أوكرانيا أمام مفترق: تبدُّل موقف واشنطن وتداعيات سوء تقدير زيلينسكي



- هل تستطيع أوروبا أن تستمر في الحرب من دون الولايات المتحدة؟
يتغيّر المَشهدُ السياسي والعسكري في أوكرانيا بشكل كبير في أعقاب الاجتماع الأخير المتوتّر بين الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والأوكراني فولوديمير زيلينسكي. فما كان يُفترض أن يكون لحظة طَمْأنة لأوكرانيا تحوّل بدلاً من ذلك إشارةً واضحةً إلى أن الدعم الأميركي لم يَعُدْ غير مشروط ولا متوافر.
وقد كشف اللقاء العاصف في البيت الأبيض عن خلافات عميقة، ليس فقط بين ترامب وزيلينسكي ولكن داخل التحالف عبر الأطلسي الأوسع، ما ألقى بظلاله على مستقبل الالتزامات العسكرية الأميركية والأوروبية تجاه جهود الحرب التي تخوضها أوكرانيا مع روسيا منذ غزو فبراير 2022.
سوء تقدير زيلينسكي: المبالغة في تقدير القوة الأوروبية
يؤكد ترامب أن «زيلينسكي لا يريد السلام ما دام يتمتع بدعم الولايات المتحدة وأوروبا». وتشير هذه التصريحات إلى تحوّل في السياسة الأميركية تجاه أوكرانيا، حيث يبدو أن ترامب يضع الأساس لسحب الدعم من الرئيس الأوكراني. وإذا ترجم هذا الموقف إلى أفعال، فقد يقوّض موقف أوكرانيا في الحرب ويضع رئيسَها في موقف حرج.
وعلاوة على ذلك، من المرجّح أن يضغط ترامب على الحلفاء الأوروبيين للتوافق مع نهجه، ما قد يؤدي إلى خفض كبير في المساعدات العسكرية والمالية الغربية لكييف. وقد تُفْضي مثل هذه الخطوة إلى تغيير مسار الصراع، ما يجبر أوكرانيا على البحث عن استراتيجيات بديلة أو تنازلاتٍ في المفاوضات مع روسيا من موقعٍ أضعف. ويظلّ مدى تسليم القادة الأوروبيين بقيادة ترامب غير مؤكد، ولكن نظراً لاعتمادهم الاقتصادي على الديناميات البنيوية للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، فإن التحول السياسي الكبير في واشنطن قد يتردد صداه في جميع أنحاء أوروبا ما يعيد تشكيل الموقف الجَماعي للغرب في شأن الحرب.
خلال زيارته الأخيرة للولايات المتحدة، وصل زيلينسكي إلى واشنطن معززاً بزعماء أوروبيين طمأنوه إلى أن أوكرانيا «ليست وحدها». ولكن الرئيس الأوكراني أخطأ في قراءة حقيقة القيود والقدرات العسكرية والسياسية التي تواجهها أوروبا، فافترض أن الاتحاد الأوروبي قادر على العمل كقوة مُوازِنة للولايات المتحدة.
وما فشل زيلينسكي في مراعاته هو أن أوروبا كانت عاجزة تاريخياً عن حل الصراعات الكبرى بمفردها، وأبرزها الحروب في يوغوسلافيا السابقة التي لم تنتهِ إلا باتفاقية دايتون التي توسّطت فيها الولايات المتحدة.
لقد منح الاجتماعُ مع الزعماء الأوروبيين في لندن زيلينسكي شعوراً زائفا بالثقة ما دفعه إلى الاعتقاد أن الجبهة الأوروبية الجماعية يمكن أن تمارس ضغوطاً كافية لإبقاء الولايات المتحدة منخرطة بشكل كامل. ولكن الديناميات السياسية تغيّرت، وقد استُنفذت الدول الأوروبية عسكرياً بعد ثلاث سنوات من الحرب، وكافحت صناعاتُها للحفاظ على إمدادات الأسلحة بالوتيرة المطلوبة لدعم قتال أوكرانيا ضد روسيا.
وإضافة إلى ذلك، لا تتمتع أوروبا بصدقية كبيرة في نظر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وخصوصاً بعدما اعترفت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل علناً بأن اتفاقيتي مينسك الأولى والثانية ــ اللتين هَدَفَتا إلى وقف الحرب في أوكرانيا ــ كانتا مجرّد تكتيك لكسب الوقت والسماح لأوكرانيا بإعادة التسلح استعداداً لحرب مستقبلية.
وقد حطّم هذا الاعتراف، الذي أكده لاحقاً الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند، أي وَهْمٍ بأن الدبلوماسية الأوروبية كانت في يوم من الأيام محاولة حقيقية لإحلال السلام. ولم تكن هاتان الدولتان، فرنسا وألمانيا، من الموقّعين على اتفاقات مينسك فحسب، بل كانتا أيضاً ضامنتيْن لها، ومع ذلك فقد استخدمتا الاتفاقات كأداة للحشد العسكري وليس لحل الصراعات. ولهذا السبب، تظل روسيا متشككة للغاية في أي مفاوضات تقودها أوروبا، وأوضحت أنه في حين قد يشارك الاتحاد الأوروبي في محادثات وقف إطلاق النار في المستقبل، فإن أي اتفاق يجب أن يتم تحت قيادة الولايات المتحدة والتزامها. وترى موسكو أن القادة الأوروبيين وسطاء غير موثوق بهم، ومن المؤكد أن انعدام الثقة هذا سيشكل ملامح أي تسوية مستقبلية.
في الوقت نفسه، حضّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي على الاتفاق على «تمويل مشترك ضخم» لإطلاق استثمارات بمئات المليارات من اليورو للدفاع والأمن الأوروبيين. ويأتي هذا الدفع لزيادة الإنفاق العسكري في وقتٍ تستعدّ الولايات المتحدة لمغادرة حلف شمال الأطلسي ما أثار المخاوف من ترك أوروبا للدفاع عن نفسها دون دعم عسكري أميركي. ومع ذلك، يبدو أن دعوة ماكرون متأخرة، حيث يشعر المتشددون في الاتحاد الأوروبي بالذعر بالفعل إزاء احتمال عملية سلام وشيكة بين الولايات المتحدة وروسيا والتي يمكن أن تغيّر في شكل أساسي المشهدَ الأمني في أوروبا.
المكاسب الإقليمية الروسية وموقف الولايات المتحدة
في حين ترفض أوكرانيا بشكل قاطع أي تسوية تعترف بالسيطرة الإقليمية الروسية، فإن الواقعَ صارِخٌ: فقد احتلّت موسكو ما يقارب 20 في المئة من الأراضي الأوكرانية، وعلى الرغم من الجهود الغربية لمواجهة روسيا، فإن تقدّمها العسكري لم يتوقف. ويبدو أن الولايات المتحدة قَبِلَتْ بهدوء أن أوكرانيا لن تستعيد كل أراضيها المفقودة. ومع ذلك، تواصل كييف رفض أي تسوية تنطوي على تنازلات إقليمية، ما يترك الصراع في طريق مسدود خطير.
وأوروبا والحرب
كان حلف شمال الأطلسي العمودَ الفقري لدفاع أوكرانيا، ولكن في الواقع تهيمن على هذا الحلف قيادة الولايات المتحدة. وقد اعترف وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن علناً أنه في ظل إدارة الرئيس جو بايدن، حشدت الولايات المتحدة 50 دولة لتوفير المعلومات الاستخباراتية واللوجستيات والأسلحة لأوكرانيا. ومع ذلك، وفي ظل إشارة ترامب إلى تراجع شهيته لمواصلة الحرب، فإن هذا يعني أن الولايات المتحدة قد تتخلى عن دعمها لأوكرانيا. ومن دون الولايات المتحدة، تصبح أوروبا عاجزة عن دعم جهود كييف الحربية.
فبعد ثلاث سنوات من الصراع المكثف، استنفدت أوروبا مخزوناتها العسكرية، وأصبحت قاعدتها الصناعية غير قادرة على تلبية الطلب الأوكراني على الذخائر والأسلحة المتقدمة. وعلى الرغم من المساعدات العسكرية غير المسبوقة المقدمة لكييف، فإن إنتاج الأسلحة الأوروبي لم ينجح إلا في إبطاء تقدّم روسيا، وليس وقفه.
لم تستنزف الحرب في أوكرانيا الموارد العسكرية فحسب، بل كانت لها أيضاً عواقب اقتصادية كارثية على أوروبا. وكانت العقوبات الغربية المفروضة على روسيا تهدف إلى شل اقتصادها، لكن الواقع هو أن روسيا خسرت ما يقارب 300 مليار دولار بسبب الصراع والعقوبات، في حين تكبّدت أوروبا خسائر اقتصادية تزيد على تريليون دولار نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة، وانقطاع سلسلة التوريد، والتأثير المرتدّ لعقوباتها.
وعلى الرغم من الصعوبات الاقتصادية، لا تزال آلة الحرب الروسية تعمل بكامل طاقتها، في حين ركد النمو الاقتصادي في أوروبا تحت وطأة دعم أوكرانيا. والحقيقة القاسية هي أن العقوبات الغربية فشلت في تسديد الضربة الحاسمة التي كان من المفترض أن توجهها إلى روسيا، في حين تكافح أوروبا اقتصادياً تحت وطأة الحرب المطوّلة.
مع قرب انسحاب ترامب من حرب أوكرانيا، وعجز أوروبا عن تحمل الحرب، واستمرار سيطرة روسيا على الأراضي المحتلة، يبدو مستقبل أوكرانيا محفوفاً بالمخاطر على نحو متزايد. والآن تواجه القيادة الأوكرانية خياراً قاسياً، فإما مواصلة الحرب بدعم غربي متضائل، وإما التحرك على مضض نحو تسويةٍ تفاوضية تَنطوي على تنازلاتٍ إقليمية مؤلمة.
ومع استمرار الحرب، أصبح مصيرُ أوكرانيا أكثر وضوحاً: فمن دون التزام الولايات المتحدة الراسخ بالقتال، تفتقر أوروبا إلى القوة اللازمة لإبقاء الحرب مستمرة، وستضطر كييف إلى مواجهة حقيقة السيطرة الإقليمية الروسية. وكلما طال أَمَدُ مقاومة أوكرانيا للاعتراف بهذا، كانت العواقب أكثر إيلاماً، ليس فقط بالنسبة لأوكرانيا بل وأيضاً بالنسبة لأوروبا الضعيفة التي راهنتْ بمستقبلها الاستراتيجي على حربٍ لا يمكنها الفوز فيها من دون واشنطن.