تكليفٌ مرموق بـ84 صوتاً من 128 نائباً
نواف سلام رئيساً لحكومة لبنان... فهل يمرّ التأليف بسلام؟
كُلف رئيس محكمة العدل الدولية القاضي نواف سلام، تشكيلَ الحكومة الأولى له، وفي عهد الرئيس اللبناني العماد جوزف عون، في تطورٍ بدا بمثابة «إنزال» سياسي خلْف سيناريو كان راجِحاً حتى بعد انطلاق الاستشارات النيابية المُلْزِمة ونام معه رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي على حرير معاودة تسميته، قبل أن تُفْرِز الدينامية الداخلية مفاجأةً مدوّية سرعان ما تركت تشظيات أوحت بأن البلاد قد تكون على عتبة أزمةٍ سياسية رغم التَجَرُّع الاضطراري للثنائي الشيعي، (رئيس البرلمان نبيه بري و«حزب الله») لخسارةٍ ثقيلة ذات بُعد داخلي وإقليمي في ضوء ما اعتبره الحزب «كميناً».وكلمة «كمين» التي استخدمها رئيس كتلة نواب «حزب الله» محمد رعد من قصر بعبدا، جاءت تعبيراً عما شهده لبنان في ساعاتٍ بقيت فيها الاتصالاتُ في مختلف الاتجاهات، حتى بدء الاستشارات وخلالها، وساهمتْ في قلْب الصورة رأساً على عقب، بعدما كان الثنائي الشيعي وحلفاؤه مرتاحين إلى أن ميقاتي عائد بضمانةِ عددٍ وازن من الأصوات التي تستفيد من خوض المعارضة المعركة بالنائب فؤاد مخزومي، وبما لا يتيح له أن يشكل نقطة تقاطُع عابرة حتى للاصطفافات وتَضمن هزيمة الرئيس الحالي للحكومة، وضمانةٍ خارجية جرى الترويج أنها قائمة ومن نتاجِ التوافق الذي أفضى إلى التحاق بري والحزب بـ 71 صوتاً صبّوا لمصلحة العماد عون كرئيسٍ للجمهورية (في الدورة الأولى) وإكمالهم رقم الـ 86 وما فوق المطلوب (99) لانتخابٍ غير قابلٍ لأي طعن دستوري.لكن اطمئنانَ الليل سرعان ما مَحاه النهار، الذي بالكاد أطلّ حين أعلن مخزومي انسحابَه «إفساحاً للتوافق على تسميةِ القاضي سلام»، ليبدأ مسارٌ مختلفٌ تماماً تَعَمَّقَتْ مؤشراتُه قبيل انتهاءِ الجولةِ الأولى من الاستشارات (انتهتْ ظهراً)، في ظلّ ورود إشاراتٍ إلى خروج «كتلٍ مرجّحة للكفّة» من دائرةِ إما الرمادية في الموقف وإما التريث، خصوصاً «اللقاء الديمقراطي» (برئاسة النائب تيمور وليد جنبلاط ويضم 8 نواب) و«لبنان القوي» (برئاسة النائب جبران باسيل ويضمّ 13 نائباً)، ما عزّز في شكلٍ كبير حظوظَ رئيس محكمة العدل الدولية لتشكيل الحكومة كعنوانٍ مكمّل لمؤشرات التغيير، بمعانيه المحلية والخارجية، التي عبّر عنها انتخاب قائد الجيش رئيساً، الخميس الماضي.84 نعم لسلاموحتى قبل ساعتين من انتهاءِ الاستشاراتِ بـ 84 نعم لسلام و35 لا تسمية و9 أصواتٍ لميقاتي، كانت حُسمتْ نتيجتُها لمصلحةِ سليل العائلة السياسية العريقة والمتمرّس في القانون والدبلوماسية (مواليد 15 ديسمبر 1953) منذ أن تَجاوَزَ عدد النواب الذين سموّه 65 صوتاً أي النصف زائد واحد، وهو ما أنْهى رسمياً حظوظ ميقاتي، ليتوالى بعدها «انهيار» ما كان يُعتقد أنه جبهة داعِمي الرئيس الحالي للحكومة بتقاطُع مع الثنائي الشيعي، وبينهم تكتلات سنية، ويتوقّف العداد الداعم لميقاتي عند الرقم 9 على عكس كل التوقعات التي كانت تشير إلى معركة متقاربة.ولا شك في أن استشارات التكليف التي جرت أمس انطبعت بمجموعة خلاصات أبرزها:- أنها اتّسمت بطابع لبناني طغى على إدارتها وفق ديناميةٍ نسفت كل الترويج لـ «بروتوكولات جانبية» لانتخاب عون تضمّنت التزاماتٍ بإبقاء ميقاتي في رئاسة الحكومة، وهو ما كان سيَعني لو صحّ أن الخارج الذي ضَغَطَ بقوةٍ وفي كل الاتجاهاتِ لإنجاز الاستحقاق الرئاسي في 9 يناير وفق خيار عون سيكرّر التمني الضاغط نفسه على حلفاء له (في المعارضة) للسير بالرئيس الحالي للحكومة، الأمر الذي لا يمكن تَصَوُّره، وتالياً يعزّز الاقتناع بأن ما سُمّي ضماناتٍ جانبية أثيرت على هامش اتصالات الساعات الأخيرة قبل جلسة الخميس الماضي الرئاسية، لم يكن نعم لإبقاء ميقاتي على طريقة الدفع لتعبيد طريقه مجدداً الى السرايا بمقدار ما أنه عدم وجود «لا» على عودته وأن هذا الأمر يبقى في عهدة اللعبة الداخلية وتوازناتها.مرسوم تكليف- ان تسمية سلام، الذي أصدر الرئيس عون مرسوم تكليفه ولم يتوجّه الى قصر بعبدا كونه موجودا في لاهاي وسيعود اليوم، قوبلت بفرحة شعبية كبيرة، هو الذي بدأ طرح اسمه منذ انتفاضة اكتوبر 2019 كعنوانٍ لمرحلة إصلاح سياسي ومالي واقتصادي وتصدّ للفساد المستشري، وصولاً لاعتبار البعض أن تكليفه، الذي يُلاقي روحية خطاب القسَم، هو بمثابة تجديد لهذه الانتفاضة و«ثورة بيضاء» في السرايا وإكمال لـ «دومينو» تغيير متسارع حقق قفزتين نوعيتين في 4 أيام.- ان التقاطعاتِ على تسمية سلام والتي أدارتْها المعارضة بحنكةٍ وبشبْكٍ مع التغييريين والمستقلين، وأتاحت انضمامَ تكتل «لبنان القوي» و«اللقاء الديمقراطي» بعدما تحوّل خيار سلام جدياً وينطلق من كتلة أصوات صلبة، انطوتْ على اعتباراتٍ ذاتية مثل رغبة باسيل في تكريس «صفحة جديدة» مع عهد عون، وفي الوقت نفسه الانضمام إلى توافق يرتكز على مزاج عارم في الشارع مال بقوةٍ نحو أن يكون بروفايل رئيس الحكومة مشابها لرئيس الجمهورية وإلا انتكس «الحلم بالتغيير» الذي عبّر عنه خطاب القَسَم.وبهذا المعنى، فإن باسيل «أصاب عصفورين بحجر واحد»، عاود معه الربط وإن بحد أدنى مع العهد، وحَجَز له مكاناً ربما في التركيبة الجديدة وربما الحكومة ولو عن بُعد في ضوء تسليمٍ بأن سلام لن يكون في وارد استعادة تجربة المحاصصة في حكومات «تقاسُم الكعكة».أما اللقاء الديمقراطي، فكرّسَ عبر اتجاهُه في الساعات الأخيرة نحو خيار سلام، دوره كـ «بيضة قبان» وكحزب (التقدمي الاشتراكي) يصرّ رئيسه الشاب تيمور على محاكاة القاعدة وتوجّهاتها، وهو المسار الذي يباركه الزعيم الدرزي وليد جنبلاط.«البطاقة الصفراء»- ما يشبه «البطاقة الصفراء» التي رَفَعها «حزب الله» بعيد انقشاع الرؤية على فوزٍ محسوم لسلام، وإبلاغه القصر الجمهوري إرجاء توجُّه كتلته إليه لتسمية الرئيس المكلف حتى اليوم، وهو ما تسبب بحبْس أنفاسِ لنحو ساعة استعيد معها سيناريو «القمصان السود» الذي طبع استشارات يناير 2011 النيابية حين فرض الحزب إرجاءها أسبوعاً بعدما كانت ستُفضي لمعاودة تكليف الرئيس سعد الحريري حينها وإذ بها تنقلب على وهج السلاح لمصلحة ميقاتي.لكن، وفي ظل معلوماتٍ عن اتصالاتٍ حثيثة جرتْ لتفادي إرجاء إعلان نتيجة الاستشارات حتى اليوم ولا سيما أن تأجيلَ موعد كتلة «حزب الله» كان سيُستتبع بسيناريو مماثل لكتلة بري، وأن هذا الأمر سيؤسّس لأزمةٍ سياسيةٍ كبرى ويصوّر الثنائي الشيعي خارج الاجماع الذي تجلّى على تسمية سلام، تنفّست البلاد الصعداء مع عودة الحزب عن هذا التوجه ووصول كتلته إلى القصر الجمهوري.إلا أن كلام رعد بعد اللقاء مع رئيس الجمهورية، عَكَس حجم استياء الحزب مما آل إليه استحقاق تكليف رئيس الحكومة، وإن ترك الباب مفتوحاً، من ضمن «رَبْطِ النزاع»، أمام انتظار ما سيكون عليه أداء سلام وهل سيراعي الميثاقية في تركيبة الحكومة (بامتدادها السياسي)، وسط توقف أوساط سياسية أيضاً عند ما يشبه «عيب الميثاقية» في التكليف الذي عبّرتْ عنه ضمناً كتلة بري من قصر بعبدا، علماً أنها المرة الأولى في جمهورية الطائف تتم تسمية رئيس حكومة بلا أي صوت شيعي (الكتلتان اختارتا عدم تسمية أحد).واعتبرتْ الأوساط أن تَجَرُّع الثنائي الشيعي ما بدا «كأسَ السم» بتكليف سلام، لا يعني بالضرورة أن مرحلة التأليف ستمرّ بسلام.ولم يخرج كلام رعد عن هذا الاستنتاج هو الذي أعلن أنه أبدى خلال لقاء عون «أسفنا لمَن يريد أن يخدش إطلالة العهد التوافقية».وإذ لم يتحدث بري بعد لقائه رئيس الجمهورية لإطلاعه على نتيجة الاستشارات، تحدث النائب أيوب حميد باسم كتلته، معلناً «أنه تمت تهنئة الرئيس عون بثقة المجلس النيابي، آملين أن يكون عند ثقة اللبنانيين جميعاً وأن تكون هناك إيجابية»، مؤكداً «الكتلة لم تسم أياً من الأسماء المطروحة للتداول، لأنه لا يجوز أن يكون هناك تناقض بين الميثاق والعيش المشترك».