جنبلاط أودعه «وصايا» لتنقية العلاقات والذاكرة بين بيروت ودمشق
الشرع أطلّ بربطة عنق... رسم ملامح سورية الجديدة وطَمْأن لبنان
في الشكل والمضمون، اكتسبتْ زيارةُ الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط لدمشق ولقائه القائد العام للإدارة الجديدة في سورية أحمد الشرع دلالاتٍ استثنائيةً، تقاطَعَتْ فيها الأبعادُ الاستراتيجية للتحوّل الهائل في «بلاد الشام» التي «نفضتْ» عنها أكثر من نصف القرن من «حُكْمِ الأسديْن»، مع رمزيةِ ما ومَن يمثّل الزعيمُ الدرزي، لبنانياً وعربياً، وموقعه في التركيبة الداخلية بامتدادها الإقليمي و«دوره الثابت» مهما تَبَدَّلَتْ الأحوال و«دارت دورتَها».
فمن قصر الشعب في دمشق، أطلّ على العالم «الشرع الجديد» ببزة سوداء وربطة عنق خضراء اعتُبرت إشارةً «مشفّرة» إلى تغييرٍ ليس فقط في صورة «هيئة تحرير الشام» وقائدها، الذي لطالما انطبع إما بثيابه العسكرية و إما المدنية (بدايةً مع عمامة أو غطاء على الرأس) لزوم محاكاة المرتكز العقائدي او الديني لمجموعته، بل أيضاً في جوهر ما يَراه ويرسمه لـ «سورية القادمة» ومستقبلها السياسي بما يُطَمْئن جميع مكوّناتها بمن فيهم الأقليات، مع ما لذلك من تأثيراتٍ لجهة التبديد المتدرّج لقلَقِ المجتمع الدولي من أن تنزلق «بلاد الشام» نحو مسارٍ متشدّدٍ في الحُكْم يُستولد في كنف الخَلفية التي انطلق منها الجولاني في بدايات الثورة.
ومن على التلة المُشْرِفة غرب العاصمة السورية ومن قلب القصر الذي كان رمزاً (منذ الثمانينات) لـ «الزمرة الحاقدة» التي حكمت سورية، خاطب الزعيم الدرزي الشرع وأودعه ما يشبه «الوصايا» لعلاقاتٍ سويّة بين بيروت ودمشق تقوم على حُسن الجوار وتنقية الذاكرة ومعاودة صوغ ما أمكن من الاتفاقات المعقودة بين البلدين خلال حُكم الأسد وإلغاء ما لا يمكن «إصلاحه»، إلى جانب ملف النازحين السوريين وضمان عودتهم الكريمة وضرورة متابعة البحث عن اللبنانيين المفقودين والمخفيين قسراً في سورية وضبْط المعابر الحدودية بين البلدين، وبت قضية مزارع شبعا المحتلة وحسم هويتها، لبنانيةً أو سورية.
وفي أول زيارة له لدمشق منذ العام 2011 أي بعد نحو 14 عاماً رَفَع خلالها شعار «الانتظار على ضفة النهر ريثما تمر جثة عدوي من أمامي»، مناصراً الثورة السورية ومترقّباً «عدالة القدَر» لمَن اغتالَ والده كمال جنبلاط ومَن كان حَجَرَ الزاوية في المنظومة الأمنية التي اغتالت أو وفّرت «البيئة الحاضنة» لاغتيال كوكبة من قادة «ثورة الأرز» في لبنان بدءاً من الرئيس رفيق الحريري، حَمَل جنبلاط معه هدية إلى الشرع عبارة عن كتاب عن جدّه الأمير شكيب ارسلان.
وجنبلاط، الذي رافقه شيخ عقل طائفة الموحّدين الدروز سامي أبي المنى ووفد من «اللقاء الديموقراطي» و«التقدمي» وأفراد عائلته، تقدّمهم نجله النائب تيمور جنبلاط، حرص في كلمته التي ألقاها خلال لقاء الشرع (على مدى نحو نصف الساعة) والذي استبقه باجتماعٍ مع رئيس الحكومة الانتقالية محمد البشير (استمر نحو ساعة) على تحديد الإطار الناظم لعلاقاتٍ بين لبنان وسورية تمنى «ان تعود الى الأصول الطبيعية من خلال العلاقات الدبلوماسية والسفارات، وأن يُحاكَم كل الذين أجرموا بحق اللبنانيين من بعض المجرمين السوريين».
كما تمنى «أن تقام محاكمات عادلة للذين أجرموا بحق الشعب السوري، وأن تبقى بعض المعتقلات مثل صيدنايا أو تدمر متاحف للتاريخ كي لا ينسى هذا الشعب والأجيال القادمة ما قامت به هذه الزمرة الحاقدة»، معتبراً «أن الجرائم بحق الشعب السوري تشابه جرائم غزة أو البوسنة والهرسك وغيرهما، وهي جرائم ضد الانسانية، وأعتقد أن من المفيد أن نتوجه الى المحكمة الدولية كي تتولى هذا الأمر، بمساعدتكم طبعاً».
وأضاف: «من جبل لبنان من جبل كمال جنبلاط نحيي هذا الشعب الذي تخلص من الاستبداد والقهر التحية لكم ولكل من ساهم في هذا النصر (...) الطريق طويل. نعاني وإياكم من احتلال وتوسع إسرائيل، وعلينا معالجة هذا الأمر كل على طريقته. وفّقكم الله، عاشت سورية أبية حرة، وعاش لبنان».
ولم تقلّ كلمة الشرع أهميةً، وهو ضمّنها جانباً وجدانياً في معرض تعداد ارتكابات النظام المخلوع بحق اللبنانيين «بحيث عندما نتحدث إلى آل جنبلاط نقول الله يرحم كمال جنبلاط الذي قتله النظام السوري، وحين نتحدث مع آل الجميل نقول رحم الله بشير الجميل الذي اغتاله النظام السوري، وعندما نتكلم مع آل الحريري نقول الله يرحم رفيق الحريري الذي قتله النظام السوري».
وأكد أن تدخّل النظام السوري في الشأن اللبناني كان سلبياً على مدى العقود الماضية، مشيراً إلى أن «سورية الآن تقف على مسافة واحدة من جميع الأطراف في لبنان، ولن تكون في حالة تدخل سلبي كما كان في السابق».
وفي حديثه عن المرحلة المقبلة، قال: «سورية دخلت مرحلة جديدة في بناء الدولة والابتعاد عن الثأر، ونحترم سيادة لبنان ووحدة أراضيه وأمنه»، متمنياً أن «ينتهي الانقسام الطائفي في لبنان وأن تحل الكفاءات مكان المحاصصة»، ومؤكداً «أن لبنان يمثل عمقاً استراتيجياً وخاصرة لسورية، ما يستدعي بناء علاقة إستراتيجية وثيقة بين البلدين».
وشدد على أن سورية «لن تنصر طرفاً على آخَر في لبنان»، مجدداً التزامه باحترام تنوع الطوائف والثقافات في المنطقة، ومؤكداً أن الإسلام في سورية «يحمي حقوق جميع الطوائف والملل (...) ومع اعتزازنا بثقافتنا وبديننا وإسلامنا... لا يعني وجود الإسلام إلغاء الطوائف الأخرى، بل على العكس هذا واجب علينا حمايتهم. واليوم نحن نقوم بواجب الدولة في حماية كل مكونات المجتمع السوري».
وشدد على «أن معركتنا أنقذت المنطقة من حرب إقليمية كبيرة وربما حرب عالمية»، لافتاً الى «أن الميليشيات المدعومة من إيران فرقت السوريين وبقاءها في سورية كان مصدر قلق للجميع».
وأضاف: «للأسف دمشق الحضارة وصلت الى أن تكون رهينة بيد بعض الميليشيات من شذاذ الآفاق، أسماء لم نسمع بها من قبل ومشاهد لم نرَها من قبل. أهل الشام لم يتعودوا سماع هذا الخطاب، هم مسالمون وأبسط من أن يدخلوا في نعرات تاريخية وطائفية. أحداث وقعت قبل 1400 عام، ما علاقتنا بها؟ يأتي أناس ليثأروا من أهل الشام، لحدث تاريخي حصل قبل 1400 عام، أي عقل هذا؟ وما علاقتنا بالموضوع»؟.
وتابع: «لسخرية القدر أن ترى أن هناك مَن يستغلّ حالة فقهية أو شرعية ليلامس عواطف الناس بعناوين ليحتلّ أراض وبلدان... القضية الفلسطينية من جهة، وقضية فقهية من جهة، والنتيجة تكون سقوط عواصم عربية بيد دولة مثل إيران».
وفي شأن مصير اللبنانيين المعتقلين والمخفيين في السجون السورية، طلب الشرع من الحكومة اللبنانية «إرسال لائحة بالأسماء لنتابع الملف عن كثب».
قاعدة جديدة لفلسطينيي سورية في يد الجيش اللبناني