ينتهك اتفاق وقف النار... يشترط المستحيل ويغلق غزة

نتنياهو «يفعل كل شيء»... للحفاظ على حكومته

شاحنات المساعدات تكدست أمام معبر رفح بعد منع إسرائيل دخولها لغزة (أ ف ب )
شاحنات المساعدات تكدست أمام معبر رفح بعد منع إسرائيل دخولها لغزة (أ ف ب )
تصغير
تكبير

انتهكت إسرائيل بشكل منهجي اتفاق وقف النار الذي كان من المفترض أن يجلب الإغاثة الموقتة إلى غزة، وفشلت في الوفاء حتى بالالتزامات الإنسانية الموضَحة في المرحلة الأولى وعرقلت بنشاطٍ التقدّمَ نحو المرحلة الثانية.

وبدل احترام شروط الاتفاق، مدّد بنيامين نتنياهو المرحلة الأولى من جانب واحد، وأمر بإغلاق جميع نقاط الدخول والخروج من وإلى غزة للضغط على السكان وإجبار المقاومة الفلسطينية على الاستسلام لشروطه. كما يطالب رئيس الوزراء الإسرائيلي بالإفراج عن 30 من الأسرى الإسرائيليين، من بين الـ 59 الباقين لدى «حماس»، قبل الانتقال إلى المرحلة الثانية، مستخدماً الرهائن كأوراق مساومة لإطالة مرحلة وقف النار التي تخدم أجندته السياسية على أفضل وجه.

ومن خلال إبقاء وقف النار محصوراً بالمرحلة الأولى، تَحتفظ إسرائيل بالنفوذ العسكري، وتتجنّب الالتزامات التي كانت ستترتّب في المرحلة الثانية، بما في ذلك الانسحاب العسكري الإسرائيلي المحتمَل من غزة والمزيد من تبادل الأسرى. ويتجاهل هذا القرار الأحادي الجانب الأصواتَ الفلسطينية، ويعزز نمط إملاء إسرائيل لشروط الاشتباك مع تَجاوز الاتفاقات الديبلوماسية التي تتطلب الموافقة المتبادلة.

فشل في احترام البروتوكول الإنساني

منذ البداية، تجاهلتْ إسرائيل التزاماتها الإنسانية بموجب اتفاق وقف النار. فقد تأخرت عمداً أو قيّدت بشدةٍ تسليم المساعدات، بما في ذلك الغذاء والإمدادات الطبية والمأوى للنازحين. كما تباطأت عمليات إجلاء المدنيين الجرحى وأُسَرِهم عبر معبر رفح إلى حد التوقف التام تقريباً، ما ترك العديد منهم في ظروف يائسة.

وعلاوة على ذلك، وعلى الرغم من الاتفاقات على الحد من المراقبة العسكرية، واصلت إسرائيل المراقبة الجوية والبرية لقطاع غزة، واستمرّت بالضغط على السكان المنهَكين بالفعل. وفي خطوةٍ تهدف إلى مزيد من السيطرة على شروط وقف النار، أمرت حكومة نتنياهو بإغلاق جميع نقاط الدخول والخروج من وإلى غزة بشكل كامل، ما أدى إلى تكثيف معاناة المدنيين واستخدام الحصار كوسيلةٍ لإجبار المقاومة الفلسطينية على قبول شروطها التي تُمْليها لتمديد المرحلة الأولى.

إن العواقب الإنسانية لهذا الإغلاق كارثية. إذ في ظل عدم القدرة على الوصول إلى الغذاء والمياه النظيفة والإمدادات الطبية والمساعدات الإنسانية الأساسية، تدهورتْ الظروفُ المعيشية المزرية بالفعل في غزة بشكل أكبر. فالمستشفيات، التي تعمل بموارد محدودة بسبب القصف والحصار السابقين، غير قادرة على علاج الجرحى، ما يؤدي إلى زيادة حصيلة القتلى من الإصابات والأمراض التي يمكن الوقاية منها.

ويتفاقم سوء التغذية والجفاف، خصوصاً بين الأطفال، مع ازدياد نقص الغذاء. وفي ظل عدم القدرة على المغادرة أو تلقي المساعدات، أصبح سكان غزة محاصَرين وفريسة أزمةٍ إنسانية قسرية تتعمق مع كل يومٍ يمر. وقد حوّل الحصار الجيبَ إلى سجن خانق في الهواء الطلق حيث يتعرّض المدنيون للعقاب الجَماعي بسبب المناورات السياسية الإسرائيلية.

هل يستطيع نتنياهو فرْضَ هذا بلا أميركا؟

في حين تتصرف إسرائيل بدرجة عالية من التصرف الذاتي، فإن المدى الذي يمكنها من خلاله تَحَمُّل مثل هذه التدابير المتطرفة - خصوصاً الإغلاق الكامل لغزة - يَعتمد على الموافقة الضمنية أو على الأقل عدم وجود معارضة من الولايات المتحدة. وتاريخياً، لعبت واشنطن دور المُمَكِّن والكابح والداعم والشريك عندما يتعلّق الأمر بالأعمال العسكرية الإسرائيلية. وفي هذه الحالة، أعطى الدعمُ العسكري والدبلوماسي الثابت من إدارة ترامب الغطاءَ السياسي الذي يحتاج إليه نتنياهو لتنفيذ سياسات عدوانية دون خوف من العواقب.

وتشمل الموجة الأخيرة من المساعدات العسكرية الأميركية 4 مليارات دولار من المساعدات العاجِلة، التي وافَقَ عليها وزير الخارجية ماركو روبيو، لتجديد مخزون إسرائيل من الذخائر الموجَّهة بدقة. وفي فبراير الماضي، أقرّت الإدارةُ صفقةَ بيع أسلحة بقيمة 7.4 مليار دولار، لتسليم كميات كبيرة من القنابل وأنظمة توجيه الصواريخ وصمامات المدفعية للجيش الإسرائيلي. بالإضافة إلى ذلك، تمت الموافقة على حزمة أخرى بقيمة 3 مليارات دولار، لتزويد إسرائيل بأكثر من 35500 قنبلة ورأس حربي، إلى جانب جرافات مدرعة، تُستخدم بشكل متكرر لهدم المنازل والبنية التحتية الفلسطينية.

ومن خلال الفشل في صد الحصار، فإن واشنطن، في الواقع، تعطي الضوء الأخضر لانتهاكات إسرائيل المستمرة. ومن دون الدعم المالي والعسكري الأميركي، ستكافح إسرائيل للحفاظ على عملياتٍ مطوَّلة بهذا الحجم. وتعزز المساعدات العسكرية البالغة 12 مليار دولار التي وافقت عليها إدارة ترامب موقف نتنياهو، وتضمن حصولَه على الأسلحة والمَوارد لمواصلة الحصار، والحفاظ على الهجمات العسكرية، والتلاعب بمفاوضات وقف النار لمصلحته.

ويشير قرارُ إدارة ترامب بتجاوز الرقابة من الكونغرس في الموافقة على شحنات الأسلحة الطارئة إلى أنها على استعداد لدعم سياسات إسرائيل دون تحميلها المسؤولية عن الانتهاكات الإنسانية.

وما دامت الولايات المتحدة تمتنع عن ممارسة الضغوط الديبلوماسية على نتنياهو لإنهاء الحصار والانتقال إلى المرحلة الثانية، فإن إسرائيل ستستمر في إملاء شروط الاشتباك من جانب واحد. وعدم التدخل الأميركي لا يشجّع نتنياهو فحسب، بل يضعف أيضاً الجهود الديبلوماسية الدولية للتفاوض على حلّ عادل ودائم. وفي الأساس، يستطيع رئيس الوزراء الإسرائيلي التصرف مع الإفلات من العقاب لأن واشنطن تسمح له بذلك.

تأخير المرحلة الثانية: لعبة سياسية استراتيجية

بموجب الاتفاق الأصلي، كان من المقرَّر أن تبدأ المرحلة الثانية من وقف النار أمس الأحد، ما يسهل المزيدَ من تبادل الأسرى والانسحاب المحتمَل للقوات الإسرائيلية. ولكن نتنياهو يرفض الانتقال إلى هذه الخطوة التالية، ويشترط إطلاق سراح 30 أسيراً إسرائيلياً.

ومن خلال إعادة تعريف إطلاق سراح هؤلاء الأسرى الإضافيين كجزءٍ من المرحلة الأولى، يَضمن رئيس الوزراء الإسرائيلي بقاء الأسرى الآخَرين في غزة، وبالتالي إطالة أمد الوجود العسكري الإسرائيلي واستغلال الرهائن كأداة سياسية لتبرير العمليات المستمرّة. ويَسمح هذا التكتيك لإسرائيل بكسب الوقت مع تجنب أي التزامات ملموسة لتهدئة هجومها.

بالإضافة إلى ذلك، فإن اقتراح نتنياهو يتطلب من المقاومة الفلسطينية إطلاق سراح جميع الأسرى الإسرائيليين مع تَرْك غزة تحت الحصار، والاستسلام فعلياً لحكومة إسرائيلية يمينية متطرفة دعت علناً إلى تدميرها. ومن شأن قبول مثل هذه الشروط أن يرقى إلى الانتحار السياسي للمقاومة الفلسطينية، ما يجعلها عاجزة عن الدفاع عن نفسها ضد العدوان الإسرائيلي في المستقبل.

مغامرة نتنياهو السياسية: التأخير من أجل البقاء

إن إحجام نتنياهو عن المضي قدماً في المرحلة الثانية ليس مجرد تكتيك عسكري بل عنصر حاسم في استراتيجيته للبقاء السياسي. ذلك أن أي مناقشة لإنهاء الحرب قد تؤدي إلى انهيار ائتلافه الحاكم الهش، وخصوصاً بعدما هدد وزير المال بتسلئيل سموتريتش بالاستقالة إذا تَقدم وقف النار إلى حد الانسحاب العسكري الإسرائيلي من غزة. وإذا غادر سموتريتش الآن، فإن حكومة نتنياهو ستكون معرّضة لخطر الانهيار قبل الموافقة على الميزانية المالية الإسرائيلية، وهي مرحلة حاسمة من المقرّر أن يتم إجراؤها الشهر المقبل.

ومن خلال إطالة أمد وقف النار لمدة شهر آخَر على الأقل، يَضمن نتنياهو تمرير الميزانية، واستقرار حكومته حتى لو استقال سموتريتش في نهاية المطاف. وبالتالي، فإن التأخير ليس مجرد إستراتيجية عسكرية، بل هو مناورة سياسية محسوبة لكسب الوقت وتَجَنُّب الانتخابات والحفاظ على السيطرة على ائتلافه المنقسم على نحوٍ متزايد.

وتثبت الانتهاكاتُ الإسرائيلية المستمرة لاتفاق وقف النار، ورفض تل أبيب الانتقال إلى المرحلة الثانية، وتكتيكات المماطلة الإستراتيجية التي تنتهجها، أن نتنياهو لا يسعى إلى حلّ مستدام. بل إنه يتلاعب بوقف النار من أجل كسب النفوذ السياسي، مستخدماً مفاوضات الرهائن كأداة للحفاظ على العدوان العسكري وتأخير عدم استقرار الحكومة.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي