جلسة مشهودة بدورتين وبينهما تَشاوُر «تخريج» انعطافة الثنائي الشيعي
جوزف عون رئيس «لبنان الجديد» بتوافق داخلي ومباركة عربية - دولية
- خطابَ القسم أمام البرلمان والسفراء العرب والأجانب خلا من كلمة مقاومة
... الانتخابُ في «ساحة النجمة» والأصداءُ في العالم. وخطابُ القسَم للنواب واللبنانيين و... «ليسمع العالم».
هكذا كان المشهد أمس تحت قبة البرلمان في يوم مشهودٍ من انتخاباتٍ رئاسية ستدخل التاريخَ في وقائع - سابقة، وأنهتْ شغوراً في الكرسي الأولى استمرّ 800 يوم ملأها استعصاءٌ على «الحلّ الذاتي» لبنانياً رشّحَ الاستحقاقَ لبلوغ «ألف ليلة وليلة» فراغ، لولا «النجدة» العربية والدولية التي أعلنتْ «انتهى وقت اللعب» ودقّت ساعةُ استيلادِ انفراجةٍ جاءت في كنفِ التحولات الإقليمية المذهلة وانكماشِ وضعية «حزب الله» وأدوات نفوذه محلياً، وهما عاملان شكّل وهْجُهما «الباب السري» لِما يشبه «افتح يا سمسم» الرئاسي الذي يمهّد للبنان يُلاقي الشرقَ الجديد ومعادلاته المتغيّرة ويحجز له مقعداً حول الطاولة وليس... عليها.
وجاء انتخابُ قائد الجيش العماد جوزف عون الرئيس 14 للجمهورية، في الجلسة رقم 13 للبرلمان (منذ سبتمبر 2022)، على طريقة «ما كُتب قد كُتب» منذ الأربعاء التمهيدي، الذي وَصَلَ ليلَه بفجر الخميس الكبير الذي فَرَك عينيْه على (نهايةٍ بيضاء)، وإن تَعَمَّدَ الرئيس نبيه بري (ومن خلفه حزب الله) إخراجَها بسيناريو الدورتين الذي حفظ له دوراً «مقرِّراً» في تظهير الشراكة بإيصالِ خيارٍ كان مرفوضاً حتى الأمس القريب وتم تجرُّعه بعد تبلور إجماعٍ متعدد الطوائف حوله (انطلق من 71 صوتاً) ارتكز على نصابٍ عربي - دولي مكتمل يدعم هذا الخيار وكان من شأن البقاء خارجه أن يجعلَ الثنائي الشيعي على تَصادُم مع الغطاء المسيحي والسني والدرزي للرئيس الجديد ويتحمّل تبعات تفويت فرصةِ سحْب لبنان «من فم» الفراغ وترْكه بـ «أجنحة متقطّعة» مؤسساتياً وإدارة الظهر لإرادة الخارج بـ«مساعدة اللبنانيين اذا ساعَدوا أنفسهم».
ومنذ أن رنّ الجرسُ في قاعة الجلسات العامة في البرلمان، لم يكن ثمة مجال للتشكيك في مآلاتِ «النهائي الرئاسي» الذي لم يكن فيه إلا مرشح وحيد انتخبه العالم«عنوانَ ثقةٍ» بقدرته على قيادة دفّة العبور بلبنان إلى ضفة الدولة المكتملة العناصر، بالمعنى السيادي والإصلاحي والمؤسساتي، وتحصين شروطِ إنجاحِ اتفاق وقف النار الذي يَضرب موعداً مع محطةٍ خطيرة في 27 الجاري (انتهاء هدنة الستين يوماً)، وسط اقتناعِ الكتل الوازنة وفي مقدّمها قوى المعارضة بأنّ هذا الخيارَ وحده الكفيل بإيصالِ الاستحقاق الرئاسي إلى برّ الأمان الذي عزّزه الاحتضانُ الخارجي الاستثنائي الذي تقاطعتْ فيه اعتباراتٌ عدة، من تحديات حرب لبنان الثالثة التي مازال شبحها يحوم فوق الوطن الصغير، إلى التحوّل الجيو - سياسي في سورية، ومع الحرص على ألا يكون الحلّ مشوباً بعيب الغلَبة، بدليل أن قائد الجيش كان الأوفر حظاً قبل المتغيرات، وخلالها وبعدها.
وعلى وقع حسابات الرابح الأول والخاسر الأول من مجريات انتخاب العماد عون بغالبية 99 صوتاً (من 128)، بدا من الصعب القفز فوق أبعاد الرافعة التي شكّلتْها كل من الرياض وواشنطن بالدرجة الأولى، ثم باريس، ومعها القاهرة والدوحة، لـ «كاسحة الألغام» التي عملت في الساعات الـ 48 الأخيرة بأقصى طاقة، وسط حضور مباشر للأمير يزيد بن فرحان، المكلف الملف اللبناني في الخارجية السعودية، والموفد الفرنسي جان - إيف لودريان لتفكيك آخِر العقبات من أمام التحاق الثنائي الشيعي بخيار قائد الجيش، بفعل نقزة كانت لديه من إدارة «فخامة الجنرال» للملفات بعيداً من أنماط الأسلاف والحاجة إلى ضمانات تتصل بموضوع اتفاق وقف النار وإعادة الإعمار.
وإذ بدتْ الدبلوماسية العربية - الدولية التي انخرطتْ في جهود إنهاءِ الفراغ، امتداداً لدور «مجموعة الخمس حول لبنان»، عرّابة بدء مسار عكْس اتجاه «التايتنيك» اللبنانية نحو جبل النار والانهيار، فإن قوى المعارضة تُعتبر صاحبة الحصة الأكبر في دَفْعِ خيار قائد الجيش نحو قصر بعبدا وتشكيل momentum لا يمكن لقوى الممانعة كسْره، وإن كانت الجهود الخارجية والسرعة التي حدّدتْها لمسار استيلاد الحل، أملت على بعض الأطراف تعديل بعض المقارباتِ والأولويات، في مقابل تحوُّل التيار الوطني الحر بقيادة النائب جبران باسيل، الخاسر الأكبر وربما الوحيد في مخرجات هذا الاستحقاق، هو الذي حرق المراكب منذ أول الطريق مع العماد عون ووجد نفسه بلا أي شريك أو حليف في رفْض تفاهُم يتجاوز بكثير كونه مجرّد انتخاب رئيس ليكون أقرب إلى ممرّ نحو «لبنان الجديد» المتناغم مع الإقليم الجديد.
عاصفة شتائم
ومن خلْف عاصفة الشتائم والسباب والألفاظ النابية بين نوابٍ في البرلمان والتي بدأت بعد تعرُّض النائب سليم عون للنائبة بولا يعقوبيان، على مرأى ومسمع أعضاء السلك الدبلوماسي الذين حضروا الجلسة، لم يتطلّب الأمر وقتاً طويلاً لتفكيك «شيفرة» السابقة التي قام بها بري حين تَرَكَ الدورة الأولى من الانتخاب تَجري بسيناريو تظهير حجم التوافق على خيار قائد الجيش (بمعزل عن نواب الثنائي الشيعي وبعض حلفائه)، وهو ما رسا على الرقم 71، ليعلن بعدها رفْع الجلسة ساعتين لمزيد من التشاور أعقبه التئام الدورة الثانية ونيْل العماد عون 99 صوتاً.
وهذا الفارق هو واقعياً من صنع أوراق بيض اقترع بها نواب حزب الله و»أمل» (27 نائباً) و10 نواب من حلفائهم (إلى جانب صوتين لشبلي الملاط، و14 لـ«سيادة ودستور» و4 ملغاة) في الدورة الأولى، قبل أن يتراجع الثنائي عنها في الدورة الثانية، ليفوز قائد الجيش بغالبية الثلثين (86 صوتاً) وما فوق التي اعتُبرت شَرْطيةً لتَجاوُز المادة الدستورية التي تنصّ على وجوب أن يستقيل موظفو الفئة الأولى وما يعادلها قبل سنتين، باعتبار أن هذه الغالبية تعني عملياً عدم توافر الثلث (أي 43 نائباً) المطلوب لأي طعن بدستورية الانتخاب.
«النقاط المعنوية»
وبين ثنايا الدورتين لاح حرصُ بري على انتزاع ما يشبه النقاط المعنوية التي تعكس أن التوافق ناقص من دون المكّون الشيعي وأن دورَ الأخير كان حاسماً في إكمال النصاب العددي والسياسي والطائفي، بالتوازي مع تسريبات عن أن ساعتيْ التشاور التي أشيع أنه تخللهما لقاء بين ممثلين عن أمل والحزب مع قائد الجيش خلصت إلى تفاهماتٍ حول ملفات عدة، مثل القائد الجديد للجيش والحكومة الجديدة وحتى معادلة «جيش وشعب ومقاومة»، قبل أن يعلن رئيس كتلة نواب الحزب محمد رعد (بعد انتهاء الجلسة) «أردنا من خلال تأخير تصويتنا لفخامة الرئيس أن نوجّه الرسالة بأننا حماة الوفاق الوطني في البلد».
إلا أن خطابَ القسم الذي ألقاه الرئيس عون أمام البرلمان والسفراء العرب والأجانب، خلا من كلمة مقاومة، وجاء نَفَسه مؤسساتياً بامتياز، وبدا مدجَّجاً بعناصر هيبةٍ مستعادة للدولة والشرعية التي اعتُبر أنها هي التي انتُخبت مع قائد الجيش لمرحلةٍ عنوانها استرداد الدولة من الوهن والسقوط.
واعتُبر الخطاب بمثابة خروج عن الصياغات التقليدية التي تعدد التحديات والمشكلات، ليعتمد لغة العهود والوعود والالتزامات، وأكثرها تعبيراً كان «عهدي إلى اللبنانيين أينما كانوا، وليسمع العالم كله أن اليوم بدأتْ مرحلة جديدة من تاريخ لبنان وسأكون الخادم الأول للحفاظ على الميثاق ووثيقة الوفاق الوطني وأن أمارس صلاحيات رئيس الجمهورية كاملة كحَكَم عادل بين المؤسسات».
وحرص قائد الجيش على أن يخاطب في كلمته الداخلَ المتعطّش لـ«مشروع إنقاذ» والذي انفجر فرحاً وأملاً بعد انتخاب عون ملأ طرقاً وساحاتٍ، والخارج الذي منحه رصيداً كبيراً، راسماً معالم خريطة طريق لعمل سريع يُطمئن المجتمعين العربي والدولي حيال ملفات أساسية، ويضع البلاد سريعاً على سكة نهوض سيبدأ مع تشكيل حكومة يُنتظر أن تنطلق مسيرة تأليفها قريباً جداً مع تعهّد الرئيس الجديد تحديد موعد سريع لاستشارات التكليف.
وعلى وقع تصفيق متكرر من النواب للرئيس المنتخب الذي شدد على أن «لا حصانات لمجرم أو فاسد ولا وجود للمافيات ولتهريب المخدرات وتبييض الأموال»، مؤكداً «حق الدولة في أن تحتكر حمْل السلاح»، عَكس الترحيب العربي والخليجي والدولي الكبير بانتخاب قائد الجيش حجم الزخم المرتقب أن يُحدثه هذا التطور على صعيد التسريع في انتشال لبنان من حفرته السحيقة.
السندات تواصل الصعود
واصلت السندات اللبنانية ارتفاعها المستمر منذ ثلاثة أشهر بعد أن انتخب البرلمان قائد الجيش العماد جوزف عون رئيساً جديداً.
وصعدت معظم السندات الدولية للبنان بعد الإعلان عن فوز عون لترتفع بما بين نحو 1.3 و1.7 سنت خلال يوم أمس، وتصل إلى نحو 16 سنتاً للدولار.
وسجلت سندات لبنان ارتفاعاً بشكل يومي تقريباً منذ أواخر ديسمبر، لكنها تظل ضمن أقل السندات الحكومية سعراً في العالم، وهو ما يعكس حجم الصعوبات التي يواجهها الاقتصاد.
ومع استمرار تعافي الاقتصاد من الانهيار المالي الحاد الذي يعود إلى عام 2019، يحتاج لبنان بشدة إلى الدعم الدولي لإعادة الإعمار بعد حرب يُقدر البنك الدولي أنها كبدت البلاد خسائر تبلغ نحو 8.5 مليار دولار.