوب العالمي، وواصلت تمويل مجهودها الحربي لتكشف عن حدود النفوذ الأميركي.

إذاً كان بايدن سعى لاحتواء روسيا وعزلها عن الصين، في حين أن ترامب حاول وقف صعود الصين. فمن خلال سياسات تجارية عدوانية، ورسوم جمركية، وحرب تقنية شاملة، حاول عرقلة ما اعتبرته بكين تهديداً مُتزايداً لبسط الهيمنة الاقتصادية الأميركية، وهو استهدف شركات التكنولوجيا الصينية، وعمل على تعطيل سلاسل التوريد، واستخدم العقوبات كأسلحة اقتصادية.

... النتيجة؟

لم تتراجع الصين، بل ضاعفت جهودها. ورد رئيسها شي جينبينغ بالضغط من أجل الاعتماد على الذات في مجال التكنولوجيا والتنويع الإستراتيجي. وعمّقت بكين شراكاتها في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط، متدخلةً في كثير من الأحيان في المواقف التي كانت الدول الغربية تتراجع فيها.

علاوة على ذلك، أصبحت رسالة شي أكثر وضوحاً هيمنة أميركا ليست قانوناً طبيعياً، بل يمكن تحديها دون محاربتها. وبكين تقود الآن هذا التحدي، ليس فقط من خلال الاقتصاد، بل أيضاً من خلال إعادة صياغة السرديات العالمية حول التنمية والحوكمة والسلطة.

غير أن الحرب التجارية المستمرة التي شنّتها إدارة ترامب أحدثت موجات صدمة في الاقتصاد العالمي. فمع فرض رسوم جمركية على سلع بمئات المليارات من الدولارات، عمّت حالة من عدم اليقين الأسواق لتصبح الآثار المباشرة جلية... تباطؤ النمو العالمي، وتحدي التعريفات الجمركية الانتقامية من الصين، وارتفاع حاد في التكاليف على المستهلكين والشركات الأميركية.

فالمزارعون في الولايات المتحدة واجهوا خسائر فادحة مع توقف الصين عن استيراد المنتجات الزراعية. وبدأت الشركات بإعادة تقييم شبكات التوريد العالمية، مما أدى إلى اتجاه بطيء ولكنه مستمر نحو «الانفصال» عن الصين. فبعض الشركات نقلت عملياتها إلى جنوب شرقي آسيا أو المكسيك، لكن هذا التحول جاء بتكلفة باهظة.

ومن الأمثلة الصارخة على هذه التداعيات، صناعة أشباه الموصلات. فعندما فرضت إدارة ترامب ضوابط تصدير تستهدف وصول الصين إلى الرقائق وأدوات التصنيع الأميركية، تضررت شركات كبيرة بشدة.

إلا أن هذه الخطوة أتت بنتائج عكسية أيضاً، فقد خسرت شركات تصنيع الرقائق الأميركية، حصة سوقية كبيرة ومصادر دخل من أحد أكبر عملائها، وفي الوقت نفسه، سارعت الصين إلى تطوير رقائقها، مستثمرةً عشرات المليارات في الطاقة الإنتاجية المحلية.

والنتيجة... سوق رقائق عالمي مجزأ ومسيس إلى حد كبير، مع ارتفاع التكاليف وتشديد الرقابة على الصادرات في كل المجالات.

وتضررت الاقتصادات الناشئة بشدة، لا سيما تلك المعتمدة على الصادرات أو تدفقات الاستثمار المرتبطة بخط أنابيب التجارة بين الولايات المتحدة والصين. وقد اشتدت حرب التكنولوجيا، مع استمرار حظر تصدير أشباه الموصلات والعقوبات على الشركات الصينية. في الوقت نفسه، تتكيف الشركات والحكومات العالمية من خلال تنويع شراكاتها التجارية.

من جانبها، عززت الصين تجارتها مع دول البريكس ودول الجنوب العالمي، وسرّعت جهودها لتدويل اليوان. وبدأ الاتحاد الأوروبي إعادة النظر في التبعيات الإستراتيجية، لا سيما في مجالي الطاقة والتكنولوجيا.

في غضون ذلك، تسعى العديد من الدول النامية وبنشاط إلى تبني إستراتيجيات عدم الانحياز، مفضلةً شراكات متنوعة ومرنة بدلاً من الاعتماد الحصري على الغرب.

ويمكن القول باختصار، إن الحرب التجارية أدت إلى تقويض الثقة في الاستقرار الاقتصادي العالمي، واستبدلتها بواقعية حذرة وأقل قابلية للتنبؤ. هذا الواقع المتطور يُشير إلى نهاية العولمة التي تقودها الولايات المتحدة كما عرفناها.

التحول متعدّد القطب والتنويع الإستراتيجي

بُنيت سيادة أميركا بعد الحرب الباردة على افتراضين: أنه لا يمكن لأي دولة أخرى أن تُضاهي قوتها العسكرية، وأن المؤسسات العالمية ستظل تعكس قيمها ومصالحها. كلا الافتراضين آخذ في التآكل.

قد لا يكون التكافؤ العسكري موجوداً بعد، لكن الردع موجود. إذ استثمرت روسيا والصين ودول أخرى بكثافة في القدرات السيبرانية، وتكنولوجيا الصواريخ، والنفوذ الإقليمي. فإن فعالية الهيمنة العسكرية لن تكون مضمونة - خصوصاً عندما تتحول الصراعات من ساحات معارك مفتوحة إلى حروب بالوكالة، وإكراه اقتصادي، وحرب معلومات.

دبلوماسياً، يصار إلى تجاهل مؤسسات مثل الأمم المتحدة، ومنظمة التجارة العالمية، وصندوق النقد الدولي، والتي كانت في السابق أدوات نفوذ أميركية، أو يُعاد تشكيلها. فالصين تُنشئ بدائل من خلال مجموعة البريكس+، ومنظمة شنغهاي للتعاون، ومؤسسات الإقراض الخاصة بها. أصبحت الدول الآن أمام خيارات، ولم تعد مضطرة للعب وفقاً لقواعد واشنطن.

فقد عززت الحرب التجارية وعدم القدرة على التنبؤ بالاقتصاد الأميركي، الإلحاح على التنويع. فأخذت الدول بإنشاء ممرات تجارية جديدة، وتستثمر في أنظمة دفع بديلة، تبني احتياطيات إستراتيجية من المعادن الأساسية. ولسان حال هذه الدول... لقد تعلمنا الدرس، لا تدع اقتصادك رهينة سياسات إحدى القوى العظمى وإمبراطوريتها الأبدية المزعومة.

من هنا، فإن التاريخ واضحٌ وجليّ، نادراً ما تسقط الإمبراطوريات بالغزو وحده. بل في أغلب الأحيان، تتلاشى من الداخل - مُفرّغةً بالانقسام، والتوسع، وفقدان الاتجاه.

الإمبراطورية الرومانية انقسمت تحت وطأة ثقلها. وانهار العثمانيون بعد قرون من التراجع البطيء. وتفككت الإمبراطورية البريطانية مع رفض مستعمراتها الخضوع وتضاؤل نفوذها.

فلا توجد إمبراطورية أبدية، وكل قوة مهيمنة لا بد أن تستسلم في النهاية. ولم تعد الولايات المتحدة تحظى بالخوف أو الولاء نفسه الذي كانت تحظى به سابقاً من الآخرين. قد لا تكون هذه نهاية أميركا، لكنها نهاية حكمها المطلق.

أصبح العالم أقل ميلاً لاتباع قوة تجبر الدول على الخضوع لها. لقد تصدع افتراض ما بعد الحرب الباردة - بأن القيادة الأميركية حتمية ودائمة - ما كان يُسمى سابقاً «نظاماً دولياً قائماً على القواعد» يبدو في شكل متزايد وكأنه مبدأ يُطبق في شكل انتقائي، وغالباً ما يفيد مهندسه دون غيره.

ها هي الشقوق تتعمق داخل الولايات المتحدة... الشلل السياسي والتشرذم الاجتماعي والتفاوت الشديد يُضعف أساس التماسك الداخلي. الثقة في المؤسسات منخفضة. البنية التحتية آخذة في التدهور. الثقة في الديموقراطية نفسها تتعرض لضغوط، وتالياً فإن دولة غير واثقة من نفسها في الداخل لا يمكنها أن تقود بشكل مقنع في الخارج.

ومن الواضح أن صدقية أميركا الأخلاقية تضررت... الحروب التي لا تنتهي، والمراقبة العالمية، والتطبيق الانتقائي لمبادئها الخاصة، كلها عوامل قوضت صورتها. كما قال أحد دبلوماسيي دول الجنوب العالمي «عندما تتحدث أميركا عن نظام قائم على القواعد، فإنها تعني قواعد وضعتها بنفسها، وعلى الآخرين اتباعها»

... في هذا العالم، لن يأتي البقاء من الهيمنة، بل من التوازن.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي