من أوروبا إلى آسيا... الجميع بين الامتثال أو التهميش

مغامرة ترامب «الجمركية» أو... فوضى العالم الجديد

ترامب يحمل وثيقة الرسوم الجمركية الخارجية الجديدة في حديقة البيت الأبيض (رويترز)
ترامب يحمل وثيقة الرسوم الجمركية الخارجية الجديدة في حديقة البيت الأبيض (رويترز)
تصغير
تكبير

أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فرض ضرائب جديدة شاملة على الشركات الأجنبية التي لا تُنشئ قاعدة عمليات في الولايات المتحدة بهدف إعادة تشكيل التجارة العالمية بالقوة: إما فتح الإنتاج في الولايات المتحدة، أو الخروج من السوق الأميركية بضرائب.

هذا الإعلان أحدث صدمةً فوريةً في الأسواق العالمية التي تشهد أساساً هشاشةً بارزة. إذ تُعاني أوروبا من عدم استقرار في قطاع الطاقة بعد العقوبات الروسية والإجراءات الصارمة لإدارة ترامب على النفط الإيراني.

علاوة على ذلك، مازالت ممرات الشحن في البحر الأحمر، الحيوية لنقل الطاقة والبضائع العالمية، متقلبة بسبب التصعيد بين القوات الأميركية والحوثيين.

وبدا ان سياسة الولايات المتحدة حيال العالم واضحة: نقل العمليات إلى الأراضي الأميركية أو مواجهة تعريفات جمركية عقابية. هذا ليس تعديلًا خفياً لقانون التجارة - إنه إنذار نهائي مباشر لحماية العمال الأميركيين وينهي «الممارسات التجارية غير العادلة»، ولكن بالنسبة إلى الشركات الأجنبية، فهو شكل من أشكال الابتزاز الاقتصادي.

هذه الإستراتيجية كانت تعززت بحوافز سابقة في عهد جو بايدن، بما في ذلك ما يقرب من 370 مليار دولار مخصصة من خلال قانون خفض التضخم لدعم تصنيع الطاقة النظيفة وجذب الاستثمار الصناعي. وجعلت الإعفاءات الضريبية لمدة خمس سنوات للمرافق الأميركية الجديدة والوصول إلى طاقة رخيصة ومستقرة الجزرة جذابة - والآن، في عهد ترامب، أصبحت العصا أكثر وطأة.

فوفقاً لبيانات مكتب الإحصاء الأميركي، تجاوز إجمالي واردات السلع الأميركية 3 تريليونات دولار في عام 2023، وهو ما يمثل حجم الاضطراب الذي يُحتمل أن تُسببه الرسوم الجمركية.

الشرق الأوسط... في مرمى النيران

يشهد الشرق الأوسط هزة تطول نفوذه في قطاع الطاقة. فمع تنافس الولايات المتحدة كأكبر مُصدّر للغاز الطبيعي المسال والنفط، تواجه قوة دول الشرق الأوسط التقليدية على تسعير الطاقة وطرق الإمداد، تحديات، مما قد يدفع العديد من الاقتصادات الإقليمية إلى مراجعة خططها للتنويع.

إضافة إلى ذلك، فإن نيات إدارة ترامب المعلنة لإعادة فرض وتشديد العقوبات على النفط الإيراني، تُهدد بإزالة أكثر من مليون برميل يومياً من الإمدادات العالمية.

وفي حين أن هذا قد يرفع الأسعار موقتاً - مما يفيد المنتجين - فإنه يضيف تقلبات تقوض الاستثمار والتخطيط طويل الأجل.

تشمل القطاعات الرئيسية الأكثر عرضة للخطر في الشرق الأوسط، البتروكيماويات وصهر الألومينيوم والصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة، وهي صناعات تعتمد على رأس المال الأجنبي وإمكان وصول الصادرات إلى الغرب.

أميركا... الهيمنة من خلال الحوافز والقوة

في أميركا تُؤتي هذه الإستراتيجية ثمارها السياسية. فوظائف التصنيع آخذة في الارتفاع، والاستثمار الأجنبي المباشر يتدفق إلى الدول الصناعية الرئيسية، ووجهات نظر ترامب الأساسية تقوم على نهجه الحازم في الوفاء بوعود النهضة الوطنية.

ومع ذلك، تظهر مخاطر جدية. فتُهدد الإجراءات الانتقامية من الحلفاء الصادرات الأميركية الرئيسية، بينما تزيد سلاسل التوريد المكررة من التكاليف العالمية.

وقد يتسارع التضخم مجدداً إذا ظلت أسواق الطاقة متقلبة. ولعل الأخطر من ذلك هو أن هذه السياسة تُخاطر بتفكيك تحالفات تجارية راسخة تشكل دعوة لطعون قانونية في منظمة التجارة العالمية.

كما أن الصورة الاقتصادية الداخلية متباينة. فكبار تجار التجزئة، خصوصاً أولئك الذين يعتمدون على الملابس والإلكترونيات والسلع الاستهلاكية المستوردة، يواجهون ارتفاعاً في تكاليف المدخلات، وتتقلص هوامش الربح أو تنتقل إلى المستهلكين.

كذلك، فإن الزراعة الأميركية معرضة لتحديات قاسية حيث يُخاطر مُصدرو فول الصويا والذرة بفقدان إمكان الوصول إلى الصين وغيرها من الأسواق الأخرى. وقد تتعطل مشاريع البناء والبنى التحتية أو تصبح أكثر تكلفة بسبب ارتفاع تكاليف استيراد الفولاذ والألومينيوم والمكونات المتخصصة.

وفي قطاع التكنولوجيا، يُمثل الاعتماد على الرقائق والبطاريات والأجهزة المصنوعة في آسيا نقطة ضعف.

يُحذّر قادة الصناعة من احتمال تأخير الإنتاج، وارتفاع الأسعار، وحتى النقص الموقت.

وفي حين أن المكاسب القصيرة الأجل للصناعة الأميركية واضحة، إلا أن العواقب طويلة الأجل - خصوصاً إذا تصاعدت الضغوط العالمية - مازالت غير مؤكدة.

أوروبا... من أزمة الطاقة إلى الرد الدبلوماسي

تجد أوروبا نفسها مُعرّضة للخطر في شكل خاص. فمنذ قطع واردات الطاقة الروسية، عانت دول الاتحاد الأوروبي من ارتفاع حاد في تكاليف الغاز والكهرباء، مما قوّض في شكل كبير القدرة التنافسية لقاعدتها الصناعية.

وتتعرض قطاعات رئيسية مثل صناعة السيارات، والمواد الكيميائية، والتكنولوجيا الخضراء، والفضاء الجوي - المُثقلة بالفعل بلوائح الطاقة والبيئة الباهظة - لمزيد من التهديد بسبب جاذبية الحوافز الأميركية.

ولم تتردد الولايات المتحدة في استغلال هذا الضعف، إذ تُحوّل الشركات المصنعة الأوروبية، خصوصاً من ألمانيا وفرنسا، عملياتها في شكل متزايد إلى الولايات المتحدة، مما يُسرّع من تراجع التصنيع في كل أنحاء القارة.

ويشعر القادة الأوروبيون بالقلق، إذ وصف رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز الرسوم الجمركية بأنها «مدمرة»، بينما قالت رئيسة الوزراء الإيطالية جيورجيا ميلوني أنها «غير عادلة وغير مقبولة»،

واعتبرها مسؤولو الاتحاد الأوروبي بمثابة «اختطاف اقتصادي». ودعت ألمانيا إلى رد موحد، بينما تضغط فرنسا من أجل اتخاذ تدابير مضادة فورية لمنع المزيد من تدفقات رأس المال إلى الخارج.

ويحذر الاقتصاديون من أن اليورو قد يتعرض لضغوط، لاسيما إذا تفاقمت اختلالات التجارة واستمر تراجع ثقة المستثمرين في القدرة الصناعية الأوروبية.

وأعرب قادة المملكة المتحدة عن خيبة أملهم الصريحة. وحذر وزير الأعمال والتجارة جوناثان رينولدز من الأضرار الاقتصادية.

واتخذت كندا موقفاً أكثر صرامة. فدان رئيس الوزراء مارك كارني هذه الخطوة - خصوصاً تعرفة السيارات بنسبة 25 في المئة - ووصفها بأنها «هجوم مباشر»، ووعد باتخاذ تدابير مضادة، بما في ذلك حزمة دعم بقيمة ملياري دولار كندي لقطاع السيارات.

وترى دول أميركا اللاتينية وأفريقيا، المتحالفة مع مجموعة البريكس، أن التحوّل الأميركي هو بمثابة جرس إنذار لتسريع التكامل التجاري بين بلدان الجنوب.

وقد انتقدت البرازيل وجنوب أفريقيا علناً الخطوة الأميركية باعتبارها تقوض العدالة العالمية في الوصول إلى التجارة.

آسيا... معاودة الأوضاع تحت الضغط

تُعد الهند من بين أكثر الدول تضرراً، إذ وقعت في فخ الإكراه التجاري وانعدام الأمن في مجال الطاقة. ومع فرض الولايات المتحدة ضرائب على جميع الواردات، يواجه المصدرون الهنود - خصوصاً في قطاع المنسوجات والأدوية وقطع غيار السيارات - احتمال فقدان مكانتهم في سوق حيوية ما لم ينقلوا عملياتهم إلى الأراضي الأميركية.

وستُثقل، في الوقت عينه، خطة ترامب لإعادة فرض عقوبات أكثر صرامة على النفط الإيراني كاهل تكاليف استيراد الهند وميزانها التجاري. وإلى جانب الاضطرابات في البحر الأحمر، تُصبح النتيجة تزايد مخاطر التضخم والضغوط الاقتصادية.

بالنسبة إلى الصين، تُمثل التعريفات الجمركية الجديدة تحدياً وفرصة في آن واحد. قد تفقد بكين بعض حصتها في السوق، لكنها قد تُعزز ريادتها بين الاقتصادات غير الغربية. إذ تواجه قطاعات مثل صادرات فول الصويا إلى الولايات المتحدة تأثيراً مباشراً.

لكن الصين تُواجه ذلك من خلال تعزيز علاقاتها مع دول البريكس، وتعزيز استثمارات مبادرة الحزام والطريق، وتشجيع نظام تجاري موازٍ لتقليل الاعتماد على الأسواق الأميركية.

ولم يكن عابراً ان رد الفعل الرسمي للصين كان إستراتيجياً أكثر منه تصادمياً. ووصفت وسائل الإعلام الحكومية التعريفات الجمركية بأنها «حرب اقتصادية عدائية».

أما خلف الكواليس فإن بكين، تُسرّع إبرام اتفاقيات تجارية غير دولارية مع روسيا والبرازيل وجنوب أفريقيا، مما يُعزز إعادة تنظيم القوة التجارية العالمية.

حقبة جديدة من سياسة التجارة القسرية

من الواضح ان إستراتيجية ترامب للرسوم الجمركية لعام 2025 ليست مجرد سياسة حمائية، بل هي لعبة نفوذ اقتصادي عالمي، تُجبر الشركات الأجنبية على الاختيار بين الامتثال أو الاستبعاد، مدعومة بهيمنة الطاقة والوجود العسكري في ممرات الشحن الرئيسية.

هذا القرار، الذي يُضاف إلى العقوبات وعدم الاستقرار البحري، يُعيد ترتيب ميزان التجارة العالمية.

وفي هذا المناخ، لم يعد الاقتصاد العالمي يُشكّله التعاون، بل المواجهة... فالنظام العالمي القائم على التجارة المفتوحة يتصدّع. وسيعتمد ما سيحلّ محلّه على مدى تحمّل الآخرين لقواعد اللعبة الأميركية الجديدة.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي