تأجيج اللهب: إسرائيل وأميركا تقوّيان عزيمة الفلسطينيين بـ... الترحيل

فلسطينيون عائدون من جنوب غزة إلى شمال القطاع (أ ف ب)
فلسطينيون عائدون من جنوب غزة إلى شمال القطاع (أ ف ب)
تصغير
تكبير

طوال عقود من الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، كانت سياسة الترحيل والتهجير القسري أداة مركزية تستخدمها إسرائيل لقمع المقاومة.

ومع ذلك، فقد أظهر التاريخ أن مثل هذه التدابير غير القانونية غالباً ما يكون لها التأثير المعاكس، مما يمكّن القادة والمنظمات المنفية من العمل على تعاظم حضور القضية الفلسطينية على الساحة العالمية.

اليوم، يسعى الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى إستراتيجيات لا تنتهك القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة فحسب، بل تعكس أيضاً هذه الأخطاء التاريخية، وتؤدي عن غير قصد ليس إلى استمرار النضال الفلسطيني فحسب، بل إلى نموه قوة وعزيمة.

ما تفشل كل من الولايات المتحدة وإسرائيل في إدراكه هو التصميم العميق الجذور للشعب الفلسطيني، الذي يفضل الموت على مواجهة نزوح قسري آخر على غرار نكبة عام 1948.

هذا التمسك الثابت بأرضه يجعل النزوح ليس فقط انتهاكاً لحقوقه، بل وأيضاً إهانة لتاريخه وهويته.

رداً على اقتراح ترامب الأخير بنقل الفلسطينيين من غزة إلى مصر والأردن، أصدرت حركة «حماس» إدانة شديدة لهذا التوجه وأكدت «إن الشعب الفلسطيني الذي ظل صامداً في وجه أبشع أعمال الإبادة الجماعية في العصر الحديث -التي ارتكبها جيش الاحتلال الصهيوني الفاشي- رفض الاستسلام لجرائم التهجير القسري، خصوصاً في شمال قطاع غزة»، مشيرة إلى أن «شعبنا يرفض رفضاً قاطعاً أي مخططات لتهجيره وطرده من أرضه».

إن هذا الرفض القاطع للتهجير القسري يؤكد إصرار الشعب الفلسطيني على البقاء على أرضه رغم المشقة الهائلة.

وبدلاً من البحث عن حلول من خلال مقترحات تقوض الحقوق الفلسطينية، لا تركز الولايات المتحدة على تمكين الفلسطينيين ودعم تطلعاتهم المشروعة ومحاسبة إسرائيل على عدوانها المستمر وانتهاكاتها للقانون الدولي.

فترامب كثف جهوده للضغط على دول عدة لاستيعاب الفلسطينيين من غزة والضفة الغربية، بهدف تسهيل هجرة واسعة النطاق.

وعلق وزير الأمن الإسرائيلي السابق اليميني المتطرف، إيتمار بن غفير «عندما يقترح رئيس أقوى دولة في العالم الهجرة الطوعية (الترحيل) للفلسطينيين، يجب على الحكومة الإسرائيلية تشجيعها وتنفيذها».

ومع ذلك، رفض وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي بشدة أي مقترحات من هذا القبيل وأدان محاولات فرض هجرة فلسطينية.

وقال «الأردن للأردنيين وفلسطين للفلسطينيين»، مؤكداً رفض الأردن قبول أي سياسة تقوض السيادة الفلسطينية أو الهوية الفلسطينية.

كما أعربت مصر عن رفضها قبول المزيد من اللاجئين الفلسطينيين.

إن نهج ترامب المتمثل في الدعوة في الوقت عينه إلى هجرة قسرية من غزة مع دعم وقف إطلاق النار وانسحاب قوات الاحتلال من القطاع متناقض بطبيعته ويسلط الضوء على عدم التوافق الأساسي بين هذين الهدفين.

ففي حين يهدف وقف إطلاق النار إلى تهدئة العنف وتمهيد الطريق لسلام دائم، فإن إسرائيل لن تقبل أي حل سياسي.

إن تشجيع تهجير الفلسطينيين يتعارض مع هذه الأهداف ويزيد من حدة التوترات في المنطقة، في حين أن وقف إطلاق النار يهدف إلى الحد من الأعمال العدائية، واستقرار الوضع، وقيام الظروف الملائمة للسلام.

من هنا فإن الدعوات إلى التهجير الجماعي تشير إلى سوء النيات، مما يجعل تجدد العنف أمراً محتمل.

فالغرض من الإنسحاب هو استعادة السيادة الفلسطينية على غزة، ولكن الترويج لطرد الفلسطينيين الذين من المفترض أن يعيشوا هناك يقوض هذا الهدف تماماً. وإذا تم طردهم، فإن منطق الانسحاب ينهار.

وعلاوة على ذلك، فإن الدعوة إلى التهجير القسري تعمل على إدامة الديناميكيات الأساسية للاحتلال من خلال تعزيز فكرة أن غزة غير قابلة للإدارة أو غير صالحة للسكن من شعبها.

كما يسلط نهج ترامب الضوء على التناقضات القانونية والأخلاقية الصارخة.

فبموجب القانون الدولي، بما في ذلك اتفاقية جنيف الرابعة، فإن التهجير القسري للمدنيين تحت الاحتلال يشكل انتهاكاً خطيراً.

ومما لا شك فيه أن عواقب مثل هذه السياسة ستمتد إلى ما هو أبعد من غزة، مما يتسبب بأزمة إنسانية حادة ويزعزع استقرار المنطقة بأكملها.

فإجبار الفلسطينيين على الانتقال إلى دول مجاورة من شأنه أن يؤجج التوترات الإقليمية ويجهد العلاقات الدبلوماسية، مما يجعل من المستحيل تقريباً التوفيق بين سياسات التهجير وجهود السلام الإقليمية الأوسع نطاقاً.

تاريخياً، عزز التهجير القسري عزم الفصائل الفلسطينية وحلفائها من خلال تزويدهم بسرديات إضافية عن الضحية والظلم لحشد الدعم.

وبدلاً من إضعاف القضية الفلسطينية، فسياسة التهجير القسري من شأنها بالتأكيد أن تزيد من تطرف السكان وتؤدي إلى جهود مقاومة أكثر توحيداً، مما يجعل وقف إطلاق النار بلا معنى.

كما تكشف سياسات ترامب عن تناقضات سياسية وإستراتيجية تخاطر بتنفير أصحاب المصلحة المتعددين. إن الحلفاء الغربيين والمنظمات الدولية الملتزمة بحل الدولتين سيرون أن النزوح القسري يتعارض مع السلام والاستقرار. ومن شأن هذا التناقض أن يضعف صدقية الولايات المتحدة كوسيط في الصراع ويقوض الثقة في دورها.

ومن خلال محاولة تحقيق التوازن بين هذه الأهداف المتضاربة، يضعف ترامب قدرة إدارته على تقديم إستراتيجية متماسكة وقابلة للتطبيق لمعالجة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

وفي نهاية المطاف، فإن اتباع سياسة التشجيع على هجرة الفلسطينيين في حين تدعم وقف إطلاق النار والانسحاب الإسرائيلي من غزة يُظهِر افتقاراً أساسياً إلى فهم تعقيدات الصراع.

ولا يمكن لهذين الهدفين أن يتعايشا، لأن أحدهما يجهز على الآخر في جوهره.

ومن هنا يتعين على جهود السلام الحقيقية أن تحترم السيادة الفلسطينية وتعالج الأسباب الجذرية للصراع، وليس إدامة النزوح وعدم الاستقرار، وتالياً فإن نهج ترامب الحالي يسلط الضوء على مخاطر الإستراتيجيات غير المتماسكة، لأنه لا يخاطر فقط بزعزعة استقرار غزة، بل ويعمق أيضاً انعدام الثقة الإقليمي والعالمي في قدرة الولايات المتحدة على المساهمة في التوصل إلى حل دائم.

لقد ضاعف نتنياهو - الذي يخضع لقرار الاعتقال من قبل المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب - جهوده لترحيل السجناء الفلسطينيين كجزء من إستراتيجيته الأوسع ضد حركات المقاومة. وتم أخيراً إطلاق العشرات من الفلسطينيين الذين يقضون أحكاماً بالسجن المؤبد في تبادل الأسرى ليتم ترحيل عدد منهم خارج إسرائيل.

سوابق تاريخية

لقد أثبت الترحيل باستمرار أنه سيف ذو حدين بالنسبة إلى إسرائيل، حيث غالباً ما يحول القادة الفلسطينيين المنفيين إلى منظمين أكثر فعالية ويجعلهم رموزاً قوية للمقاومة.

توضح تجارب شخصيات بارزة مثل ياسر عرفات وجورج حبش وأبوإياد وغيرهم كيف كان المنفى تاريخياً يغذي ويعزز القضية الفلسطينية.

لقد تكونت قيادة عرفات في شكل عميق من خلال فترات نفيه القسري كزعيم لمنظمة التحرير الفلسطينية.

وعلى نحو مماثل، أسس حبش، الذي طُرد من فلسطين أثناء النكبة في عام 1948، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في المنفى.

ولقد لعب صلاح خلف، المعروف بأبوإياد، دوراً محورياً في تطوير منظمة التحرير الفلسطينية. وهو أحد الأعضاء المؤسسين لحركة «فتح»، وبعد نفيه من فلسطين.

وتم نفي الشيخ أحمد ياسين، مؤسس حركة «حماس»، إلى لبنان عام 1991.

وشهد فتحي الشقاقي، مؤسس حركة «الجهاد الإسلامي» الفلسطينية، مساراً مماثلاً. إذ تم ترحيله إلى لبنان في 1988، واستخدم المنفى لتعزيز القاعدة الإيديولوجية والعملياتية لحركته.

إن الترحيل الجماعي لأكثر من 400 ناشط من «حماس» و«الجهاد» إلى مرج الزهور في جنوب لبنان عام 1992 يؤكد في شكل أكبر على العواقب غير المقصودة لمثل هذه السياسات.

فبدلاً من إضعاف هذه المجموعات، فقد شكل هذا الحدث نقطة.

الترحيل كمحفز للمقاومة

ربما تنطوي الإستراتيجيات التي ينتهجها ترامب ونتنياهو على مزايا تكتيكية موقتة، لكنها تفشل في معالجة الحقائق الطويلة الأجل للنضال الفلسطيني.

فمن خلال ترحيل القادة أو إجبار الفلسطينيين على الخروج إلى المنافي، فإنهم يخاطرون بولادة جيل جديد من الناشطين والمقاتلين الذين سيستمرون في الدفاع عن القضية.

وبعيداً عن إطفاء الروح الفلسطينية، تضمن هذه السياسات بقاء النضال حياً -سواء داخل فلسطين أو في الشتات.

وكما أظهر التاريخ، فإن مرونة القضية الفلسطينية لا تتجذر في الأرض فحسب، بل وأيضاً في التصميم الثابت لشعبها، أينما كانوا.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي