... هكذا تُنْذِر سياسة ترامب في الشرق الأوسط بأزمة عالمية
«محادثات سرية» وتصعيد متزايد بين أميركا وإيران



ثمة حقيقة واحدة أصبحت حتمية في شكل متزايد: ما يُسمى «رئيس السلام» يُرسي أسس الفوضى العالمية إذا نفذ تهديداته. ففي عهد دونالد ترامب، تحولت السياسة الخارجية الأميركية مزيجاً متفجراً من الإكراه الاقتصادي والتصعيد العسكري والديبلوماسية الانتقائية، وهي الوصفة التي تُقدم تحت شعار الحفاظ على الاستقرار العالمي.
يمضي ترامب في إطلاق إشارات متناقضة. فمن جهة، يبعث برسائل احترام وتعاون إلى ولي الفقيه الإيراني السيد علي خامنئي ومن ناحية أخرى، يُكثّف حملات القصف في اليمن، ويدعم العمليات العسكرية الإسرائيلية على جبهات عدة، ويُشدّد العقوبات النفطية على روسيا وفنزويلا، ويُصعّد الضغط من أجل مواجهة مباشرة مع إيران.
فهذه الاستراتيجية المُجزّأة تهدد بانهيار طرق التجارة البحرية، وزعزعة استقرار أسواق الطاقة العالمية، وإطلاق العنان لعواقب جيو - سياسية.
لم تُخفّف عقيدة «السلام من خلال القوة» التي يتبنّاها ترامب من تصعيد الصراعات، بل زادتها تفاقماً. إذ أدّت الغارات الجوية على معاقل الحوثيين في اليمن إلى تفاقم أزمة إنسانية مُزرية أصلًا، وزادت من اضطراب ممرات الشحن في البحر الأحمر. في حين، تُنذر التوترات المتزايدة مع إيران بإغلاق مضيق هرمز، الذي يمرّ عبره ما يقرب من خُمس إمدادات النفط العالمية إضافة إلى أن فرض عقوبات جديدة تستهدف النفط الإيراني، في ظل اقتصاد عالمي مُنهك أصلاً، من شأنه تسريع خطر التداعيات الاقتصادية. فترامب يُعبث بالشرايين الأساسية للتجارة العالمية - الطاقة والغذاء والخدمات اللوجستية لأنه لا يُمكن قطع هذه الشرايين الحيوية وتوقع بقاء النظام سليماً من دون شبكة أمان.
ووسط تصاعد قرع طبول الحرب والتعبئة الإقليمية، ظهرت تقارير تفيد بأن إيران والولايات المتحدة منخرطتان بهدوء في محادثات سرية خلف الكواليس. فرغم التهديدات العلنية بالحرب واستعداد إيران الصاروخي عبر رقعة جغرافيتها الشاسعة - واستعدادها لاستيعاب أي ضربة أميركية والرد عليها - يبدو أن كلا الجانبين عازمان على إبقاء مسار ضيق لخفض التصعيد مفتوحاً.
وتشير المفاوضات السرية، المخفية عن الرأي العام، إلى مصلحة مشتركة في إدارة التوترات وتجنب دوامة لا يمكن السيطرة عليها في حال الانزلاق إلى صراع مباشر. وبينما يظل محتوى هذه المناقشات سرياً، تقول مصادر دبلوماسية إنه حتى في لحظات العداء العلني، غالباً ما تحافظ واشنطن وطهران على خطوط اتصال هدفها منع سوء التقدير، والحفاظ على الخيار الديبلوماسي، ومحاولة تجنب حرب لا يستطيع أي من الجانبين تحمل ربحها أو خسارتها - مهما كانت نتيجتها.
الازدواجية في رسالة ترامب إلى السيد خامنئي و... الرد عليها
رغم موقفه العدائي، إلا أن دبلوماسية ترامب السرية ترسم صورة مختلفة. ففي رسالة بعث بها إلى المرشد خامنئي عبر الإمارات، كتب ترامب: «مع احترامي لقيادتكم وشعب إيران، أكتب إليكم بهدف فتح آفاق جديدة لعلاقاتنا... الولايات المتحدة الأميركية، بقيادتي، مستعدة لاتخاذ خطوة كبيرة نحو السلام وخفض التصعيد...».
ووعد الرئيس الأميركي برفع العقوبات، وتمكين الاقتصاد الإيراني، وفتح باب التعاون الثنائي.
لكن الرسالة حملت أيضاً تهديداً مبطناً «لكنني أحذركم: إذا رفضتم هذه اليد الممدودة، وإذا اختار النظام الإيراني مسار التصعيد، ومواصلة دعم المنظمات الإرهابية، والمغامرة العسكرية، فسيكون الرد حاسماً وسريعاً. لن نقف مكتوفي الأيدي في وجه تهديدات نظامكم لشعبنا أو لحلفائنا».
تعكس هذه اللغة، التصالحية والإكراهية على حد سواء، تناقضاً أوسع نطاقاً للإدارة الأميركية: دبلوماسية مُلبّسة بلغة الإنذارات. ولم يخفِ هذا التناقض على طهران التي ردّت عبر عُمان بوضوح مُتزن ولكنه حازم بثلاثة مواقف: المفاوضات غير المباشرة، الأمن القومي غير مطروح للنقاش - برنامجها الصاروخي وسياساتها الدفاعية الداخلية غير قابلة للتفاوض ولا وكلاء، فقط تحالفات في المنطقة، مؤكدةً أن جهات فاعلة مثل «حزب الله» والحوثيين تعمل في شكل مستقل ووفقاً لمصالحها الوطنية.
أكدت هذه الرسالة على الخطوط الحمر الثابتة لطهران، خصوصاً رفضها ربط المفاوضات النووية بحضورها الإقليمي أو ببرنامجها الصاروخي.
رفض السيد خامنئي النهج المزدوج الذي تمارسه واشنطن: «يجلس الأميركيون خلف مكاتبهم، ويغيرون خريطة العالم - ولكن على الورق فقط، دون أي حقيقة وراء ذلك... إذا هددونا، فسنهددهم في المقابل». وأكد خامنئي أن استراتيجية الردع الإيرانية لا تنبع من الأيديولوجيا فحسب، بل من الواجب الديني والوطني: «إذا هددوا أمن أمتنا، فسنهدد أمنهم بالتأكيد». لم تكن كلماته مجرد تحدٍّ، بل حدّدت موقفاً استراتيجياً يهدف إلى توضيح استعداد إيران لأي تصعيد.
خطر الانهيار التام
كانت إعادة فرض العقوبات على صادرات النفط الإيرانية وتشديدها من أكثر الخطوات زعزعة للاستقرار في ظل سياسة ترامب تجاه إيران. لم تُشلّ هذه القيود الإضافية الاقتصاد الإيراني فحسب، بل عطّلت أيضاً أسواق النفط العالمية. فإيران، أحد أكبر منتجي «أوبك»، تلعب دوراً حاسماً في استقرار إمدادات الطاقة وإن سحب إنتاجها من السوق يضع ضغطاً هائلاً على أعضاء أوبك الآخرين لسدّ الفجوة - وهي مهمة غير مؤهلين هيكلياً أو سياسياً للتعامل معها على نطاق واسع.
لذلك، فإن أي اضطراب إضافي، خصوصاً في ظل الصراع العسكري، من شأنه أن يؤدي إلى ارتفاع حاد في أسعار النفط. وستعاني الدول المعتمدة على الطاقة - لاسيما في أوروبا - من عواقب وخيمة، حيث تمر معظم وارداتها من الطاقة من آسيا عبر نقاط اختناق بحرية مثل البحر الأحمر ومضيق هرمز.
يُعتبر سوق الطاقة العالمي مترابطاً وهشاً. إذ إن فرض عقوبات على موردين متعددين (روسيا، فنزويلا، وإيران) مع التهديد بالحرب في مناطق عبور حيوية يُعدّ وصفةً لصدمات أسعار، وعدم استقرار في السوق، ونقص محتمل في الطاقة. وستكون الاقتصادات الأوروبية - المُثقلة بالفعل بالتضخم وهشاشة انتعاش ما بعد جائحة «كورونا» - من بين الأكثر تضرراً.
سترتفع أسعار الوقود بشدة، وسترتفع تكاليف التصنيع. سيتعطل النقل والتجارة عبر آسيا وأوروبا بشدة، مما سيفاقم أزمات الغذاء وسلسلة التوريد في جميع أنحاء العالم.
وقد يؤدي تعطيل الطرق البحرية في البحر الأحمر ومضيق هرمز إلى تأخير أو عرقلة شحنات الحبوب والأسمدة والسلع الأساسية وسترتفع أسعار المواد الغذائية عالميًا، لا سيما في المناطق المعتمدة على الاستيراد مثل أفريقيا والشرق الأوسط وأجزاء من آسيا. وستواجه البلدان التي تُعاني بالفعل من التضخم وانعدام الأمن الغذائي أزمات متفاقمة. وسيرتفع تأمين الشحن في شكل كبير، وستزداد الأوقات للتسليم، وستُفقد السلع القابلة للتلف.
باختصار، ستؤثر حرب في هذه الشرايين البحرية ليس فقط على ناقلات النفط، بل أيضاً على سفن الحاويات التي تُزوّد الأسواق في جميع أنحاء العالم.
الصورة التراكمية ليست صورة زلة، بل صورة استراتيجية. إستراتيجية تزدهر في ظل عدم الاستقرار، وتستفيد من الانقسام الاقتصادي العالمي، وتركز على التوافق السياسي الكامل مع أجندة إسرائيل الإقليمية العدوانية.
إذ إن تبني ترامب الكامل لسياسة بنيامين نتنياهو في غزة والضفة الغربية وسورية ولبنان وإيران ليس مصادفة، بل هو تكتيكي.
إن تهديد ترامب الأخير بـ «قصف إيران قصفاً جهنمياً» يؤكد على تقلبات اللحظة. إنها لغة الصدمة، التي لا تهدف فقط إلى تخويف طهران، بل إلى إرسال إشارة إلى الحلفاء والخصوم على حد سواء بأن عدم القدرة على التنبؤ هو الوضع الطبيعي الجديد.
ويتآكل النظام العالمي تحت وطأة الحروب المتداخلة، والقيادة المتهورة، وسياسة حافة الهاوية الاقتصادية.
في هذا المناخ، لم تعد أسطورة «رئيس السلام» قائمة. سياسة ترامب ذات المسارين - الدبلوماسية العلنية والتصعيد السري - تدفع العالم نحو نقاط انهيار متعددة. وإذا تم تجاوز خط أحمر في إيران أو البحر الأحمر، فلن يكون صراعاً إقليمياً، بل سيكون تمزقاً عالمياً. وعلى عكس الخرائط المرسومة في واشنطن، لن تكون التداعيات نظرية. بل ستكون محسوسة في كل أنحاء العالم.