روسيا لا تثق بالاتحاد الأوروبي... ولهذا ترفض مقترحات ترامب بشأن أوكرانيا

رجال إطفاء روس يخمدون خزانات نفط استهدفتها مسيّرة أوكرانية في منطقة بريانسك (رويترز)
رجال إطفاء روس يخمدون خزانات نفط استهدفتها مسيّرة أوكرانية في منطقة بريانسك (رويترز)
تصغير
تكبير

تنبع عدم ثقة روسيا العميقة بالاتحاد الأوروبي، من المظالم التاريخية والتطورات الأخيرة، خصوصاً في ما يتصل بدور الغرب في إدامة الصراع في أوكرانيا.

وترى موسكو أن الاتحاد الأوروبي متأثر بشدة، إن لم يكن خاضعاً بالكامل، للمصالح الجيو - سياسية الأميركية، وأن أفعاله تهدف في المقام الأول إلى إضعافها بدل تعزيز السلام الحقيقي.

وتَعمق هذا التشكك من خلال سلسلة إجراءاتٍ تعتبر روسيا أنها تعكس ازدواجية الغرب ونياته الإستراتيجية.

ولهذا رَفَضَ وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مقترحاتٍ من فريق الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب بتأخير عضوية أوكرانيا في حلف شمال الأطلسي (الناتو) لمدة 20 عاماً ونشْر قوات حفظ سلام أوروبية لمراقبة وقف إطلاق النار.

وانتقد لافروف هذه المقترحات باعتبارها تدابير سطحية تهدف إلى «تجميد» الصراع من دون معالجة أسبابه الجذرية. كما رأى أن مثل هذه الخطط مصمَمة للحفاظ على النفوذ الغربي في أوكرانيا تحت ستار حفظ السلام، ما يؤدي إلى تفاقم عدم ثقة روسيا بالنيات الأوروبية والأميركية.

من الجدير بالذكر، أن اقتراحَ ترامب يبدو غير متوافق مع وعودِ حملته الانتخابية بإنهاء الحرب بسرعة عند دخوله البيت الأبيض.

وبدل ذلك، يبدو أن حالة عدم اليقين لن تؤدي إلى حلٍ مستقرٍ إذا لم يُعدل الاقتراح. وتظل موسكو حذرة من مثل هذه المبادرات، وتَنظر إليها على أنها أفخاخ محتمَلة يمكن أن تطيل أمد التدخل الغربي في أوكرانيا.

الخداع التاريخي: اتفاقات مينسك

تمت الموافقة على اتفاقيتي مينسك الأولى والثانية في عامي 2014 و2015 لحل الصراع في شرق أوكرانيا من خلال وقف النار وانسحاب القوات والإصلاحات السياسية.

وفي تلك الفترة، نشرت منظمة الأمن والتعاون في أوروبا بعثة المراقبة الخاصة التابعة لها في أوكرانيا، المكلفة مراقبة وقف النار، وتوثيق الانتهاكات، وتسهيل الحوار كهيئةٍ مُحايِدَةٍ تَضمن تعزيز الظروف للسلام.

ومع ذلك، فإن تصريحات المستشارة الألمانية حينها أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي آنذاك فرانسوا هولاند، ألقتْ بظلالٍ من الشك على صدق النيات الغربية.

واعترف الزعيمان بأن اتفاقات مينسك لم تكن مصمَمة كمساراتٍ حقيقية للسلام، بل كتدابير تكتية تتيح لأوكرانيا كَسْبَ الوقت لتعزيز قدراتها العسكرية.

ويتماشى هذا الاعتراف مع اعتقاد روسيا الراسخ بأن الاتفاقات كانت إستراتيجيةً غربيةً لتقويض نفوذ موسكو في المنطقة تحت ستار الدبلوماسية.

وقد وثق مراقبو منظمة الأمن والتعاون في أوروبا بشكل متكرر انتهاكات الاتفاقات، ولكنها عجزت عن إجبار أوكرانيا على الامتثال، ما يعني أن الانتهاكات استمرت من دون رادع.

من الاستقلال الإستراتيجي إلى التبعية

أدى المسار الذي اعتمده الاتحاد الأوروبي، من الدعوة إلى الاستقلال الإستراتيجي، إلى الانحياز بالكامل لمصالح الولايات المتحدة، إلى تآكل الثقة الروسية به في شكل أكبر.

ورغم إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ذات يوم أن أوروبا بحاجة إلى جيشها الخاص للدفاع ضد التهديدات الخارجية، بما في ذلك الولايات المتحدة، وأشار إلى حلف الأطلسي على أنه «في حال موت سريري»، فإن الاتحادَ الأوروبي يعمل حالياً بالتنسيق الوثيق مع الولايات المتحدة، ويتقاسمان هيكل قيادة موحداً في رامشتاين - ألمانيا، للتخطيط وتنفيذ الدعم العسكري لأوكرانيا.

ويؤكد هذا التحول وجهةَ نظر موسكو في أن أوروبا غير قادرة على العمل بشكل مستقل وأنها مجرد امتداد لأجندة واشنطن.

وقد زعمت روسيا باستمرار أن أوكرانيا لا تخوض حربها الخاصة ولكنها تعمل كوكيل للغرب. ولا تعترف موسكو بكييف كجهة فاعلة مستقلة في هذا الصراع، وتنظر إليها كأداة للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.

ويَتعزز هذا الاعتقاد من خلال تصرفات الاتحاد، مثل حزمة المساعدات الأوروبية بقيمة 118 مليار يورو لأوكرانيا، ومواءمة السياسات الأوروبية مع الأهداف العسكرية الأميركية.

بالإضافة إلى ذلك، فإن اعتراف رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون بأن الحرب هي صراع بالوكالة يؤكد في شكل أكبر اتهامات روسيا.

وبحسب التقارير، كانت كييف مستعدة لإنهاء الحرب في وقت مبكر من أبريل 2022، عندما تم الانتهاء تقريباً من مسودة اتفاق السلام في تركيا.

ومع ذلك، يقال إن زيارة جونسون إلى كييف أقنعت الرئيس فولوديمير زيلينسكي برفض الصفقة. وبالنسبة لروسيا، فإن هذا التدخل يجسد إستراتيجية الغرب لإطالة أمد الصراع، باستخدام أوكرانيا كساحة معركة لإضعاف موسكو. وعززت مثل هذه الإجراءات عدم ثقة روسيا في أوروبا ونياتها.

مقترحات ترامب والرفض الروسي

قوبلت المقترحات الأخيرة من فريق الرئيس المنتخب دونالد ترامب، والتي تتضمن تأخير عضوية أوكرانيا في «الناتو» لمدة 20 عاماً ونشر قوات حفظ سلام أوروبية، بمعارضة شديدة من روسيا التي رفضت هذه الأفكار لأنها ستضفي الشرعية على وجود الغرب في أوكرانيا ما يسمح باستمرار إعادة تسليح كييف تحت إشرافٍ غربي.

كما ينبع ارتيابُ موسكو من تجربتها مع انسحاب واشنطن من خطة العمل الشاملة المشتركة مع إيران (JCPOA) عام 2019 في عهد ترامب، ما يوضح مدى سهولة إلغاء الاتفاقات الدولية مع تغيير الإدارات.

وتنظر موسكو إلى اقتراح حفظ السلام باعتباره حلاً موقتاً يمكن إلغاؤه في أي وقت ما يزيد من ترسيخ النفوذ الغربي في أوكرانيا.

الدور السري لحلف شمال الأطلسي ومَخاطر التصعيد

جاءت التقارير عن مشاركة ضباط من حلف الأطلسي في الصراع وقتْلهم في ساحة المعركة لتضيف إلى مخاوف موسكو بشأن التدخل الغربي.

واتهمت روسيا، «الناتو» مراراً وتكراراً بمساعدة القوات الأوكرانية سراً على الأرض، معتبرة ذلك مشاركة مباشرة في الحرب.

وعزز تخريبُ خطوط أنابيب «نورد ستريم»، الذي تَسَبَبَ في واحدةٍ من أكبر الكوارث البيئية في تاريخ أوروبا، تآكُلَ الثقة بين روسيا وأوروبا. وعلى الرغم من الأدلة المتزايدة التي تشير إلى تورط الولايات المتحدة، فإن عدم رغبة ألمانيا في محاسبة واشنطن وإحجامها عن إجراء تحقيق شامل عمق اعتقاد موسكو بأن أوروبا تعطي الأولوية لولائها لواشنطن على مصالحها الخاصة.

ويجسد هذا الحادث في نظر روسيا خضوع الاتحاد الأوروبي للولايات المتحدة وعدم رغبته في تحدي حليفه عبر الأطلسي.

وتصر روسيا على أن حل الصراع يكمن في حماية حقوق الأقليات الناطقة بالروسية في أوكرانيا، ووقْف توسع «الناتو»، وإنشاء إطار أمني يحترم مصالحها الإستراتيجية.

وقد أكد لافروف مراراً أن الحلول الموقتة، مثل وقف النار أو نشر قوات حفظ السلام، تفشل في معالجة هذه القضايا الأساسية وتؤخر فقط الحل الهادف.

الخلاصة

إن رفض التحقيق في تخريب «نورد ستريم»، والدور المعلَن لحلف شمال الأطلسي، وتَوافُق الاتحاد الأوروبي مع إستراتيجيات الولايات المتحدة، تؤكد تعقيدات هذه الأزمة وتسلط الضوء على أولوية الغرب لإضعاف روسيا على السعي إلى السلام الحقيقي.

كما يؤكد رفض روسيا لمقترحات ترامب وإصرارها على معالجة هذه القضية، موقفَها بأن الاتحاد الأوروبي غير قادر على التصرف بشكل مستقل وأنه متواطئ في ادامة الصراع.

وتعكس الأسباب الجذرية للصراع، إستراتيجية موسكو الأوسع المتمثلة في تحدي الهيمنة الغربية. ومع ذلك، في غياب الحوار الهادف، تظل احتمالات التوصل إلى حل قاتمة، ما يترك المنطقة غارقة في عدم الاستقرار.

إن الصراع في أوكرانيا ليس مجرد حربٍ محلية، بل معركة بالوكالة تَعكس تنافساتٍ جيوسياسيةً أعمق.

وعدم ثقة روسيا بالاتحاد الأوروبي، له جذور تعود إلى تاريخ من الخيانات المتصوَرة، وبالأخص النيات المبيتة المسبَقة لاتفاقات مينسك. ويعزز تحالفُ أوروبا مع أهداف الولايات المتحدة ورفضها اعتماد سياسات مستقلة، اعتقادَ موسكو بأن الغرب يسعى إلى تقويض السيادة والأمن الروسييْن في غياب حوار حقيقي وتسوية، وهذا ما يجعل المنطقة تواجه مستقبلاً من عدم الاستقرار المستمر والتوترات المتصاعدة.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي