خطة ترامب الخيالية لنقل غزة: كارثة قانونية وسياسية وإنسانية



تشكّل الخطة المثيرة للجدل التي طرحها الرئيس دونالد ترامب لنقل مليونيْ فلسطيني من غزة إلى مصر والأردن ودول أخرى بهدف إعادة بناء غزة بعد «إفراغها» من سكانها الأصليين، انتهاكاً خطيراً للقانون الدولي ومعايير حقوق الإنسان، وتثير أسئلة مُلِحّة حول جدواها وعواقبها السياسية على المنطقة.
وإذا تم تنفيذها، فستكون هذه الخطة واحدة من أكثر حالات التهجير القسري والتطهير العرقي فظاعة في التاريخ الحديث، ما يستوجب إدانة واسعة النطاق ويشكّل مَخاطر جسيمة على الاستقرار الإقليمي والعالمي.
وعلى الرغم من المعارضة الدولية الساحقة، تواصل الولايات المتحدة الوقوفَ إلى جانب إسرائيل في دعم خطة ترامب التي تَعكس تَحَوُّلاً إضافياً في السياسة الخارجية الأميركية يَنْحو أكثر نحو الأحادية وتَجاهُل المَعايير الدولية كما تعبّر عن تهوُّر أقلّه في عدم مراعاة استقرار دولٍ مثل مصر والأردن (الحليفتان لواشنطن) اللتين رَفَضَتا بشكل قاطع أي محاولة لاستيعاب أعداد كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين، خوفاً من عواقب سياسية واقتصادية وأمنية خطيرة.
لكن العقبة الأكبر أمام خطة ترامب هي الشعب الفلسطيني نفسه. إذ يُظْهِر تاريخُ صمود الفلسطينيين رفضاً ثابتاً للتخلي عن أرضهم، بغض النظر عن الصعوبات التي يفرضها الاحتلال والحصار.
ويَعتبر هؤلاء حقهم في العودة والبقاء في غزة غير قابل للتفاوض، ومتجذّر بعمقٍ في هويتهم الوطنية وروابطهم التاريخية بالأرض. وأي محاولة لإجبارهم على المنفى ليست انتهاكاً للقانون الدولي فحسب، بل إنها أيضاً سوء فهم عميق لعزيمتهم ومقاومتهم. وقد أظهر الفلسطينيون مراراً وتكراراً أنهم لن يتركوا وطنهم، مهما كانت الصعوبات.
وعلاوة على ذلك، فإن نقل مليوني شخص يتطلب موارد هائلة وبنية أساسية وتنسيقاً دولياً، وهو ما لا وجود له. وبالتالي فإن خطة ترامب ليست فشلاً أخلاقياً فحسب، بل إنها أيضاً سوء تقدير إستراتيجي يتجاهل الصمود الفلسطيني والديناميات السياسية الهشة في الشرق الأوسط. ومن خلال محاولة تهجير الملايين، تخاطر الولايات المتحدة بتنفير حلفائها، وتأجيج التوترات الإقليمية، وإرساء سابقة خطيرة لحل الصراع الدولي.
غرب منقسم
إن المجتمع الدولي، بما في ذلك منظمات حقوق الإنسان الرئيسية وهيئات الأمم المتحدة، متّحد في معارضة الخطة الأميركية - الإسرائيلية. وقد أصدر كل من الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة، وهما حليفان تقليديان للولايات المتحدة، بياناتٍ قويةً ضد اقتراح ترامب، وأكدا معارضتهما لعدم الالتزام بالقانون الدولي، وعبّرا عن مخاوف في شأن زعزعة الاستقرار في المنطقة.
وقد دعم الاتحاد الأوروبي باستمرار حل الدولتين على أساس القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة. وتقوّض خطة ترامب «لإفراغ» غزة من سكانها الأصليين هذا الإطار بشكل مباشر. ودان القادة الأوروبيون الاقتراح ووصفوه بأنه «غير مقبول»، محذرين أن من شأنه يؤدي إلى تصعيد التوترات وعرقلة الجهود الجارية لإيجاد حل سلمي.
وفي المملكة المتحدة، خالَف رئيس الوزراء كير ستارمر بوضوح واشنطن من خلال التأكيد على التزام المملكة المتحدة بتقرير المصير الفلسطيني وإعادة إعمار غزة. وقال إنه يجب السماح للفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم وإعادة بناء حياتهم، وان المجتمع الدولي يجب أن يعمل معهم من أجل حل الدولتين، ما يشير إلى التزام لندن بدعم الفلسطينيين بدل دعم سياسة التهجير.
وكان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش واضحاً في إدانته لخطة ترامب، مؤكداً أن التهجير القسري هو انتهاك صارخ للقانون الدولي. وكرر موقف الأمم المتحدة الراسخ بأن غزة جزء لا يتجزأ من الأراضي الفلسطينية المحتلة وأن أي محاولة لنقل سكانها قسراً تشكل انتهاكاً لاتفاقية جنيف الرابعة. كما شدد على أن «السلام والاستقرار في المنطقة لا ينبغي أن يتأثرا بالصراعات في المنطقة»، معتبراً أن تنفيذ اقتراح ترامب من شأنه أن يزعزع استقرار المنطقة، ويؤجج الصراعات ويشكل سابقة خطيرة في معاملة السكان المحتلين في جميع أنحاء العالم.
وقد عكست تعليقات غوتيريش إجماعاً أوسع في الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث رفضت الدول الأعضاء الخطة بغالبية ساحقة. وعلى الرغم من هذه الإدانة العالمية، تواصل الولايات المتحدة الوقوف إلى جانب إسرائيل، ما يزيد من عزلتها عن المجتمع الدولي ويسلّط الضوء على الخلاف المتزايد بين واشنطن وحلفائها التقليديين.
انتهاك القانون الدولي
تحظر المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة (1949) صراحةً النقل القسري للمدنيين المحميين من منازلهم: «يُحظر النقل القسري الفردي أو الجماعي، وكذلك ترحيل الأشخاص المحميين من الأراضي المحتلة إلى أراضي القوة المحتلة أو إلى أراضي أي دولة أخرى، محتلة أو غير محتلة، أيا كان الدافع».
واقتراح ترامب ينطبق عليه الطرد القسري، حتى لو تمت صياغته على أنه «طوعي». ومن شأن التدمير المتعمّد للبنية التحتية في غزة، إلى جانب الظروف المعيشية غير المحتملة التي فرضها الحصار والهجمات العسكرية والانهيار الاقتصادي الكامل، أن يترك الفلسطينيين بلا خيار حقيقي سوى المغادرة.
وعلاوة على ذلك، يكرّس قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم التي نزحوا عنها خلال نكبة عام 1948. وتالياً فإن أي محاولة لإبعاد الفلسطينيين بشكل دائم عن غزة تقوّض هذا الحق المعترَف به دولياً وتزيد من المخاوف من نكبة ثانية.
ويمكن تفسير خطة ترامب على أنها شكل من أشكال التطهير العرقي، والذي يُعرَّف بأنه الإزالة المتعمّدة لمجموعة عرقية أو دينية من منطقة معينة. ويُعتبر هذا النوع من التطهير جريمة ضد الإنسانية بموجب القانون الجنائي الدولي. والتركيز في الاقتراح على «إفراغ» غزة من سكانها الأصليين يتطابق مع هذا التعريف.
تهديد مزعزع للاستقرار لمصر والأردن
رفضت كل من مصر والأردن بشكل قاطع أي خطط لاستضافة أعداد كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين. وتستند معارضتهما إلى مخاوف تاريخية وسياسية وأمنية عميقة. فالتدفق المفاجئ لملايين الفلسطينيين لن يرهق الموارد فحسب، بل قد يهدّد استقرارهما أيضاً.
بالنسبة لمصر، فإن إعادة توطين الفلسطينيين في شبه جزيرة سيناء من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم المخاطر الأمنية القائمة. فمنطقة سيناء تعاني بالفعل من الإرهاب، وإضافة ملايين النازحين الفلسطينيين من شأنها أن تزيد من زعزعة استقرار المنطقة. وقد خاضت القاهرة معركة طويلة ضد الجماعات التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية وغيرها من المسلّحين العاملين في سيناء، وسيؤدي إدخالُ نازحين لا يحملون جنسية إلى إيجاد أزمة دائمة.
وبالنسبة للأردن، فإنه يستضيف عدداً كبيراً من الفلسطينيين، حيث تشير بعض التقديرات إلى أن أكثر من نصف مواطنيه من أصل فلسطيني. وقد اعتمدت عمان منذ فترة طويلة على الحفاظ على توازن دقيق بين القبائل الأردنية واللاجئين الفلسطينيين. ومن شأن إضافة ملايين اللاجئين أن تغيّر بشكل جذري التوازن الديموغرافي في البلاد. وعلاوة على ذلك، روجت إسرائيل منذ فترة طويلة لفكرة أن الأردن يجب أن يصبح دولة فلسطينية، وهي الفكرة التي يعارضها الأردنيون بشدة. وقد يؤدي اقتراح ترامب إلى إحياء هذه المخاوف.
الرفض الفلسطيني للنقل
رفض الشعب الفلسطيني بشكل قاطع أي اقتراح بترك أرضه مهما كانت الظروف سيئة. وعلى الرغم من 75 عاماً من النزوح، ظل اللاجئون الفلسطينيون يناضلون من أجل حقهم في العودة بدل قبول المنفى الدائم. وحتى بعد عدة حروب وهجمات عسكرية إسرائيلية، أعاد الفلسطينيون في غزة بناء منازلهم، مُظْهِرين تصميمهم على البقاء على أرضهم. وتظل الذاكرة الجَماعية للنكبة قوةً دافعة، ويَعلم الفلسطينيون أن قبول النزوح القسري يعني التخلي عن حقهم في العودة.
إن خطة ترامب تتجاهل الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني. كما أنها غير قابلة للتنفيذ، نظراً للمعارضة القاطعة من جانب مصر والأردن ومقاومة الفلسطينيين الثابتة لأي محاولة لإبعادهم بالقوة عن أرضهم.
ومن خلال اقتراح «إعادة بناء» غزة بعد «إفراغها» من شعبها، فإن خطةَ ترامب تحوّل مأساة إنسانية معقّدة إلى مشروع عقاري، متجاهلة الروابط التاريخية والثقافية والعاطفية العميقة التي تربط الفلسطينيين بأرضهم. وفي نهاية المطاف، فإن صمود الشعب الفلسطيني وتصميمه سيجعل مثل هذه الخطط عقيمة... لن يتم إخلاء غزة، ولن تتمكن أي قوة قهرية أو عنف أو مناورة سياسية من محو وجود الفلسطينيين في وطنهم.