أوكرانيا تدفع ثمن اتفاق السلام بين أميركا وروسيا... وأوروبا تكشف عجزها

النيران تلتهم منشأة للطاقة في أوكرانيا بعد غارة روسية  (أ ف ب)
النيران تلتهم منشأة للطاقة في أوكرانيا بعد غارة روسية (أ ف ب)
تصغير
تكبير

بعد ثلاثة أعوام من الدمار والعقوبات والاضطرابات الاقتصادية، يبدو أن الحرب في أوكرانيا تقترب من نهايتها. فما بدأ كصراع مؤطَّر بمبادئ نبيلة ــ الدفاع عن الديمقراطية والسيادة وحقوق الإنسان ـ تطوّر الآن إلى تشابك جيوسياسي أكثر تعقيداً. وبينما تكافح الدول الأوروبية مع حقيقة الانسحاب، يواجه قادتها حساباً لا مفر منه: كيف يبرّرون تدخّلهم الأوّلي وانسحابهم في نهاية المطاف؟

وكانت العواقب الاقتصادية للحرب مدمّرة بالنسبة لأوروبا، حيث أدت إلى أزمة طاقة، وتضخّم قياسي، وإحباط عام متزايد إزاء الضغوط المالية المترتّبة على دعم أوكرانيا. والآن يتحول المشهد الديبلوماسي، ما يضطر القادة الغربيين إلى إعادة تقييم ليس فقط أهدافهم الاستراتيجية ولكن أيضاً سلامة القِيَم التي زعموا أنهم يدافعون عنها.

ومع ذلك، تحذّر بعض الأصوات الأوروبية من أن السلام قد يكون أكثر خطورة من الحرب. إذ أعربت رئيسة الوزراء الدنماركية ميتي فريدريكسن، عن تشككها في إمكان التوصل إلى تسوية، بحجة أن الحل السابق لأوانه قد يجعل أوكرانيا عُرضة للخطر. وحذّرت من أن «السلام في أوكرانيا قد يكون في الواقع أكثر خطورة من الحرب الدائرة حالياً».

وتسلط مخاوف فريدريكسن الضوءَ على قَلَقٍ متزايدٍ بين صنّاع السياسات الأوروبيين من أن أي اتفاقٍ يتم التوصل إليه في ظل الظروف الحالية قد يشجع روسيا ويقوّض المصالح الاستراتيجية لأوروبا.

وفي الوقت نفسه، وعبر الأطلسي، يجري تحول دراماتيكي في السياسة الأميركية. ففي أطول خطاب ألقاه أمام الكونغرس، كشف الرئيس دونالد ترامب أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أرسل رسالةً تشير إلى استعداده للتفاوض على السلام، بشرط الانتهاء من اتفاقية المعادن النادرة مع الولايات المتحدة. وكان ردّ ترامب لا لبس فيه: «لقد حان الوقت لإنهاء هذه الحرب».

ويمثل هذا الإعلان لحظة مهمّة في مسار الصراع: ماذا يعني السلام حقاً لأوكرانيا وأوروبا والنظام العالمي؟

ثمن السلام

مع اقتراب الحرب في أوكرانيا من نهايتها، لا يزال السؤال حول ما يعنيه «السلام» محلّ نزاع. هل سيُنظر إليه على أنه انتصار، أو تسوية، أو اعتراف مرير بالحقائق الجيو- سياسية بأن روسيا فازت واحتلت 20 في المئة من الأراضي الأوكرانية؟

وكل هذا يدلّ على أن نهاية الحرب ستفرض إعادة تشكيل ديناميات الأمن والسياسات الاقتصادية وتمتحن صدقية التحالفات الغربية.

بالنسبة لأوكرانيا، يوفّر السلام لحظةً من الراحة واختباراً قاسياً للقدرة على الصمود. والحرب رسّخت هويتَها الوطنية، وكشفت عن عدوانية هائلة تجاه روسيا، وعزّزت تطلعاتها الأوروبية، وعمقت اعتمادها على حلفائها الغربيين. ومع ذلك، فإن الشروط التي تنتهي بها الصراعات ستحدد إذا كانت أوكرانيا ستظهر كدولة ذات سيادة حقيقية (وهو أمر مشكوك فيه للغاية) أو كدولة مجزأة مجبرة على تقديم تنازلات مؤلمة.

سيكون من الصعب للغاية على موسكو أن تتخلى عن الأراضي الأوكرانية المحتلة. والواقع أن أحد أكبر أوجه عدم اليقين يحوط بالسيادة الإقليمية. وإذا تم التوصل إلى تسوية تفاوضية، فقد لا يكون أمام كييف خيار سوى قبول خسارة شبه جزيرة القرم وأجزاء مهمة وواسعة من دونباس. ومن شأن مثل هذا السيناريو أن يثير تساؤلات غير مريحة: هل كانت الحرب تستحقّ كل هذا العناء؟ وهل تستطيع أوكرانيا استعادة هذه الأراضي؟ وما هي السابقة التي قد يشكلها ذلك للصراعات المستقبلية؟

وبعيداً عن حدودها، يظل أمن أوكرانيا معضلة مفتوحة. لقد أصبحت عضوية حلف شمال الأطلسي غير مطروحة على الطاولة، فهل ستضطر كييف إلى الاعتماد على اتفاقاتٍ ثنائية هشة مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية؟ علماً أن الصراع المجمَّد، دون حماية واضحة، من شأنه أن يترك أوكرانيا عُرضة للخطر إلى الأبد.

ولكن هناك أيضاً الدمار الاقتصادي. فالمدن أصبحت خراباً، والصناعات دُمّرت، ولا يزال الملايين من الأوكرانيين نازحين. وقد وعد الغرب بتقديم مساعدات واسعة النطاق لإعادة الإعمار بعد «النصر»، ولكن هل تتحقق هذه الوعود بمجرد أن يتلاشى الإلحاح الجيو - سياسي؟ لقد قاتلت أوكرانيا من أجل بقائها والانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، ولكن عواقب الحرب قد تكون حاسمةً بقدر الصراع نفسه.

أوروبا تبرر المشاركة وفك الارتباط

بالنسبة لأوروبا التي دافع قادتُها عن التدخل العسكري أو حتى إرسال القوات، تم تأطير الدعم لأوكرانيا باعتباره «قتالاً من أجل أوروبا نفسها» وليس مجرد دفاع إقليمي. وقد قررت الدول الأوروبية دعم أوكرانيا، في إطار خطاب الدفاع عن القِيَم الديمقراطية والسيادة الوطنية والنظام الدولي القائم وأن الغزو الروسي كان يمثّل تهديداً وجودياً لهذه المبادئ، وبالتالي فإن الدعم العسكري والمالي والديبلوماسي كان «ضرورة أخلاقية واستراتيجية».

إن إنهاء الحرب، سواء من خلال تسوية تفاوضية أو قبولٍ بحُكْمِ الأمر الواقع للخسائر الإقليمية، من شأنه أن يقوّض اللغة الأخلاقية المطلقة التي استخدمها القادة الأوروبيون في البداية. إن التحول من «يجب ألا نقبل العدوان الروسي أبداً» إلى «يجب أن نسعى إلى السلام والاستقرار» من شأنه أن يكشف عن التناقضات في روايات القادة الأوروبيين الذين سيحتاجون أيضاً إلى الإجابة عن أسئلةٍ أعمق حول كيفية تطبيقهم لقِيَمهم المعلنة في الممارسة العملية. فإذا انتهتْ الحرب بأوكرانيا في حالة ضعيفة، أو خسائر إقليمية، أو حتى وقفِ نارٍ هش وغير مستقر، فسيجادل المنتقدون: هل كانت الاستجابة الغربية حقاً حول «القِيَم»، أم كانت مناورة جيو - سياسية؟ هل استغلت أوروبا أوكرانيا لتحقيق هدف استراتيجي أوسع ضد روسيا، فقط لتتخلى عنها عندما أَمَرَ الرئيس الأميركي الجديد ذلك؟

ولكن ماذا يعني هذا بالنسبة لصدقية أوروبا إذا كانت النتيجة تتناقض مع المبادئ ذاتها التي برّرت المشاركة في المقام الأول؟ وإذا كانت المشاركة تتعلق بالديموقراطية، فلماذا انخرط بعض الدول الأوروبية في تدابير استبدادية (على سبيل المثال، الرقابة، وقمع وسائل الإعلام، وتجارة الأسلحة مع دول غير ديمقراطية)؟ إن هذا التناقض الأخلاقي سيشكل عبئاً طويل الأجَل على أوروبا، وستحتاج الطبقة السياسية إلى إعادة صوغ مبرراتها ــ ربما التحوّل نحو سرديات «السلام البراغماتي»، و«الاستقرار الإقليمي»، و«الدروس المستفادة» ــ ولكن هذه السرديات ستفتقر إلى الوضوح الأخلاقي الذي بُررت به الحرب في البداية.

وعلاوة على ذلك، كشفت الحربُ عن نقاط ضعف عميقة ــ اقتصادية وعسكرية وسياسية. والآن، مع اقتراب الصراع من نهايته، يتعيّن على الزعماء الأوروبيين أن ينتقلوا في سياقٍ تبريري هشّ من التدخل إلى الانسحاب.

لقد اختبرت التداعياتُ الاقتصادية للحرب صبرَ الجمهور في مختلف أنحاء القارة. فأسعار الطاقة المرتفعة، والتضخم المرتفع إلى مستويات قياسية، والتكاليف الهائلة للدعم العسكري جعلت دافعي الضرائب يشككون في الالتزام الطويل الأجَل بأوكرانيا.

ومع بدء الحكومات في تحويل تركيزها نحو الاستقرار الداخلي، ينشأ سؤال غير مريح: مَن سيدفع تكاليف إعادة إعمار أوكرانيا؟ هل يكون دافعو الضرائب الأوروبيون على استعداد لتحمل التزامٍ آخَر بمليارات الدولارات بإزاء بلدٍ خسر الحرب، أم أن التعب السياسي سيفرض التراجع؟

ثم هناك المستقبل الاستراتيجي لحلف شمال الأطلسي. فقد عززت الحربُ اعتمادَ أوروبا الشديد على الولايات المتحدة من أجل الأمن، ولكن مع إشارة واشنطن إلى رغبتها في تحويل التركيز إلى مكان آخَر، يتعيّن على أوروبا أن تقرر: هل ستتّحد في شأن الدفاع وتعزّز قدراتها العسكرية، أم ستظل مقيّدة بالزعامة الأميركية؟

وقد تتصاعد التوترات بين أوروبا الشرقية والغربية أيضاً. وفي حين تظل دول مثل بولندا ودول البلطيق مستثمرة بعمق في احتواء روسيا، يمكن أن تدفع فرنسا وألمانيا نحو تجديد العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مع موسكو. وإذا تحرّكت أوروبا الغربية بسرعةٍ كبيرة لتطبيع العلاقات، فقد يؤدي ذلك إلى تفاقم الانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي، وإضعاف وحدة أوروبا في لحظة حرجة.

نظام عالمي جديد: مَن الرابح ومَن الخاسر؟

إن ما يحدث في أوكرانيا سيخلف عواقب وخيمة بعيدة المدى على صدقية أميركا على الساحة العالمية. وإذا ضعفت عزيمة الغرب وأيدت الولايات المتحدة تسويةً سلميةً تكافئ المكاسب الإقليمية الروسية بشكل فعال، فإنها تخاطر بتقويض الثقة في شبكة الالتزامات الأمنية الأميركية الهشة بالفعل في أماكن أخرى. وسيجد حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط، الذين يشككون في أولوياتها المتغيّرة، المزيدَ من الأسباب للتشكيك في موثوقية البيت الأبيض في لحظات الأزمة. ولكن إذا لم تتمكن إدارة ترامب من التمسك بمبادئها في أوكرانيا ــ وهو الصراع الذي يُصاغ على أنه معركة حاسمة من أجل الديمقراطية والسيادة ــ فكيف يمكن للدول الأصغر حجماً والأكثر ضعفاً استراتيجياً أن تثق بقدرة الولايات المتحدة على التصرف بحسم في الدفاع عنها؟

قد تنتهي هذه الحرب قريباً، ولكن عواقبها ستحدد معالم الجغرافيا السياسية لسنوات مقبلة.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي