غزة معزولة بالكامل... ممر موراغ يرسخ الحصار ويعيد رسم الجغرافيا - السياسية للقطاع

خريطة تظهر موقع ممر موراغ
خريطة تظهر موقع ممر موراغ
تصغير
تكبير

مع دخول حرب إسرائيل على غزة مرحلتها الأكثر تدميراً، حدث تحول جيوسياسي هادئ ولكنه زلزالي على الأرض، تحول له عواقب بعيدة المدى على مستقبل الفلسطينيين والجغرافيا السياسية للمنطقة. فإسرائيل أكملت بناء ممر موراغ، وهو طريق عسكري حديث الإنشاء يخترق جنوب غزة ويعزل مدينة رفح، التي كانت تاريخياً آخر صلة مادية وسياسية للقطاع بالعالم الخارجي غير خاضعة للسيطرة الإسرائيلية المباشرة.

ومع اكتمال ممر موراغ والاحتلال العسكري لرفح، تسيطر إسرائيل الآن على جميع الحدود البرية لقطاع غزة، مما يحّول هذا الجيب الساحلي عملياً إلى منطقة مغلقة تماماً.

حاجز تكتيكي أم إعادة تصميم جيو - سياسي؟

يأخذ ممر موراغ اسمه من مستوطنة إسرائيلية كانت في السابق جزءاً من كتلة غوش قطيف في جنوب غزة والتي تم تفكيكها في عام 2005 بموجب خطة فك الارتباط أحادية الجانب التي وضعها رئيس الوزراء آنذاك أرييل شارون. بعد عقدين من الزمن، تم إحياء الاسم - ليس كموقع مدني ولكن كممر عسكري يعيد تشكيل الجغرافيا الجنوبية لغزة مادياً وسياسياً. ويمتد من البحر الأبيض المتوسط في الغرب إلى معبر صوفا في الشرق، ويشق دفرسواراً مُتحكماً به بين خان يونس ورفح، وهما مدينتان تقعان في أقصى جنوب غزة وأكثرها كثافة سكانية.

تم الانتهاء من بناء موراغ في أبريل 2025، وأعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن اكتماله باعتباره بمثابة تطور حاسم في الحرب المستمرة. وفقاً للمسؤولين الإسرائيليين، ويهدف الممر إلى أداء وظائف عدة كالعمل كمنطقة عازلة، تفصل فعلياً مناطق العمليات العسكرية عن السكان المدنيين وعلى تقسيم غزة إلى مناطق أصغر وأكثر قابلية للإدارة. عسكرياً، وهو يُقلل من تعرض القوات البرية الإسرائيلية للخطر من خلال السماح لها بالحفاظ على خطوط محصنة دون المغامرة بالتوغل في عمق المناطق الحضرية المكتظة بالسكان أو شديدة المقاومة.

يأتي هذا التطور في أعقاب إنشاء ممر نتساريم سابقاً، الذي يخترق وسط غزة ويعزل الشمال - بما في ذلك مدينة غزة - عن بقية القطاع. مع اكتمال ممري نتساريم وموراغ، أصبحت غزة الآن مقسمة إلى ثلاث مناطق متميزة ومنفصلة شمال غزة، ووسط غزة حول دير البلح، وجنوب غزة، الذي أصبح الآن مجزأً في شكل أكبر بين خان يونس ورفح وأصبحت الحركة بين المناطق شبه مستحيلة، وتالياً، فإن توزيع المساعدات الإنسانية، إذا استأنف سيواجه تحديات هائلة، وتزداد البنية التحتية المدنية المنهارة. وأصبحت السيطرة التكتيكية واللوجستية لإسرائيل على القطاع بأكمله غير مسبوقة الآن.

ومن هنا، فإن تداعيات ممر موراغ تتجاوز بكثير تكتيكات ساحة المعركة. فبينما تقدم إسرائيل الممر كاستجابة ضرورية للظروف العسكرية، فإن سياقه الإستراتيجي الأوسع يكشف عن أجندة أعمق بكثير وتتجلى في تجزئة غزة في شكل دائم. إذ إن فصل رفح عن بقية القطاع يعني القضاء على آخر منفذ مادي لقطاع غزة نحو العالم الخارجي، وهو ما كان يتم عبر الأراضي المصرية. وأصبح محيط القطاع بأكمله الآن تحت السيطرة الإسرائيلية، ما يجعل غزة ليس محاصرة فحسب، بل مطوقة بالكامل.

إن العواقب الإنسانية لممر موراغ - ولاستراتيجية الممرات الإسرائيلية في شكل عام - كارثية. فالممر الجديد يخترق بعضاً من أكثر الأراضي الزراعية خصوبة في غزة، مما يهدد إنتاج الغذاء ويفاقم انعدام الأمن الغذائي المتردي أصلاً. ويتزايد حصار المدنيين بين مناطق القتال النشطة والحدود المنيعة، ليصبحوا غير قادرين على الفرار أو الوصول إلى الخدمات الأساسية. وهذا يكشف استراتيجية طويلة المدى تجعل غزة غير قابلة للحكم من قِبل أي سلطة فلسطينية مستقبلية، وضمان أن تظل أي محادثات حول دولة فلسطينية بلا جدوى.

الممرات العسكرية... إستراتيجية تقسيم

أنشأت إسرائيل ممرات عسكرية متعددة داخل قطاع غزة، مما أدى إلى إنشاء نظام تجزئة إقليمية قسري يعزل المناطق المختلفة ويقيد الحركة. هناك ممران رئيسيان محوريان لهذه الاستراتيجية ممر نتساريم، الذي يمر عبر وسط غزة، يفصل فعلياً شمال غزة - بما في ذلك مدينة غزة - عن الجزء الجنوبي من القطاع. ويعمل هذا الممر منذ أشهر عدة، مما يُمكّن الجيش الإسرائيلي من إحكام السيطرة على الحركة بين المنطقتين.

أحدث إضافة هي ممر موراغ، الذي اكتمل في أبريل 2025. وهو يقطع بين رفح وخان يونس، المدينتين الرئيسيتين في جنوب غزة، ويمتد من البحر الأبيض المتوسط غرباً إلى معبر صوفا الحدودي شرقاً. يُفاقم هذا الممر تجزئة الجنوب، ويعزل رفح عن باقي القطاع.

نتيجةً لهذين الممرين، أصبحت غزة الآن مقسمة إلى ثلاث مناطق رئيسية على الأقل شمال غزة (بما في ذلك مدينة غزة)، وسط غزة (يتمركز حول دير البلح)، وجنوب غزة، المقسم الآن بين خان يونس ورفح.

حتى وقتٍ قريب، كان معبر رفح بمثابة البوابة الجنوبية لغزة إلى مصر. وكان آخر خرقٍ لنظام الحصار الإسرائيلي. خلال الحروب والحصارات السابقة، إذ وفّر هذا المعبر شريان حياةٍ للمرضى وقوافل الإغاثة والمدنيين الهاربين. الآن، أُغلق هذا الطريق للهروب - ليس بالكلام، بل بالدبابات والجرافات والإسمنت.

تسارع الانهيار الإنساني

كانت عواقب الحصار الشامل لأكثر من شهر، بالإضافة إلى إنشاء ممر موراغ، كارثية على سكان غزة البالغ عددهم 2.5 مليون نسمة، ما أدى إلى تعطيل الإنتاج الغذائي المحلي بشدة في وقت توقفت المساعدات الإنسانية الدولية تقريباً، وتوقفت عمليات الإجلاء الطبي وتوصيل الإمدادات الأساسية - المحدودة أصلاً - في شكل شبه كامل.

كما أدى تقسيم الأراضي بين رفح وخان يونس إلى تعميق الانقسام المدني في غزة، إذ يجد العديد من الفلسطينيين، الذين نزحوا مرات عدة منذ بدء الحرب، أنفسهم الآن محاصرين في مناطق معزولة، غير قادرين على التنقل أو الحصول على الخدمات الأساسية. وأصدرت الوكالات الإنسانية تحذيرات عاجلة. فغزة تقف على شفا مجاعة جماعية، حيث لا يمكن للمساعدات الغذائية والطبية الوصول إلى الجنوب بكميات كافية وبعدما تسبب الحصار والتجزئة في كارثة إنسانية.

ويسلط هذا التطور الضوء أيضاً على فشل وشلل الديبلوماسية الدولية. إذ رغم التحذيرات المتكررة من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية، أثبت العالم عجزه - أو عدم رغبته - في وقف عزلة غزة القسرية وضع حد للحرب المدمرة عليها. ويشير هذا التقاعس إلى انهيار أوسع في قدرة النظام العالمي على احترام القانون الدولي عندما يتعارض مع المصالح الإستراتيجية الإسرائيلية.

ومع تطويق غزة وتفتيتها، وتزايد هيمنة المستوطنات الإسرائيلية المتوسعة على الضفة الغربية، تتعاظم التحديات أمام حل الدولتين في ظل الظروف الحالية. فالأراضي الفلسطينية ليست مقسمة جغرافياً فحسب، بل مفككة استراتيجياً.

فمن الواضح ان إسرائيل تسيطر الآن على جميع نقاط الدخول والخروج البرية إلى غزة ليصبح القطاع سجناً مغلقاً، بلا أي وقف لإطلاق النار في الأفق، ولا خطة لإعادة الإعمار، ولا مسار سياسياً للمضي قدماً. ويهدف ممر موراغ إلى إعادة تعريف مستقبل غزة من الخارج إلى الداخل - إعادة رسم الحدود، وإعادة تشكيل الواقع الديموغرافي، وضمان أن ينشأ أي هيكل سياسي فلسطيني مستقبلي ضمن المعايير التي تحددها إسرائيل. وما يحدث في غزة اليوم سيشكل التوازن السياسي في الشرق الأوسط لسنوات مقبلة.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي